مجلة الرسالة/العدد 245/من برجنا العاجي
مجلة الرسالة/العدد 245/من برجنا العاجي
من أحب المطالعات إلى نفسي كتب العالم الرياضي (هنري بوانكاريه). عندي من مؤلفاته ثلاثة كتب: (العلم والطريقة) و (العلم والفرض) و (قيمة العلم). قرأتها لأول مرة منذ عشر سنوات. وأعود إليها من حين إلى حين. إنها لتسحرني كما تسحر الأطفال قصص ألف ليلة وليلة. فأنا الآن لا أقرأ كثيراً كتب الأدب. لأني أنا نفسي أصنع كتباً في الأدب. ولكني أحب أن أصغي إلى أولئك الذين يبحثون في صمت عن الحقيقة. هؤلاء الذين عندهم ما يقولون ولكنهم يترفعون عن الكلام. فإن الحقيقة التي يحاولون أن يتصيدوا شبح خطاها خلف (المكرسكوبات) و (التلسكوبات) لأروع من أن توضع في ألفاظ وعبارات. على أن ما يعنيني من كلام هؤلاء العلماء ليس الأرقام والمعادلات أي (الوسائل)، ولا يعنيني كذلك ما وصلوا إليه من (نتائج)، ولكن الذي أقرأ من أجله كتبهم هو تلك الإِشراقات الذهنية التي تلمع من خلال بحوثهم فتضيء جانباً من جوانب الفكر المهجورة. ليس العلم في ذاته هو الذي يهمني، ولكن هي (العقلية العلمية) في مصادمتها ومواجهتها للأشياء. لا شيء يلذ لي مثل مجالسة (عالم) متسع الأفق. وهذا النعت لا ألقيه جزافاً، فإن من كبار رجال العلم من هم ضيقو الأفق، أي سجناء معادلاتهم وأرقامهم، يصلون بها مع ذلك إلى نتائج باهرة في صميم العلم، ولكنهم قلما ينظرون إلى العالم الخارجي. إنما الطراز الذي أقصد، هو طراز رجل العلم المطبوع الذي يخرج بعد ذلك لينظر بعين العلم وعقلية العلم إلى الكون بمعناه الواسع. هي (فلسفة العلم). ما أريد هنا بعد هذه القراءات أن يتضح لي أنا (رجل الأدب) كيف أن مخلوقاً آخر يسمى (رجل العلم) ينظر إلى ذات الأشياء التي أنظر إليها ويفكر في هذا الكون الذي أفكر فيه ولكن بعين أخرى وعقل آخر. ومن يدري؟ لعل أكثر هؤلاء العلماء هم أيضاً لا يلذ لهم شيء مثل قراءة ومجالسة (رجال الأدب) فما الأمر في باطنه إلا شوق وحب استطلاع بين نوعين مختلفين من هذا الحيوان المفكر
توفيق الحكيم
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك - 13 -
لقد آذاني معالي السيد أرشد العمري، وكظمت غيظي فلم أسمعه ما يكره، وقلت في نفسي: إن الرجل تصور أنني أهنته فسحب مني الدعوة، والجروح قصاص
وقلت: هم سيقضون السهرة في الرقص وسأقضيها في التأليف وأنا أجد لذة ممتعة حين أراني أجد في وقت يلعب فيه الناس
وتذكرت أني أشغل مطبعتين في بغداد، وأن من الخير أن اعتكف في المنزل فأحضر بعض الوقود لجحيم المطابع
وكذلك اطمأننت إلى الزهد في ليلة بغداد التي وُعِدَ بها المؤتمرون!
ولكن ما هذه الدعوة الجديدة؟ هي دعوى لسياحة طريفة في ضواحي الكرخ وبغداد، نتفرج بها على إسالة الماء. وأنا قد أمضيت نحو خمسة أشهر محبوساً بين المكاتب والأوراق، ولم أر في بغداد غير الجادة والدربونة ودار المعلمين العالية وكلية الحقوق وما تيسر من سواد العيون
وسرت مع السائرين للتفرج على إسالة الماء وأنا أرمي إلى غرضين: الأول الترويح عن النفس، والثاني كتابة بحث لمجلة المقتطف عن تكوين الصهاريج
فهل روحت عن نفسي وأعددت مواد البحث المنشود؟
ما صنعت شيئاً من ذلك، وإنما دارت الأرض تحت قدمي حين رأيت صاحبة العينين، فكان المهندسون يشرحون الدقائق العلمية في تقطير المياه لتزويد الكرخ وبغداد بالماء النمير، وكنت أنظم الخطط لأكون دائماً بالقرب من صاحبة العينين. ومن العجيب أن أمري لم ينكشف؛ ومضى المهندسون وهم يعتقدون أنني كنت المستمع الواعي، وأن سائر المستمعين لم يفهموا إلا أن الكرخ وبغداد تسقيان من دجلة لا من الفرات
ولمثل هذه المواقف منحنا الله نعمة العقل!
ومضينا فتناولنا الشاي والفاكهة فوق العشب الأخضر وبين الأشجار التي أذوتها أرواح الشتاء، وأدير على الحاضرين صوت أم كلثوم:
على بلد المحبوب وديني ... زاد وجدي والبعد كاويني فكانت بلد المحبوب عندي هي المائدة التي تجلس عليها صاحبة العينين، ولكن أين من (يوديني) هناك؟ إن أسوان أقرب من هذه المائدة وليس بيني وبينها غير ثلاث خطوات
يا مسافر على بحر النيل ... أنا ليَّ في مصر خليل
فرمقتني صاحبة العينين بنظرة حنان. فمن الذي أعلمها أني نشأت في ديار النيل؟ من أعلمها ذلك وعلى رأسي سدارة، والمصريون كلهم مطربشون!
وهممت بالتسليم عليها، ولكن صدتني العصابة التي كانت تحرسها مني، وصدني أن مكاني كان قريباً من مكان رئيس الوزراء
ثم تقوض المجلس وانفض الناس، والدنيا اجتماع وافتراق
كيف السبيل إلى رؤية هذه الظبية في المساء؟
إنها ستكون بالسهرة البغدادية التي وُعد بها المؤتمرون
وأنا ممنوع من سهرة بغداد
ولكن من الذي يمنعني؟
هو أمين العاصمة حضرة صاحب المعالي أرشد العمري.
أهلاً وسهلاً بمعالي الأمين!
أأنت الذي يمنع الدكتور مبارك من ليلة بغداد بعد أن كتب عن مجد بغداد ما لم يكتب مثله كاتب في قديم ولا حديث؟
أنت مهندس بغداد، وأنا أديب بغداد، وسترى لمن يكون الخلود. . .
وأخذت أفكر فيما سأصنع، فهذه الظبية ستكون في المرقص وسأجد الفرصة لمخاصرتها مرة أو مرتين بعد أن يتلطف الشراب في رياضة العصابة التي تحرسها مني!
وأنا قد تعلمت الرقص في باريس وأخشى أن أنساه، وحياة العلم مذاكرته كما قال القدماء
وهل من الإثم أن أهتم بمذاكرة ما تعلمت؟ وهل أنفقت من الوقت والمال في سبيل الرقص ما أنفقت لتضيع مني فرصة من فرص بغداد؟
لابُدّ من حضور هذه السهرة.
لابُدّ مما ليس منه بُدُّ
ولكن كيف ألقى معالي أرشد العمري وهو غضبان؟ أنقف فنتناوش ونتضارب؟ وهل أرسلتني مصر إلى العراق لأصنع ما يصنع الأطفال؟
لو كانت المسألة بيني وبين هذا الرجل مسألة شخصية لضاربته وقاتلته بلا تهيب. وما أحسبه يزعم أنه أقوى مني، ولكن المسألة أني مصري وهو عراقي، وأنا أنفق دمي في خلق الصلات بين مصر والعراق، وإقامتي في بغداد أقنعتني بأن مصر لابد لها من مودة العراق، فالعراق يكاد يكون هو الشعب الوحيد الذي يسلم فيه المصريون من أذى الناس. وهذه العواطف ليست جديدة عندي، وإنما تلقيتها منذ سنة 1917 عن الأستاذ أحمد صالح حين كان يدرس التاريخ القديم بالجامعة المصرية، فقد حدثنا عن مودات صوادق أقامها لحلف الشريف بين المصريين والبابليين، وما جاز في عهد الجاهلية لا يستحيل في عهد الإسلام إلا أن نكون من الأغبياء
وتذكرت أن بغداد تحوطني بأشرف معاني العطف، وأنه ليس من الذوق أن أحرج رجلاً هو أمين بغداد، وهو أكبر مني سناً ولعله أكثر تجربة، والتحامل عليه ضرب من العقوق
وتذكرت شعار مصر وشعار العراق
أما شعار مصر فهو: (أحرار في بلادنا، كرماء لضيوفنا)
وأما شعار العراق فهو:
سيوفنا قاطعة لِلِّي يقابحنا ... ورقابنا قنطرة لِلِّي يسامحنا
وتذكرت أصل الخلاف فوجدته يرجع إلى كشف الرأس في السهرة، وأنا أكره كشف الرأس لأنه قد يجرّ إلى الزكام، وأنا مدرس، والمدرس المزكوم منظره سخيف، فما الذي يمنع من الذهاب إلى السهرة بالطربوش وهو لا يجب خلعه في السهرات
هذا حلُّ موفَّق، ولكن لابدّ من الاحتياط، والاحتياط هو أن أذهب قبل الموعد بساعة إلى مكان الاحتفال عملاً بمذهب حلفائنا الفضلاء أبناء العم جون بول، ومذهبهم هو أن تحتلّ أولاً، ثم تفاوض بعد ذلك!
كان طريقي من باب المعظَّم إلى بهو أمانة العاصمة يوحي الشعر والخيال، فقد كانت ليلة عيد، وكان القمر ينظر إليّ في ترفق كأننا في سنتريس، ولكن صدري كان مكروباً بعض الكرب. فقد كانت ليلة العيد لا تقع إلا وهي موعد غرام، وهي في هذه المرة قد تكون حومة قتال مشيت مشية المتمهل لأجتلي طلعة القمر، أو لأؤخر الشر لحظات.
فلما دخلت البهو وجدته خالياً، وكيف لا يكون كذلك وقد سبقتُ الموعد المحدد للسهرة بأكثر من ثلاثة آلاف ثانية؟ لقد وجدت البهو كالقلب الخليّ الذي تفكر المقادير في شغله بالحب، وجدته كالغادة التي تنتظر العاشق الصوال
دخلت وحدي وتلفتّ فلم أجد أحداً؛ وبعد لحظة لمحت شبح معالي الأمين وهو يتمرن على الطواف قبل قدوم الحجيج
وبعد دقائق نظرت فرأيت رجلاً يعدو إليّ عَدْواً فقلت: هذه طليعة الشر، وتأهبت للصِّيال
ولكن الرجل أخلف ظني كل الإِخلاف، فقد حياني أجمل تحية، وأخذ يدي برفق فدلني على المقصف فحسبته صديقاً قديماً أنستنيه الأيام، فقلت:
سيدي، هل لك أن تُذكرني متى تلاقينا أول مرة؟ أتراني عرفتك في القاهرة أو في باريس، ذكرني فقد نسيت!
فأجاب في لطف:
ما أذكر يا مولاي أننا تلاقينا قبل اليوم، وإنما رأيت الطربوش فوق رأسك فعرفت أنك من مصر العزيزة، وللمصري على العراقي حقوق الأخ الشقيق
فرفعت الكأس وقلت: تعيش بغداد، ويحيا العراق.!
وسألت بعد ذلك عن اسم هذا الرجل الشهم فعرفت أنه المهندس نجيب نورس الياور، وكذلك استحال على معالي أمين العاصمة أن يلقاني بغير الابتسام
نحن الآن في بغداد، في ليلة ما رأى مثلها الرشيد، وإن تَعبَ الواصفون في التذكير بليالي الرشيد. هي ليلة بغدادية لا قاهرية، لأن القاهرة حين تعرف أمثال هذه الليلة تنقلها نقلاً عن الغرب، ويختلف حولها الفقهاء؛ أما بغداد فتعرف الليالي الساهرة عن الآباء والجدود. هي ليلة سيذكرها من رآها وستحتل أقطار ذهنه إلى اللحظة التي يعاني فيها سكرات الموت؛ هي ليلة تمثل الفتوة العراقية وتذكر الجاهلين بأن الشعب الطروب لن يموت
كان الناس كلهم في سماحة الملوك، وكنت وحدي أبخل الحاضرين، فقد سألني رجل عظيم متى أرقص، فكذبت عليه وقلت لن أرقص، مع أني ذهبت إلى ناحية قَصيّة وراقصت ثلاث فتيات، وعاقرت الثغور سبعين مرة أو تزيد، وعند الكرام الكاتبين جريدة الحساب لا أدري والله ماذا صنعت في تلك الليلة، إلا حادثتين اثنتين: الأولى حين دخلت المقصف بعد الدورة الرابعة من دورات الرقص فقد ارتفعت الأصوات: يحيا الدكتور زكي مبارك! وكان الأستاذ علي الجارم بك بين الحاضرين فانتظرت أن يهتف باسمي فلم يتردد كما كنت أتوقع، وإنما هتف هتاف الصديق؛ ثم شق الصفوف إليّ فعانقني وهو يقول: أنا فرحان لك يا دكتور زكي! فرحان لك يا أخوي، فرحان لك يا حبيبي، فرحان لك يا نور العيون يا زهرة مصر في العراق
وإنما عددت هذه الحادثة لأن المواطنين لا يفرح بعضهم لبعض إلا في قليل من الأحيان
ولا مؤاخذة يا جارم بك، يا حبيبي يا نور عيوني، يا أحلى من ملح رشيد!
أما الحادثة الثانية فهي طرفة لا تقع من رجل سواي
فقد عثرت في الطواف على فتاة خشنة جافية تصلح لأن تكون مديرة لإحدى المدارس الثانوية، ولكنها لا تصلح لأن تكون غادة في مرقص، فقلت في نفسي: ما الذي يمنع من التصدق على هذه الفتاة بقبلة أو قبلتين؟
وأنا في الحقيقة (رجل إنسان) كما يعبر أهل القاهرة، أو (رجل آدميّ) كما يعبر أهل دمشق. وما أذكر أبداً أن سائلا سألني وخيبته، وأنا لا أستحي من الجود بالقليل لأنه على كل حال أفضل من المنع؛ وقد أكرمنا الله بالغنى، فمن اللؤم أن نكون بخلاء
طافت هذه الخواطر بنفسي وأنا ألمح تلك الفتاة الجافية فقلت إن ليلتي هذه لن تخلو من سيئات، ولابد من حسنة تمحو ما سأقترف من سيئات، فتوكلت على الله وأقدمت
سلمت على الفتاة فاستراحت للسلام، وإن كنت لا أعرفها ولا تعرفني
وقبلت يدها فابتسمت
فقبلت جبينها وخديها، ثم قبلت جبينها وخديها، وانصرفت
ولكني لم أكد أخطو بضع خطوات حتى سمعت رجلاً يصيح: يا دكتور مبارك! يا دكتور مبارك!
فالتفتّ مذعوراً فإذا سكرتير مجلس الوزراء. فقلت: وقعت الواقعة وحقّت الفضيحة، وجمعتُ أشتات قواي وقلت: نعم، يا سيد!
فقال: لن نحاكمك إلا إلى قول شاعركم شوقي فقلت: وماذا قال شوقي؟
فأجاب إنه قال:
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
فهو قد فرض أن تسبق القُبلة بستة أشياء، وأنت قبّلت بدون مقدمات
فقلت: يا سعادة الأستاذ، لقد عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء. إن شوقي قال هذا البيت منذ خمسين سنة يوم كان القطار أسرع ما عرف الناس، ونحن اليوم في عصر اللاسلكي والطيران فلا تلمني إن قبلت بدون مقدمات، فمن العقل أن نتخلق بأخلاق الزمان
طابت السهرة وطابت ثم طابت، وعرفت فيها طبيباً نبيلاً كان يصادقني عن طريق مؤلفاتي، وسيكون من الذين أقبل من أجلهم ثرى بغداد يوم أفارق بغداد، وصداقة الأرواح شيء نفيس، ومودة العقول من ذخائر الرجال
وكانت ليلتنا كما قال ابن المعتز:
ثم انقضت والقلب يتبعها ... في حيثما وقعت من الدهر
فأين ليلتنا من الدهر؟ أين؟ أين؟ إنك يا دهر لظلوم!
كنت أول من دخل البهو في تلك الليلة، وكنت آخر من خرج، ولولا الحياء لطلبت المبيت هناك لأستنشق ما بقي من أنفاس الظباء
رجعت إلى المنزل، ولا أذكر كيف رجعت، فقد استيقظت قُبيل الشروق، فرأيت مصابيح البيت كلها مضاءة، ورأيتني في ثياب السهرة كما كنت، فعرفت أنني دخلت البيت بلا وعي ولا إحساس
ولكن لا بأس فقد عشت ليلة من ليالي بغداد
وإلى معالي أرشد العمري تحيتي وثنائي!
هذا صباح العيد، وهذا طوافي برياسة مجلس الوزراء، أصافح الرجال الذين عناهم الشريف الرضي حين قال:
نحاسن أقمار الدجى بوجوههم ... فنبهرها نوراً ونغلبها سعداً
تخالهمُ غِيداً إذا بذلوا الندى ... وتحسبهم جناً إذا ركبوا الجردا
هذا هو الرجل العذب الروح النبيل الشمائل جميل المدفعي رئيس الوزراء الذي لا يصدق من يرى صباحة وجهه أنه من صناديد القتال، والليث لا يكون شتيماً في كل حين
وهذا وزير المواصلات، الصديق الذي أحببته منذ رأيته في سهرات رمضان
وهذا وزير الداخلية يلوم ويعتب لأنه يراني أستبيح من أساليب التعبير ما لا يستبيح أدباء باريس
ويتفضل صديق عزيز فينقلني بسيارته إلى منزل صاحب الفخامة نوري باشا السعيد، وكنت أتمثل نوري باشا رجلاً كهلاً أضوته السنون، فأراه فتىً خفيف الروح كأنما قدم بالأمس من ملاعب مونبارناس؛ ويقبل عليّ فخامته فيقول: أنا تلميذك بالفكر، يا دكتور مبارك، لأني قرأت جميع مؤلفاتك
ويروعني هذا اللطف فأقول: (لقد علم الله كرم نفسك فحفظ عليك شبابك يا فخامة الرئيس)
ويقبل عليّ الحاضرون فيسألون عن صحة ليلى، فيبتسم نوري باشا ويقول:
(إن ليلى المريضة في العراق هي شبكة ينصبها الدكتور زكي مبارك لتقع فيها إحدى الليليات)
وأتألم من ذلك فأقول: (إن مولاي نسي أنه تلطف فأعان الضابط عبد الحسيب على الانخراط في سلك الجيش العراقي سنة 1926)
ويمسح نوري باشا جبينه ويقول: (تذكرت، تذكرت، شفى الله ليلى على يديك)
ثم نمضي فنزور معالي مولود مخلص رئيس مجلس النواب فنرى الرجل الذي أفهم العالم أن من واجب الجيش الإنجليزي أن يحسب ألف حساب للجيش العراقي، ونسمع الفصاحة العربية التي كانت تعذُب وتطيب على ألسنة الغزاة الفاتحين
وفي مساء يوم العيد نحتفل بعيد صاحب الجلالة فاروق الأول احتفالاً فخماً يشاركنا فيه أقطاب العراق
وفي اليوم التالي أمضي لإلقاء محاضرتي في المؤتمر الطبي فيقبل علي عشرون طفلاً وهم يصيحون: (الدكتور زكي مبارك، الدكتور زكي مبارك)
ويجيء صديق من الأطباء السوريين فيقول: (لقد صارت طلعتك بهجة لأطفال بغداد يا دكتور مبارك! (فينهمل دمعي وأقول: (نعم، فهذه الطفلة تشبه كريمة، وهذا الطفل يشبه عبد السلام، وهذا يشبه عبد المجيد، وتلك الفتاة تشبه زينب، وهذا الفتى يشبه سليمان) أبنائي الأعزاء، لقد نهبتني منكم بغداد، فاغفروا لي ذنبي فما ذقت حلاوة العيش إلا في بغداد
تحدثت عن الليلة السعيدة التي أقامها معالي أمين العاصمة، وكنت أحسبها خاتمة الليالي الملاح، ثم ظهر أن هناك ليلة أروع وأظرف، وهي ليلة الجمعية الطبية العراقية. فلنذكر بالتفصيل ما وقع في تلك الليلة من ضروب الفُتون، فقد تمر أعوام قبل أن تشهد مثلها بغداد، وقد تسكت عنها الأقلام فتذهب ذكراها من القلوب
ومن الواجب عليّ وقد أجاب الأطباء دعوتي فعقدوا المؤتمر العاشر في بغداد ليعاونوني على مداواة ليلى، من الواجب أن أسجل بقلمي ما صنعوا من الطيبات حين عطروا بغداد بليال أروع وأنضر من ليالي الرشيد، ولن يكون هذا آخر العهد بالأنس يا بغداد.
(للحديث شجون)
زكي مبارك