مجلة الرسالة/العدد 256/محمد إقبال
مجلة الرسالة/العدد 256/محمد إقبال
شاعر الإسلام وفيلسوفه
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
ينتسب إقبال إلى أسرة قديمة برهمية دخلت في الإسلام منذ ثلاثة قرون. وكانت تقيم في كشمير، ثم اضطرتها الحادثات أن تهاجر إلى البنجاب. وأستقر بيت إقبال في سياليكوت من إقليم البنجاب حيث ولد سنة 1876؛ وبدأ تعليمه في هذا البلد وظهرت فيه مخايل النبوغ، وكان يسبق أقرانه ويظفر بمكافآت الحكومة التي تمنحها للنابغين من التلاميذ. وفي سيالكوت درس الأدب الفارسي والعربي على مير حسن أحد الأدباء النابهين.
ثم أنتقل الشاب النجيب إلى لاهور فدخل كلية الحكومة ولقي بها السير توماس آرنولد فأخذ عنه الفلسفة. وقد سمعت الأستاذ آرنولد يفتخر بأن إقبالاً تلميذ له. وأتم إقبال دراسته متفوقاً ظافراً بالجوائز الكثيرة. ثم نصب مدرساً للفلسفة في الكلية الشرقية بلاهور.
وقد شدا إقبال الشعر وهو تلميذ فانتظر الأدباء منه شاعراً عظيماً. وفي سنة 1905 سافر إلى أوربا فدرس في كمبردج ثم في ميونخ حيث نال درجة دكتور في الفلسفة. وكان في أوربا مثال الجد والمثابرة وموضع ثقة أساتذته. وقد أستخلفه أستاذه آرنولد حينما غاب عن كمبردج شهوراً. ولم ينس في أوربا أن يدافع عن الإسلام ويبين مزاياه فألقى في إنكلترا محاضرات في هذا الموضوع.
ورجع الدكتور إقبال إلى الهند سنة 1908 فأحسن قومه استقباله راجين فيه خيراً لأمته ودينه. وعمل في المحاماة واستعانه المسلمون في الكثير من شؤونهم. وما زال يزداد مكانة في السياسة والأدب حتى بلغ ما بلغ من المجد وذاع صيته في الهند وغيرها.
ولا يتسع المجال لتفصيل الكلام في تاريخه وسياحته في الهند والأفغان وفي الأندلس وأوربا وذهابه إلى مصر والقدس.
بدأ إقبال نظمه في اللغة الأوربية فنشر في الصحف وأنشد في المجامع قطعاً كثيرة جمعها بعد في ديوانه الذي سماه (بانك درا) أي (صوت الجرس).
ففي هذا الديوان أول أشعاره، ولكنه لم يكن أول دواوينه انتشاراً. وهذه كتب إقبال على ترتيب نشرها:
1 - أسرار خوري
2 - رموز أبن خوري
3 - بانك درا
4 - بيام مشرق
5 - زيور عجم
6 - جاويد نامه
7 - مسافر
8 - ضرب كليم
9 - بال جبريل
وقد مات وهو ينظم: أهلك حجاز
ومن هذه المنظومات السبع ثلاث في اللغة الأوردية، هي: بانك درا، وضرب كليم، وبال جبريل، والأخريات في الفارسية.
وله غير ذلك مؤلفان باللغة الإنكليزية، الأول تطور ما وراء الطبيعة في فارس، والثاني: محاضرات حاول فيها أن يبني العقائد الإسلامية على فلسفة جديدة وجعل عنوانها: إصلاح الأفكار الدينية الإسلامية.
فأما منظوماته: بانك درا، وزيور عجم، وضرب كليم، فقد ضمنها قطعاً كثيرة تبين عن مناح كثيرة من فلسفته وعواطفه يتناول فيها العالم والإنسان والأخلاق، ويحاول جهده إيقاظ الشرقيين عامة والمسلمين خاصة، وتبصيرهم بطرائق الحياة وإشعال الحماسة والغيرة والإقدام فيهم.
وأما منظومتاه الصغيرتان: مسافر وبال جبريل فقد سجل في الأولى ما أثارته في نفسه زيارة أفغانستان إذ دعاه ملكها المرحوم نادرشاه هو وبعض مفكري الهند ليستشيرهم في إنشاء جامعة في كابل، وفي الثانية مشاهده في بلاد الأندلس.
وأما جاويد تامه فهي رحلة في الأفلاك، دليله فيها جلال الدين الروسي لقي بها عظماء المسلمين من ملوك وأدباء وعلماء، ومنهم بعض رجال العصر. كالسيد جمال الدين الأفغاني وسعيد حليم باشا ومهدي السودان وقد سماها باسم أحد أنجاله جاويد، وأراد بها بناء جيل جديد.
وأما بيام مشرق فقد جعله جواباً للشاعر الألماني الكبير جوته عن ديوان الغرب الذي أسف فيه لما أصاب المدنية الغربية وتمنى أن يمدها المشرق بعقائده وعواطفه.
وإذا عبرنا هذين الكتابين عرفنا فلسفة إقبال وآراءه ومذاهبه في الحياة وخياله وفنه في الأدب:
نشر بيام مشرق سنة 1923 وكتب على صفحته عنوانه: (ولله المشرق والمغرب) وكتب تحت أسم الكتاب (في جواب الشاعر الألماني جوته). والديوان أقسام:
الأول: لاله طور: أي شقائق الطور، وفيه 163 رباعية.
والثاني: أفكار، وفيه عناوين مختلفة مثل الوردة الأولى، تسخير الفطرة وهي محاورة بين آدم وإبليس، فصل الربيع، الحياة الخالدة، أفكار النجوم، محاورة العلم والعقل، الحكمة والشعر، قطرة ماء، العبودية.
والثالث: من باقي - أي الخمر الباقية، وهي قطع متشابهة فيها نزعة التصوف ممزوجة بفلسفة الحياة.
والرابع: نقش فرنك، وفي هذا القسم يتكلم عن عظماء الفلاسفة والشعراء في أوربا ويبين رأيه فيهم.
وهذه أمثلة من شعر إقبال في هذا الديوان بعد أن تذهب الترجمة النثرية بكثير من جمالها وروائها.
الحياة
بكى سحاب الربيع في جنح الليل فقال: هذي الحياة بكاء مستمر فتلألأ البرق الخاطف:
قد أخطأت! إنها لمحات من الضحك
ليت شعري من روى للبستان هذا الحديث فهو حوار مستمر بين الندى والورد
اليراعة سمعت اليراعة تقول: لست كالنملة ينال الناس شرها؛ ولست كالفراشة تصطلي بنار غيرها، أنا أشتعل بنفسي ولا أحمل لأحد مَنّا، إذا صار الليل أحلك من عين الظبي أنرت بنفسي لنفسي الطريق
الحقيقة
قالت العقاب بعيدة النظر للعنقاء: إن الذي تدركه عيني سراب. أجابت العنقاء: أنت ترين ذلك، ولكني أعلم أنه ماء. فنادت السمكة من لجة البحر: هنا وجود لا شك فيه، وهو في هياج واضطراب.
الحكمة والشعر
ضل أبو علي في غبار الناقة، وأمسكت يد الرومي ستر الهودج. هذا غاص حتى ظفر بالجوهر اللألاء، وذلك دار مع الغثاء على وجه الماء. الحق إن لم تكن فيه حرقة فهو حكمة، وهو شعر إذا قبس من القلب ناراً
الوحدة
ذهبت إلى البحر فقلت للموج المصطخب: أنت في سعي دائم فما خطبك؟ في جيبك آلاف اللآلئ فهل في صدرك جوهر من القلب كالذي في صدري. فأضطرب وجزر ولم يحر جواباً.
ذهبت إلى الجبل فسألت: ما هذا الجمود؟ ألا ينال سمعك صيحات وآهات المحزونين؟ إن يكن العقيق الذي في أحجارك قطرات من الدم فحدثني فإني محزون
فأنقبض وصمت ولم يحر جواباً
قطعت طريقاً بعيدة. . . وسألت القمر: يا جَّواب الآفاق! هل قُدر لك في سفرك قرار؟ العالم حديقة ياسمين من شعاع وجهك، فهل نور وجهك من قلب يتجلى؟ فرأى رقباء بين الأنجم فلم يحر جواباً
تخطيت القمر والشمس إلى حضرة الحلاق فقلت: ليس في عالمك ذرة تعرفني. العالم خلو من القلب وأنا قبضة من التراب، ولكنها كلها قلب
إن هذه المروج جميلة ولكنها ليست أهلاً لنغماتي. فتبسم ولم يحر جواباً نسيم الصباح
إني آنية من صفحات البحار وقمم الجبال ولكن لست أدرى من أين أهب. إني أبلغ الطائر المحزون رسالة الربيع وأنثر في داره فضة الياسمين. وأنقلب في المرْج وألتف على أغصان الشقائق فأبعث اللون والرائحة من مسامّها، وأتعلق رفيقة رفيقة بأوراق الورد والزهر حتى لا أثقل على أغصانها، وإذا رأيت شاعراً هاجته هموم العشق خلطت بنغماته نفساً بعد نفس
العشق
عندي خبر هذه الكلمة الأخاذة للقلوب والتي هي سر وليست بسرْ. أنا أنبئك من سمعها وأين سمعها! استرقها الندى من السماء فأوحاها إلى الورد، وأخذها عن الورد البلبل، ونَثتَها عن البلبل ريح الصبا
نغمة حادي الحجاز
يا ناقتي الخطّارة ... وظبيتي المعطارة
وعدتي والشارة
والمال والتجارة ... يا دولتي السيارة!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
جميلة الرواء ... مطربة الرغاء
محسودة الحسناء ... وغيرة الحوراء
بنية الصحراء!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
كم غصت في الشراب ... في وقدة اليباب
وسرت لم تهابي ... في الليل كالشهاب
والنوم عنك نابي
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
قطعة غيم غادي ... سفينة الرواد كالحظر في البوادي ... تمضين في سداد
فلذة قلب الحادي!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
هيامك الزمام ... وسيرك الأنغام
يتعبك المقام ... لا الجوع والأوام
والسفر المدام
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
ممسية في اليمن ... مصبحة في قرن
ترين حزن الوطن ... كالخز تحت الثفن
إبه غزال الخثن!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
بدر السماء نعسا ... خلف التلال خنسا
والصبح قد تنفسا ... مزق هذا الغلسا
والريح تزجي نفساً
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
لحني دواء السقم ... والروح ملء نغمي
يحدو الركاب كلمي ... من جارح وبلسم
هلم بنتَ الحرم!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
(البقية في العدد القادم)
عبد الوهاب عزام