مجلة الرسالة/العدد 257/فلسفة التربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 257/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1938



تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 19 -

(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما

تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار

علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت

إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال!

(أحمد أمين)

(للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية، هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون!)

(هكسلي)

9 - خريج اليوم

عرضت عليك في المقال السابق صورة لعقلية خريج اليوم وما فيها من ضيق ونقص وجمود والتواء. وأحب اليوم أن أعرض عليك صورة أخرى لعاطفته بنواحيها الدينية والذوقية والخلقية لتتبين أنها مشوبة كذلك بألوان كثيرة من الشذوذ والانحراف

1 - العاطفة

وأحسب أنك تعلم جدارة العاطفة في حياة الإنسان، وأنها تلي (العقل) مباشرة في الخطورة والأهمية، وأن الحياة بدونها صحراء لا ماء فيها ولا شجر؛ ولذلك نراهم يحرصون الغرب على صقلها وتهذيبها وتهيئتها لأن تكون خير سند للعقل السليم والخلق القويم والذوق الجميل، وخير معين يروي ظمأ الحياة ويسمو بها فوق الأدران والشهوات، ويجعل نصيبها من الإنسانية الرفيعة موفور القدر عظيم الدرجات!. فهيا إذاً نتحسس أثر (العاطفة) في خريجينا لنرى إلى أي حد قد نجحت مدارسنا في تكوين هذه الناحية الخطيرة من نواحي التربية والتعليم

(أ) الدين

والدين كما تعلم من أقوى مظاهر العاطفة، ومن أبعدها أثراً في خلق الجماعة والفرد، ومن أعظمها قدراً في تقدم الأمم وتأخرها. ولذلك قد عنيت الحكومات بنشره وتلقينه ودراسته واهتمت بجعله جزءاً أساسيا في برامج التعليم الديني والمدني كيما يخرج النشء متمسكاً بدينه عارفاً لربه عاملاً بفضائل الكتب الدينية وأوامرها. ولكنك حين تبحث عن هذه الناحية في مدارسنا وخريجينا ترى عجباً. فالدين في المدارس المدنية ضئيل القدر سطحي النظرة، لا شأن له في نجاح التلميذ أو رسوبه، والفروض الدينية من صوم وصلاة وإحسان مهملة إلى حد بعيد مع خطورة أثرها في حياة المتخرج الحاضرة والمستقبلة،؛ ولذلك لا تعجب إذا رأيت الكثيرين من أولئك المثقفين لا يعرفون صوماً ولا صلاة ولا زكاة ولا إحساناً! ولا يدركون من دينهم إلا ألفاظاً وقشوراً، ولا يحملون له من العاطفة إلا ما لا ينفع في كثير ولا قليل. ولا تعجب كذلك إذا وجدت بين المصلين من يصلي دون أن تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، ودون أن تصده عن الكذب والرياء والتملق والادعاء مما تزدحم به حياة الدواوين وغير الدواوين على السواء!. ثم لا تجزع بعد هذا إذا تلمست الصبر والثقة بالله والاتكال والاحتمال في خريجينا دون أن تجد منها إلا أشباحاً متضائلة وصوراً متزايلة. وإذا تساءلت عن الزواج فسمعت من يقول لك ما ضرورته وما جدواه والأزمة شديدة والنساء كثيرات!! نعم لا تجزع يا عزيزي ولا تعجب فتلك جميعاً صدى لهذه التربية المدنية التي تغفل الدين وتهتم بالحشرات. . .!

أما الدين في المعاهد الدينية فأحسن حالاً وأقوم سبيلاً. ولكنك إذا شئت أن تتلمس فيه نقصاً فستجد وا أسفاه شيئاً كثيراً؛ ذلك أن خريج هذه المعاهد ما يزال مشوباً بضيق الأفق في تفكيره وتعصبه ونظرته للحياة الحديثة إلى حد هو الجمود أو ما يشبه الجمود! وما بالك بصديق لي منهم دعوته إلى رؤية قطعة من الأدب الحديث على مسرح الأوبرا أو مشهد من مشاهد التاريخ على الستار الفضي فكان جوابه أن في القرآن ما يغنيه عن رؤية كل ما في دور التمثيل والسينما؟؟ وما بالك بأئمة المساجد في القرى يتلون على الناس خطباً منبرية لا يهبطون فيها إلى مستوى عقلهم إلا فيما شذ وندر؟؟ وما بالك بتلك الروح روح التعصب الديني - ينفثها رجال الدين في الصدور فتقيم بين أبناء الوطن الواحد حاجزاً من الكراهية وعدم الثقة والمقت والازدراء؟ وأخيراً ما بالك بذلك الصدر الضيق لا يتسع للنقد ولا للاجتهاد، وبتلك البدع الدينية الكثيرة التي ليست من الدين في شيء، وبهذه وتلك مما تعرفه أنت وتعلم أنه يغضب الله والرسول؟؟

تلك يا عزيزي نتيجة التعليم الديني في معاهدنا قد عرضتها عليك في شيء من الجرأة والحياء فهلا ترى أنها نتيجة أليمة تحتاج إلى التعديل السريع ما دام الأمر لا يقتصر هنا على علاقة المرء بربه، بل يمتد ويمتد إلى صلة الأفراد ببعضهم وإلى رقي الدولة وانحطاطها؟؟

(ب) الأخلاق المدنية

والأخلاق مظهر قوي للعاطفة؛ فإذا هي فقدت منبعها الديني فماذا يتبقى لها غير الضمير الشخصي والاجتماعي؟؟ لنبحث إذاً في أخلاق الخريجين الموظفين منهم وغير الموظفين فسنجد كذلك عجباً. كم منهم من (يشعر بواجبه) شعوراً حقيقياً وينطلق إلى أداء هذا الواجب بإخلاص تام وهمة عالية؟؟ وكم منهم قد وضع لنفسه (مثلا أعلى) فهو يسعى لتحقيقه، ويصدر عنه في جميع أفعاله، ويتحمل الآلام في سبيل الذود عنه، ويعمل على نشره بين أهله وذويه متخذاً لنفسه في حياته رسالة شريفة يحيا من أجلها ويموت؟! الحق أناّ مصابون في هذه الناحية بأخبث الأمراض وأشنعها وأكثرها دماراً ووبالاً. وحسبك أن تنظر في قوائم الإهمال والتقصير، والتزوير والتدليس، والتلاعب والاختلاس، والأقارب والأصهار، حتى يقف شعر رأسك فزعاً ورعباً من تلك الفوضى الخلقية التي تسيطر على رجالنا وتسير بسفينتهم إلى بحر الظلمات!! ألا يختلس المختلسون آلاف الجنيهات من مال الدولة الحرام؟ ألا ينحط الخلاف السياسي إلى جرائم الإفك والزور والكذب والاحتيال؟ ألا تباع الضمائر والأقلام في سوق المال بيع الأغنام؟؟ ألا ترتفع الشكوى لأولي الشأن دون أن يسمع سامع ويستجيب مستجيب؟ ألا يتخذ الأجانب من بعض رجالنا سواعد لهم في الحكومة والشعب على السواء؟؟ ألا يصبح الرجل الحق أحياناً كاليتيم في مأدبة اللئام؟؟ ألا يميل ميزان العدل مراراً فإذا العدل ظلم والظلم عدل؟ أليس في المعلمين والأطباء والمحامين وغيرهم من يؤدي عمله أداء ناقصاً مشوهاً لا يعدل مطلقاً ما يتناول عليه من أجر؟ أليس في الموظفين من يكتم صوته ويطأطأ رأسه ويلوذ بالصمت الحقير إذا شعر أنه مهدد بمجرد النقل إلى بلد قريب فضلاً عن الخصم الحرمان؟؟ ثم ألا تذهب صيحات المصلين عندنا كصرخة في واد؟ ألا يعف شيوخ رجالنا عن كل جديد يأتي من ناحية الشبان؟ ألا تنمحي شخصيتنا المصرية في رجال الثقافة المدنية محواً أليماً؟ ألا نقلد الغرب في كل تافه حقير؟ ألا نترك صناعتنا المصرية تنتحر من أجل المظهر اللائق والبهرج المرذول؟؟ ألا يصمت الثائر منا ويمحو شخصيته ويندمج في التيار العام وكله يأس وعجز وأسى وقنوط؟؟

ذلك طرف من خلق كثير من الخريجين فهل تراه يرضيك؟ وإذا كان كل خريج زعيماً للشعب في دائرته فهل ترى للشعب زعماء صالحين؟؟ وحسبك اليوم ذلك وإلى اللقاء حيث أحدثك عن ناحية الذوق أيضاً

(يتبع)

محمد حسن ظاظا