مجلة الرسالة/العدد 247/مقالة تذكارية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 247/مقالة تذكارية

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 03 - 1938



ابن سينا

بمناسبة انقضاء تسعمائة سنة على وفاته

للدكتور زكي علي

في سنة 1932 خطر لكاتب هذه السطور بينما كان يقوم ببعض الأبحاث في معهد تاريخ الطب بفينا أن يُحيي ذكرى طبيب الإسلام الأشهر (ابن سينا) في الوقت المناسب بنشر بعض الرسائل العلمية عن حياته في المجلات الطبية وغيرها.

وجرى وقتئذ بيني وبين الأستاذ ماكس نويبرجر - وهو من أشهر علماء تاريخ الطب اليوم - حديث في هذا الشأن لفت نظري في سياقه إلى رسالة لأحد الأطباء من الأتراك الكماليين حاول فيها أن ينسب ابن سينا إلى العنصر التركي تمشياً مع نعرة الجنس التي تغلغلت في تركيا الكمالية وشوّهت في كثير من الأحيان وجه الحقائق التاريخية تبريراً لغاية قومية.

وقد نشرت (الرسالة) في أحد أعدادها في الصيف الماضي نبأ مؤداه أن جامعة استنبول احتفلت بإحياء ذكرى (ابن سينا) أنبغ طبيب في الإسلام. ولما كان ابن سينا فارسي الأصل فقد أراد الكماليون بعملهم هذا تجريده من فارسيته وإقامة الدعوى الباطلة على انه ينتمي إلى الجنس التركي، وبذلك تكون عبقريته النادرة من مفاخر القومية التركية؛ وفي هذا افتيات على التاريخ والعلم لا تبرره العصبية الجنسية.

يلقب ابن سينا في الشرق (بالشيخ الرئيس) وفي الغرب (بأمير الأطباء) حيث عرفته أوروبا باسم واسمه الكامل أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، وقد اجمع المؤرخون على اعتبار شخصيته إحدى الظواهر الفكرية العجيبة التي سجلها تاريخ الطب والفلسفة كما أنه من اعظم العلماء الذين أنجبهم الشرق إذ جمع في نفسه شخصية الطبيب والفيلسوف والشاعر والفلكي والسياسي والعالم بطبقات الأرض، وبلغ بذلك ذروة النبوغ وقمة الشهرة بين علماء الإسلام شرقاً وغرباً؛ وحسبك ما ذكره عنه الطبيب المؤرخ الأمريكي كامستون إذ قال: (يعتبر ابن سينا معجزة من معجزات العقل الراجح ويجوز أنه لم يسبقه ولم يظهر بعده من العلماء من يدانيه في حدة الذكاء وسرعة نبوغ العقل بالنسب للعمر مع عزم ونشاط لا يعرف الملل وهمة شاسعة الحدود).

ولد ابن سينا بقرية تسمى (أفشنة) بالقرب من (حرميثن) من أعمال بخارى وذلك سنة 980م (370هـ) وكان أبوه من بلخ ثم انتقل إلى مملكة بخارى في زمن نوح بن منصور من الدولة السامانية وكانت يومئذ غاصة بالعلماء فوجهه أبوه إلى من حفَّظَه القرآن وعلوم الأدب.

وظهرت بوادر نبوغ ابن سينا وعبقريته منذ الطفولة فما بلغ العاشرة من عمره حتى حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ودرس النحو والأدب والفقه، ثم تعمق الفتى في دراسة شتى العلوم بحماسة وجد بالغين، فأتى على منطق أرسطو وفلسفته وأكب على تحصيل الهندسة والطبيعة والفلك فأتقن ذلك كله ولم يتجاوز السادسة عشرة. وكان من نعومة أظافره يحس من نفسه ميلاً خاصاً إلى دراسة الطب فأقبل على تعلمه بسرعة غريبة إذ أكمل معارفه فيه واشتهر أمره كطبيب بارع ونطاسي ماهر بعد أن جاوز عمره الثامنة عشرة بقليل. وصادف إذ ذاك أن مرض السلطان نوح بن منصور حاكم بخارى لذلك العهد ورأى أطباؤه أن يستشيروا ابن سينا في أمر معالجته، فأستدعى صاحب الترجمة فأشار بعلاج حاسم كان فيه شفاء السلطان فأحسن مكافأته وسمح له بالإطلاع على نفائس مكتبته الخاصة التي حوت كثيراً من الكتب العلمية النادرة فوعى ابن سينا زبدة ما فيها وعكف على الدرس والبحث سنوات ما كان يذوق فيها طعم النوم إلا غراراً، ومما قاله عن نفسه: (لازمت العلم وكنت كلما أحار في مسألة ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى يفتح لي المنغلق منه ويتيسر المتعسر. وكنت أشتغل ليلاً في داري بالكتابة والقراءة فإن غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليّ قوتي ثم أرجع إلى القراءة، فإن غلبني النوم حلمت بالمسائل التي كنت أعالج حلها حتى إن كثيراً منها اتضح لي بالمنام).

وأخذ ابن سينا في التأليف وهو في الحادية والعشرين من عمره فصنف موسوعة علمية ضمنها كثيراً من العلوم الطبيعية وكتب في الفلسفة وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) عدة رسائل.

وفي غضون تلك المدة صار ابن سينا مضرب الأمثال في البراعة الطبية وذاع صيته لما أوتيه من النجاح في علاج المرضى الذين كانوا يفدون إليه من فجاج الأرض، وله في ذلك كثير من النوادر العجيبة التي تناقلها الرواة والمؤلفون.

ثم لما بلغ صاحب الترجمة الثانية والعشرين من عمره نكب بوفاة والده فانتابته بعد ذلك الشدائد، وزاد في محنته وأهواله أن اضمحلت الدولة السامانية وكانوا حماته الذين تعهدوه بالرعاية والتشجيع، فخرج من مملكة بخارى قاصداً (كركانج) عاصمة (خوارزم) التي كان يحكمها الأمير علي بن مأمون، غير أن الضيق لازمه فتنقل في البلاد شريداً ثم ألقى عصا الترحال في (جرجان) حيث كان يقصد أميرها (قابوس) الذي اشتهر بتأييده للعلماء فصادف وصوله سقوط قابوس عن عرشه وحبسه في بعض القلاع وما لبث أن مات، فتألم ابن سينا لذلك ألماً شديداً وأنشأ قصيدة قال فيها:

لما عظمت فليس مصرٌ واسعي ... لما غلا ثمني عدمتُ المشترى

ثم هام على وجهه في الآفاق إلى أن وصل أخيراً إلى (حمدان) ودخل في خدمة أميرها شمس الدولة وعالجه علاجاً ناجحاً إذ كان يشكو من مرضاً شديداً بالمعدة، فأحسن الأمير صلته وقلده الوزارة ولم تمنعه أعمال الدولة ومهام المنصب عن مواصلة نشاطه الطبي وأبحاثه العلمية، فألف في ذلك الوقت الجزء الأول من كتابه الأشهر (القانون في الطب)، وكان يقضي النهار في مباشرة شئون الدولة ويحي الليل بالمحاضرة والتدريس وإملاء المذكرات على تلاميذه، فإذا انتهى من محاضرته استبقى مستمعيه وهيئ مجلس الغناء والأُنس والموسيقى ترويحاً للنفوس من عناء الدرس.

على أن هذه الحياة الحافلة بالعلم والعمل والنشاط ما لبثت أن عصفت بها رياح الفتن السياسية ودَّس أعداء صاحب الترجمة له واتهم بأن له صلة سياسية وثيقة بأمير أصفهان وسجِن في أحد القلاع وهناك لازم التأليف. ثم إنه أفلح أخيراً في الفرار من سجنه بعد أن تنكر في زي الصوفية وقصد أصفهان حيث استقبله أميرها بكل أنواع الحفاوة والإكرام وصار موضع إكبار الجميع وصحب السلطان في كثير من غزواته إذ كان طبيبه الخاص ووزيراً للدولة وعكف على إنجاز مؤلفاته العديدة في مختلف العلوم وفي مقدمتها كتابه (القانون في الطب) الذي أذاع اسمه وخلّد شهرته في الشرق والغرب مدى ستة قرون، ودوّن كتبه في الفلسفة والفلك وعلم النفس وفقه اللغة والعلوم الطبيعية والكيماوية وغيرها، ولم ينقطع برغم هذا كله عن ممارسة مهنة الطب التي فاق فيها كل معاصريه وأوصله نبوغه فيها إلى مكانة ليس وراءها غاية.

وقد أنهكت الجهود الجبارة والعمل الشديد المتواصل قواه فمات ولم يتجاوز عمره السابعة والخمسين سنة 1037م.

ويمتاز ابن سينا بغزارة مادته الأصلية في التأليف، وتنوع العلوم والفنون التي ترك فيها آثاراً قيمة، وضخامة كثيرة من كتبه النفيسة التي كانت بمثابة دوائر معارف شاملة.

ولا جدال في أن كتابه (القانون في الطب) - وهو أهم مؤلفاته، وأضخمها إذ يحتوي على نحو مليون كلمة - الفضل الأكبر في ذيوع تعاليم ابن سينا وآرائه الطبية في كل الأقطار، ثم في بقاء تأثيره نافذاً متسلطاً على مصير الطب في الشرق والغرب مدى عدة قرون. وقد نوه الطبيب المؤرخ الإيطالي كاستليوني في كتابه (تاريخ الطب) المطبوع سنة 1931 بأن تميز (قانون ابن سينا) على كل ما سواه من كتب الطب في العصور الوسطى راجع إلى دقة ابن سينا في الشرح والتحليل بطريقة تهذيبية تعليمية بارعة، وإلى إتقان تبويبه وتقسيمه وترتيب المواضيع الطبية التي عالجها بحيث كفى الأطباء في ذلك العصر مؤونة البحث فيما عداه).

وقد دون ابن سينا في (قانونه) كل علوم الطب إلى زمنه، ونقحها وزاد عليها آراءه وملاحظاته ومشاهداته الإكلينيكية، ويقع في خمسة كتب أساسية. وبقي هذا الكتاب يدرس في جامعات أوربا زهاء ستة قرون، واستمر المرجع الأساسي في تدريس الطب بجامعتي مونبلييه ولوفان حتى ختام القرن السابع عشر.

وترجم (القانون) إلى اللاتينية في طليطلة في القرن الثاني عشر نقله جيراردي كريمونا ثم ظهرت له بعد ذلك طبعات لاتينية أخرى تعد بالعشرات. ونشرت منه طبعة عربية في روما سنة 1593، وفي بولاق بمصر سنة 1877، وظهرت له في أوربا عدة شروح، كما ترجمت أجزاء منه إلى الفرنسية والألمانية والإنجليزية وغيرها من لغات أوربا، وترجم أيضاً إلى التركية والفارسية.

وقد أحصى العلامة الألماني وستنفلد من مؤلفات ابن سينا مائة وخمسة في علوم الطب والفلسفة والدين والفلك واللغة والأدب والموسيقى والهندسة والمنطق والعلوم الطبيعية وغيرها، ونكتفي هنا بذكر أسماء بعضها: فمن كتبه التي نقلت إلى اللاتينية وغيرها من لغات أوربا، بعد (القانون) كتاب (قلب الإنسان) و (الأرجوزة في الطب) و (الشراب) و (مختصر الحيوان) و (الحجر الفلسفي) و (السماء والعالم) و (النفس) و (ما بعد الطبيعة) و (الطبيعيات) و (الكيمياء) و (المنطق) و (الحدود) و (التعريفات) و (الفلسفة الأولى).

ثم كتاب (الشفاء) في الفلسفة وترجم إلى اللاتينية بعنوان ولا يزال الأصل العربي موجوداً. وله في الفلسفة أيضاً كتاب (النجاة) و (الإشارات) ورسائل في الإنصاف والمسائل العشرين، والمباحثات، والجوهر الذي لا يتحرك، وتقسيم العلوم الفلسفية، وحد الجسم، وشرح كتاب النفس لأرسطو وما بعد الطبيعة، وكل هذه لا تزال باقية.

ومن كتبه في الفقه والتوحيد الإلهيات والجمانة الإلهية ثم له القصيدة العينية الشهيرة في النفس التي مطلعها:

هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع

وفيها يقول:

إن كان أرسلها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع

فهبوطها إن كان ضرة لازب ... لتكون سامعة بما لم تسمع

وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع

وهي التي قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع

فكأنها برق تألق للحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع

وفي المنطق كتاب الإشارة وكتاب المشرقيين ورسالة العروس؛ وله في العلوم الطبيعية والرياضية والآداب والسياسة والفقه والموسيقى واللغة العربية وعلومها مؤلفات كثيرة بعضها موجود في مكاتب أوروبا وبعضها مفقود.

وقد ترك ابن سينا وصفاً علمياً صحيحاً لتكوين الجبال، ذكره درابر ووثنجتون، واعتبره جاريسون الأمريكي مبرراً لتسمية ابن سينا (أبا علم طبقات الأرض) (الجيولوجي).

ويضيق بنا المقام هنا عن ذكر آراء ابن سينا الفلسفية ولهذا نقتصر على إيراد المهم من مشاهداته واكتشافاته الطبية.

امتاز ابن سينا على أبقراط وأرسطو وجالينوس بدقته في مناقشة الحالات المرضية ومهارته في فن تشخيص الأمراض ومبحث أسباب المرض وهو أول من وصف مرض الالتهاب السحائي (السرسام الحار) وصفاً صحيحاً وميزه عن الأمراض الحادة المصحوبة بالهذيان، وكان ذلك يلتبس على أطباء اليونان؛ كما أنه أتقن وصف سير هذا المرض والإنذار فيه. ومما يدل على دقة ملاحظاته الإكلينيكية ذكره أن التهاب البلورا (ذات الجنب) والتهاب الرئة (ذات الرئة) قد تنتج عنهما أعراض سرسامية بهيئة مضاعفات، وأن التهاب السحايا في تلك الحالات يعتبر نذيراً سيئاً إذ تعقبه الوفاة عادة.

وأجاد ابن سينا أيضاً في شرح أمراض الجهاز التنفسي، وقال بضرورة التمييز عن تشخيص ذات الجنب بين التهاب البلورا الحقيقي، وبين الالتهاب البسيط للعضلات بين الضلوع وبين التهاب المنصف الصدري (الحْيزوم) وخراج السطح الأعلى للكبد.

وأتقن ابن سينا وصف الأمراض العصبية، وبوجه خاص الأشكال المختلفة للشلل وللفالج النصفي ولشلل الوجه (اللقْوة) واهتدى إلى التمييز بين نوعي اللقْوة: المركزي والموضعي وشرح بإسهاب التشخيص التمييزي بينهما.

ومما أشار إليه ابن سينا أن المخ والعظام خلافاً لرأي القدماء قد تكون مقراً للأورام.

وكان يعالج تشوهات السلسلة الفقرية بالرد العنيف وهي طريقة أعاد إدخالها في العلاج الجراح الفرنسي كالو سنة 1896. ولابن سينا طريقة شائقة طريفة في وصف الأمراض العقلية، وله الفضل في ابتكار كثير من طرق العلاج النفساني.

وكان جالينوس يقول بأن السكتة (ضربة الدم أو النقطة) يندر أن تكون مسببة عن البليثورا وهذا خطأ، فخالفه ابن سينا وقال بالعكس، مستنداً إلى مشاهدته الإكلينيكية، بأن البليثورا من أكثر الأسباب المهيئة لحدوث السكتة.

ومما ذكره ابن سينا ولم يسبقه إليه أحد أن الحصبة أكثر ما تكون عدواها في الربيع والخريف وأنها أكثر وقوعاً في هذين الفصلين، كما ذكر أن الأطفال يصابون بها أكثر من البالغين.

ودرس ابن سينا بدقة أمراض الكبد وطريقة فحصه ووصف بمهارة أعراض اليرقان بأنواعه بما يتفق والأوصاف الحديثة؛ وشرح عند الكلام على أمراض المعدة، أعراض ضيق البّواب والقرحة المعدية وأفاض في شرح أضرار إدمان الكحول على الكبد، وعلّل السبب الفيزيولوجي لتلافيف الأمعاء. وتكلم ابن سينا طويلاً عن استطالة عنق الرحم وعن أورام الرحم وسقوطه وصلابته وعن خطر سرطان عنق الرحم.

ووصف طريقة لعلاج البواسير بالشق، وأشار عند الكلام على الذُبَيلة (تجمع الصديد في جوف البلورا أو الإمبييما) بعلاجها بالشق عليها لتفريغ الصديد، وذكر طريقة رد خلع الكتف بالضغط المباشر. وأما في علم الديدان فهو أول من وصف الدودة المعروفة باسم الفرْتيت أو العِرقْ المديني

ثم إن أوصاف ابن سينا في التشريح أكمل في بعض الأحيان من أوصاف جالينوس. وذكر بُورْتال أن ابن سينا كان ذا معرفة تامة بتشريح القزحية وإنسان العين والقناة الدمعية وأنه أول من اكتشف إندغام عضلات العين.

وقد أدخل ابن سينا في مادة الأدوية عدداً كبيراً من العقاقير الطبية التي لم تكن مستعملة من قبل.

(جنيف)

زكي علي