مجلة الرسالة/العدد 249/كلمة في أوانها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 249/كلمة في أوانها

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 04 - 1938


ليس من دأبنا أن نعرض للسياسة إلا من حيث اتصالها بالخلق أو

الأدب. والخلق والأدب موضوع السياسة العليا التي لا تتحزب ولا

تتعصب ولا تعرف تخوم المكان ولا حدود الزمن! ولكن بينهما وبين

السياسة الدنيا تفاعلاً وتبادلاً لا يفتران! فهي تؤثر فيهما وهما يؤثران

فيها؛ وهي تغير منهما وهما يغيران منها. والخلق بخاصة مساك الأمة

وملاك الأمر. ولم تؤت النهضات القومية في الشرق إلا من جهة

فساده. ذلك لأن الحال في الأمة العائدة أو الناشئة التي يخرج أهلها

وحداناً من ظلام الجهل والغفلة، أن يسعى المرء فيها ليغنى، ويغنى

ليتزعم، ويتزعم ليحكم، ويحكم ليستبد، ليطغى، ويطغى ليتأله، سلسلة

من الغرائز الجافية الرذيلة حلقاتها الشهوة والطمع والغلبة والأثرة

والجموح والبغي، يصل بينها جميعاً أنانية غالبة وفردية أصيلة. فالأهل

والأصحاب والأحزاب إنما يتعاملون بغير الحق ويتجادلون بغير

المنطق، ابتغاء الفوز من وراء الباطل، والغلبة من طريق القوة؛ لأن

(الأنا) لا يعرف (الغير)، والذات لا تدرك المعنى، إلا إذا أضاء العلم

ما حولهما فظهرت الأشخاص، وبانت الفروق، ووضحت الحقوق،

وتميزت المعالم. وحينئذ يقول كل امرئ لنفسه أول مرة: إن في العالم

ناساً غيري، وإن لهم حقاً كحقي. ومتى شعر المرء بالناس، وفطن إلى

وجود الحق، تولدت فيه معاني الإنسانية والديمقراطية والحرية والعدل،

فيصبح خالصاً للجماعة إذا سعى، وللوطن إذا تزعم، وللدولة إذا حكم.

نحن إلى اليوم لم نخرج عن ذواتنا في العمل والسياسة والحكومة. نقيس كل شيء بمقياس الفائدة الخاصة، ونحمل كل أمر على محمل الهوى الفرد، ونغلب إرادتنا على إرادة الأمة في الحق المشاع، حتى أقتنع المستريب بأننا تعلمنا الكلام ولم نتعلم العمل، وحذقنا فنون الدعاية ولم نحذق أصول الحكم، وحفظنا مصطلحات الدستور ونسينا مبادئ الشورى.

كان ذلك محمولاً والجهل غاش على العيون رائن على الأفئدة؛ أما الآن فقد تنبه الغفلان وتذكر الناسي. تنبه الغفلان إلى أن من استطاع أن يرفع المظلوم يسهل عليه أن يخفض الظالم؛ وتذكر الناسي أن له دستوراً يجعل مصدر السلطات في فم المحكوم لا في يد الحاكم. فمن ذا الذي يوسوس إليه شيطانه أن يرفع في وجه الأسود وأشبال الأسود عصا القطيع؟ ومن ذا الذي يسول له طغيانه أن يرتفع على كواهل الشعب ليقول: أنا سيد الجميع!

لقد كان لبعضكم يا زعماء الساعة أخطاء على الأمة في بعض الأمور ملكت عليها الصبر ولم تملك لها المغفرة. وقد أتاح لكم القدر العجيب هذه الفرصة لتصححوا بصواب اليوم خطأ الأمس، وتبددوا بيقين الحاضر ظنون المستقبل. فهل تدعونها تمر كما يمر أريج الطيب بالرجل الأخشم؟ إن بعضكم بلغ ساحل الحياة، وبعضكم جاوز حد الثروة، وكلكم تفرع ذروة الجاه، فماذا يخزلكم عن ابتناء المجد المؤثل وابتغاء الذكر الخالد؟

نريد أن يكون الزعيم لجنسه لا لنفسه، ولشعبه دون حزبه، ولغده قبل يومه، حتى يتذوق هذا الشعب المجهود لذة الأخوة في ظل الوطن، وعزة الحرية في كنف الدستور، وجمال المساواة في حمى الحكم الصالح.

نريد أن تلغوا سياسة الخطب، وتقصروا ألسنة الوعود، وتخفتوا ضجيج المظاهر، وتكفوا عن كرامة الناس صلف المنصب وزهو السلطان وبطر الجاه؛ فإن المصري أكره الناس للزعيم المغرور والوزير المتغطرس والنائب الأثر.

نريد أن تفتحوا لمصر عهداً جديداً من الهدوء والاستقرار، تدخلونه في ثياب الإحرام صدوركم نقية من أحقاد الحزبية، ونفوسكم بريئة من شهوات العصبية، وميولكم نزيهة عن خسيس المطامع، فتصرفون القوى إلى الإنتاج، وتوجهون الجهود إلى الهدف، وترصدون ملكات الأمة وكفاياتها لطرد الجهل منها، ودفع الفقر عنها، ومعالجة المرض فيها، لتعيش كما تعيش الأمم الحية صحيحة الجسم سليمة الروح متماسكة الوحدة.

إن الوزارة متسقة الأعضاء متحدة الهوى، وإن المعارضة نزيهة الأغراض مريرة القوى، وإن الأحزاب متقاربة الميول مستقلة الرأي، وإن الأمة يقظة الفؤاد كلوءة العين، وإن العرش من وراء كل أولئك محيط، يقوم الصعر، ويسدد الخطى، ويرقب الأمور، ويجمع الهوى الشتيت. فهل آن لنا أن نحيا حياة العاملين الأعزة في وطن صريح الاستقلال قوى الشوكة، لا سلطان لقوة خارجية عليه، ولا سيادة للغة أجنبية فيه، ولا استبداد لشركة أوربية به. وهل آن لنا أن نتمتع بحرية مهذبة الأطراف مأمونة السفه، ينعم الفرد فيها بنفسه، ويأمن بها على رأيه، في مجتمع راقي الطبقات مثقف النواحي، يؤلف نافره الخلق، ويرفه حياته الحب، ويؤويه إلى كنفه إله وعلم وملك؟

أحمد حسن الزيات