مجلة الرسالة/العدد 255/بين العقاد والرافعي
مجلة الرسالة/العدد 255/بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
- 4 -
الآن تحدث الأستاذ شاكر - حديثاً ما - في الموضوع الذي نحن بصدده، وإن كان حديثاً (رافعياً) على الطريقة التي بينت ما فيها من استغلاق وقصور، ولكنه على أية حال شئ غير اللمز والتعريض - وإن لم يخل منهما - فالآن يستطيع الإنسان أن يلقي باله إلى هذا الذي قيل
ولما كانت لي بقية من حديث عن الرافعي، فسأجعل نقاشي مع الأستاذ شاكر، بقية لهذه البقية في كلمة أخرى
وعدت أن أعرض من أساليب الرافعي نماذج غير ما عرضت تأخذ في نهج آخر، ولكنها تصل إلى الهدف الأول، من إثبات طبيعته كما عرفها، بالنماذج والأمثلة
وأنا ماض في طريق هذا، لا يحولني عنه ما يبدو من بعض أصدقاء الرافعي من تعريض أو إثارة؛ ولن يستفزني ما يكتبون فأحيد عن نهجي الهادئ
وطريقتي في هذا الموقف أن الرافعى قد مات، وله نوع من الأدب، فسأناقش أدبه هذا، وما يدل عليه من نفسه وذهنه نقاش الناقد المطمئن لما يقول
وله أصدقاء أحياء، فسأناقشهم حسبما يكونون هم: نقاداً أو متهجمين. ولن أخلط بينه وبينهم في الحساب، فلا ذنب للرجل فيهم، ولا تبعه علية بعد موته فيما يصنعون!
تلك طريقتي. وهي ترضيني. . .!
قلت: إن الرافعي أديب الذهن، ولكنه الذهن الملتوي المعاظل المداحل. واليوم أقول هذا، وأزيد عليه: أنه (الذهن الشكلي) الذي تلهيه الأشكال والسطوح عن الكنه والأعماق، والذي لا يلمح فرقاً بين صورة وصورة، مادام ظاهرهما متشابهاً. فإن أراد أن يطبق أمراً على أمر، أخذ في قياس الزوايا والخطوط ولم يلق باله لحظة إلى ما في طبيعة كلا الأمرين من خلاف أو زيادة ونقص في بواطن الأجزاء. وإليك البيان:
(القمر) كوكب لا يشرق إشراقه ألا في الليل والظلام، و (الحبيبة) تعود الناس أن يشبهوها بالقمر و (هي) لا تشرق إشراقها إلا في إبان (الحب) فإذا شاء الأديب أن يعقد من هذه الأطراف تشبيهاً، وجد قمراً يشرق إذا جن (الظلام) ووجد حبيبة تشرق إذا (توهج الحب) فكان لا بد من التصرف في التشبيه
ولكن الرافعي لا يتصرف؛ فما دام القمر يجلوه الظلام، فالحب إذن (ظلام) لأنه يجلو حبيبته، وسينساها متى انقطع عهد الحب وتختفي من أفقه، كما أن القمر يخفى إذا طلع الصباح. وهكذا يقول:
يا من على الحب ينسانا ونذكره ... لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
إن (الظلام) الذي يجلوك يا (قمر) ... له (صباح) متى ندركه (أخفاكا)
فأما البيت الأول فمأخوذ عن العقاد الذي لا يعجب الرافعي شعره! وأما الثاني فهو الذي يعنينا. وفيه ترى (الذهن الشكلي) الذي يستسيغ أن يجعل فترة الحب (ظلاماً) كالليل، فترة انقطاعه (نوراً) كالصباح، لا لشيء إلا لأن القمر المشبه به يشرق في الليل ويخبو بالنهار
والحب الذي هو ظلام، لا يحتاج للتعليق، فما يوجد حب في الدنيا تظلم به الأرواح ولكن الرافعي هكذا يقول. . .!
وليست هذه خطرة عابرة تلتمس لها الأعذار فإن لها أشباهاً في هذه (الخاصية)
يقول الرافعي عن (حبيبته) بعد عدة جمل مملوءة بقياس الأبعاد والجهات والزوايا:
(فكأنها في كل ذلك دائرة مرسومة من الفكر لا يهديك البحث إلى موضع طرفيه هي محيطة بروحك من ثلاث جهات فلم يبق لك إلا الجهة التي تتصل روحك منها بيد الله)
فدعك من مدلول هذا الكلام وقيمته من (إنسان يحب) أو (يصف الحب)؛ ودعك من أنه كلام ذهني لا ينبض بحياة، ولا يدل على خلجة في الشعور، أو نبضة في الضمير، ولا يتعدى أن (متكلماً) يصور في (الذهن) أشكالاً تقع أو لا تقع، ولكنها يمكن عقلاً أن توجد، كفروض المناطقة
دعك من كل هذا، وتعال وأنظر كيف يتصور الرجل العوالم الروحية، أو العوالم الذهنية. . . أنه يتصور لها جهات. ولا بد أن تكون هذه الجهات الأربعة كالموسومة في علم الجغرافيا بالجهات الأصلية، وأنه متى أحيط الإنسان بثلاث منها فلم تبقى له إلا واحدة وهي الجهة الرابعة!
ولا يتأتى له أن للحياة - ولا سيما في فترة الحب - ألف جهة وألف منفذ، وأنها تؤتى من هذه الجهات والمنافذ، ومن مسارب أخرى ومنعرجات وكُوىً ومداخل لا عداد لها. لأن الذي يتأتى له ذلك لا بد له من (نفس)، ومن (حس). أو لا بد له على الأقل من (ذهن) مشرق مرهف، لا تحده الأشكال الصماء.
على أن هناك خطأ نكشفه من باب الدعابة، (فالدائرة) ليست لها أربعة جهات كما تصور الرافعي، حتى إذا أحيط الإنسان من ثلاث لم تبقى إلا الرابعة، إنما يكون ذلك في (الأشكال) الأخرى، كالمربع والمستطيل!!
وبسبب من هذا يأخذ قوله عن الناس:
(وألبسهم على تفصيلهم قصاراً أو طوالا، كما خرجوا من شقي المقص: المجتمعين من الليل والنهار تحت مسمار الشمس)
أرأيت إلى (استيفاء (الأشكال) في التشبيهات؟ الليل والنهار كالمقص، في تفصيل الناس قصاراً وطوالا. . . لا باس! ولكنه تذكر أن للمقص المستعمل (الآن) مسماراً في وسطه فلا بد أذن من (مسمار) في المشبه؛ وهذا المسمار هو الشمس وبذلك يتم (الشكل) بالدقة بين عمل المقص، وعمل الليل والنهار، وبين تركيبه وتركيبهما مع الشمس كذلك!
ولن يخطر على بال الرافعي أن الليل والنهار وتحت الشمس من الظواهر الأزلية العميقة، وأن بناءها هكذا عمل سرمدي دائم من بدء الخليقة إلى نهايتها. أما بناء المقص فهو شكلي ووقتي؛ ليس بلازم أن يكون هكذا أبداً؛ كما أنه ليس بلازم أن يكون (التفصيل) بأداة واحدة هي المقص وهي على هذا الشكل؛ وما بين يوم وليلة تتغير الأدوات والآلات! فما تكون الشمس إذ ذاك؟
لا. لا شيء من ذلك يخطر على الذهن، ما دام الشكل مستوفي بكامل أجزائه وأوضاعه. وتلك هي العناية بتصوير الحقيقة الوقتية العارضة دون التفات إلى الحقيقة الأزلية الدائمة. وهذا ما أشرت إليه في أول المقال!
ويبدو لي أن الرافعي كان شديد الأثر في تلاميذه من ناحية (الأشكال)؛ فما هو ذا الأستاذ سعيد العريان يكتب عنه من كلمته الأخيرة بالرسالة فيقول:
(فكان يرسل عينه وراء كل منظر، ويمد أذنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويلقي باله إلى كل محاورة) فهو قد أراد بهذا أن يستوفي جميع أشكال التنبه والاستيعاب دون أن يلاحظ الصدق والواقع وما يمكن تحققه من هذه الأشكال بالنسبة لمن يتحدث عنها. ذلك أن المرحوم مصطفي صادق الرافعي لم يكن (يمد أذنه وراء كل حديث) كما يعرف من يعرفه؛ ولم تكن هذه الحاسة من أدواته في التنبه والتأمل، فكان من (الصدق) ألا تذكر دون أن يضيره هذا أو يعيبه، إذ كان هذا مما لا يعاب. غير أن أحب استيفاء جميع الأشكال والفروض هو الذي يدفع الأستاذ سعيداً إلى هذا التفصيل
وليس ذلك بقليل الدلالة على هذه الظاهرة في مدرسة الرافعي؛ وما قصدت بإثباتها أن ألمز الرجل كما قد يفهم بعض ذوي الطبائع المنحرفة، فأخلاقي - على الأقل - لا تسمح لي باللمز، ولكني أردت إثبات الظاهرة في أحد تلاميذه، بفلته عارضة غير ملتفت إليها، وهي عميقة الدلالة على اتجاه المدرسة كلها
وقد أسلفت أنني تلقيت نبأ (حب الرافعي) بكثير من الدهشة لأن (الحب) يتطلب (قلباً) وهو ما كنت أفتقده فيه.
والآن أقول: إنني بعد أن فحصت عن هذا (القلب) في (رسائل الأحزان) لم أجد له ظلاً؛ ثم وجدت هنالك رجلا لا (يفهم) عن الحب شيئاً، ولا يدرك أثره في النفس حية ولو من باب الدراسة والملاحظة
وإليك البرهان:
ليس أدل على الجهل بطبيعة الحب من تصويره ظلاماً كما مر وهو النور المشرق الذي يفتح النفس والذهن والعين على عوالم لا عداد لها ولها شطآن. فإذا جاز أن نقول من باب الدعابة: أن التشبيه هناك كان أعز من الرافعي من الحب، وإن (الصنعة حكمت) كما يقولون! فكيف نقول في تشبيه الحب بعد ذلك بالموت حين يقول:
(ولكن هناك موتاً لا ينقل من الدنيا إلى الآخرة، بل من نصف الدنيا إلى نصفها الآخر. . . وهو من أسرار الإنسانية عكس ذلك (الموت) لأنه أظهر ما خفي وهو الحب)
فما معنى أن الحب (موت عكس الموت؟) وأنه لا ينقل من الدنيا إلى الآخرة ولكن من نصف الدنيا إلى نصفها الآخر؟ العب بالألفاظ أم (شقلبة) في الأشكال؟ وعلى أية حال فأين الحب في كل صوره وأشكاله، من الموت في كل صوره وأشكاله، حتى يسوغ لإنسان أن يجد وجهاً للشبهة بين هذا وذاك؟
إن الحب من صميم الحياة بكل ذراته وآثاره؛ ولن يكون موتاً أبداً لا في الخارج ولا في الضمير. وألف سفسطة في التخريج لا تفسر اقتران الحب بالموت في (ذهن) من الأذهان! ويقول:
(وما من أحد في الأرض يستقيم طبعه على الجمع بين هم الحب وهم الحياة، فإن قام بواحد زاغ من الآخر لا يبالي به، إذ هما حقيقتان متدافعتان كتياري الكهرباء، لو أمكن شيء، من المستحيل، لما أمكن أن يطردا في سلك واحد، أطرادهما في السلكين)
هذه قولة الرافعي وهي دليل لا ينقض على أنه لم (يحس) الحب في حياته، ودليل كذلك على أنه لا (يفهم) إحساس الحب في سواه، ولا يحسن تعليل ظواهره وتفسير دوافعه، ككل ذي ذهن مشرق مستقيم
هو يرى أن الذي يحب يستخف بهموم الحياة، حتى يخيل إليه أنه نسيها. فيفهم من ذلك أن هم الحب قد طردهم العيش، لأنهما متناقضان متدافعان. وذلك في (الظاهر) وفي (الشكل) الصحيح ولكن الحقيقة الباطنة أن الحب يضاعف القوى الباطنة ويفسح في الحياة ويعمق جوانبها فتخف تبعا لذلك على النفس هموم الحياة، حتى يخيل لصاحبها ذاته أنه ينساها
فليس عن تضاد بين الهمين ولا تدافع ينشأ هذا الشعور، ولكن عن فسحة في النفس، وقوة في الحس لا تضير ولا تتبرم بهموم الحياة، لأن النفس أصبحت أكبر وأرحب منها فلا تحس بها وكل شيء نسبي بين القوه والمقاومة
وهذا هو التعليل (الإنساني) والتعليل (النفسي) الذي لا يدركه أدباء الذهن الكليل. ومن هذا النحو قوله:
(فأن في كل عاشق معنى مجهولا، لا يحده علم، ولا تصفه معرفة، وهو كالمصباح المنطفئ ينتظر من يضيئه ليضئ، فلا ينقصه إلا من فيه قدحة النور، أو شرارة النار. وفي كل امرأة جميلة واحدة من هذين)
فهكذا يتصور الرافعي أن المحب عند تهيئه للحب، يكون كالمصباح المنطفئ الخامد الهامد، وقدحة النور أو شرارة النار، إنما تأتي له من (الخارج) وليست كامنة في (ضميره). وهذا التصور يتمشى مع خواء الرافعي وسطحيته أما الحقيقة الروحية التي يفهمها ذوو (النفوس) فهي أن الحب فيض في النفس، وامتلاء في الشعور، يحس معه الإنسان أنه بحاجة إلى صلة إنسان آخر، لكي يفيض على هذا الإنسان من القدر الفائض في نفسه ويعطيه مما يزخر به شعوره؛ فالمصباح حين التهيؤ للحب لا يكون منطفئا خامدا هامدا بل يكون موقدا مشرقا يبحث عمن يفيض عليه من نوره، ويبذل له من إشراقه ووميضه. وحقيقة أن (الجميلة) التي يصادفها إذ ذاك تزيد في إشراقه وتوهجه، ولكن كما يزيد الزيت في لألأة المصباح الموقد، لا كما تصنع الشعلة في المصباح المنطفئ
وهذا هو الحب في الحياة، أما الحب في (الذهن) وحده فقد يكون ذاك!
والرافعي في زحمة الحب، وفي فيضه وأنبساطه، لا ينسى عالم الحقد الضيق، ولا رقعة الغيظ المحدودة، فتلمس في كلماته ونبراته صوت تضريس الأسنان من الحنق، وتنزى الأعضاء من الضغن، وذلك شأن غريب
نعم غريب، فقد كان مفهوما أن يبلغ به الضغن والحقد على العقاد أن يحجم عن شراء (وحي الأربعين) كما حكى تلميذه العريان، ولكن الذي لا يفهم أن تلازمه طبيعة الحقد وهو في معرض الحب والحقد تيبس في الشعور
ومن أراد أن يعرف أهم أسباب الحقد في نظر الرافعي، وأظهر دوافعه، فليعلم أنه فوقان إنسان على إنسان في النتاج الأدبي! ولعل هذا سبب ما بينه وبين العقاد! فهو يقول عن (حبيبته)
(ولو أن الله مكنها من لغة كتابه الكريم، لغص منها في هذا الشرق العربي كل كاتب وكاتبة غصة لا تساغ ولا تتنفس)
أي لو أن هذه المرأة كانت متمكنة من دراسة اللغة العربية لما كان الأثر الذي تخلفه في نفس كل كاتب وكاتبة بلا استثناء إلا الغصة التي لا تساغ ولا تتنفس
هكذا لا تسمح طبيعة الحقد الأصلية أن تتصور أن إجادة الأديب تهيئ له معجبين بأدبه، أحباء إليه، كلا، بل لا بد من الغصة في صدورهم. وأية غصة؟ هي التي لا تساغ ولا تتنفس. . .
وهكذا كان الرافعي مع العقاد! إن فلتات اللسان، تظهر كوامن الإنسان؛ وهذه فلتة كشفت عن الرافعي في أعماقه، وأرتنا أهم عناصر حقده، ولكنها ليست الوحيدة فأسمعه يقول:
(نصيحتي لكل من أبغض من حب، ألا يحتفل بأن صاحبته (غاظته) وأن يكبر نفسه عن أن يغيظ امرأة. إنه متى أرخى هذين الطرفين سقطت هي بعيداً عن قلبه، فأنها معلقة إلى قلبه في هذين الخيطين من نفسه)
أرأيت!. . . إن الحبيبة بعد انقطاع الحب، لا تتعلق بنفس من كان يحبها إلا بخيطين أثنين: غيظها له، وغيظه لها! ولا شيء وراء ذلك!
أما أن تكون معلقة بالذكريات المختلفة الألوان، وبالساعات والدقائق والثواني التي ضمتهما في عمرهما، وبالآمال المحطمة في قلوبهما، وبالفجيعة الدامية في حبهما، وبالصور المتعاقبة من إقبالهما، وإدبارهما. . . ومن. ومن. مما لا يستطاع حصره بعد أن تهدأ فورة الحب في النفس، ويأخذ المحب في الاستعادة والتذكر والإحصاء والتسجيل - أما كل ذلك فلا وجود له عند الرافعي. وإنما يوجد خيطان اثنان من نسيج واحد، هو نسيج الغيظ والغل والحقد، والتيبس في الشعور!
وبعد فقد طال الحديث، ووراء هذه الأمثلة التي ضربتها، أمثلة أخرى من نوعها، وفي كل صفحة من الكتاب أمثال غيرها فلا داعي للتكرار
على أن هناك حديثاً عن (ذوق الرافعي) في التعبير وذوقه في النقد وموعدي به كلمة أخرى
(حلوان)
سيد قطب