مجلة الرسالة/العدد 245/جمال الدين الأفغاني
مجلة الرسالة/العدد 245/جمال الدين الأفغاني
للأديب محمد سلام مدكور
بمناسبة مرور إحدى وأربعين سنة على وفاته إذ توفي في يوم
9 مارس سنة 1897 ودفن بالأستانة في مقبرة (نشان طاش)
حتى شيد له مقبرة خاصة المستر (كراين) سنة 1927م
بهذا الاسم تنطق ملايين الشفاه عند ذكر نهضات الشرق وعند أي مناسبة سياسية أو ظاهرة وطنية، يذكرونه بالثناء والإعجاب، ويتناولونه بالمدح والفخار؛ يتعجبون لصبره وأناته وعمله وجهاده، وكلما تذكروه أو تكلموا في تاريخه فكأن وحياً من الشجاعة هبط عليهم، وروحاً من العزة سرت فيهم، ودبيباً من اليقظة نبههم؛ فقد كان جريئاً في الحق، قوياً في وجه العدو، رابط الجأش ثابت الجنان، في نفسه ثورة مشتعلة ولهب يتطاير، وآمال وثابة إلى المجد والرفعة
نكتب عن السيد جمال الدين، ومن الفخر أن يتحدث المرء عنه ما وسعه الحديث، وأن يطنب في سيرة شخصيته الفذة ما شاء؛ فالتحدث عن تاريخ هذا الفيلسوف الحكيم يشرح الصدر ويغمر النفس بالفرح والإعجاب؛ والإطناب في الكلام عن هذا الزعيم الكبير لا يمله إنسان
فلجمال الدين أثره البين في نهوض الشرق وتطلعه إلى الحرية، فقد ظل الشرق زمناً طويلاً خاملاً يرزح تحت نير العبودية، ويرسف في أغلال الاستعمار؛ فلما جاء السيد جمال الدين نفخ فيه روح اليقظة، وأهاب بالأمم الإسلامية أن تطرح ذلك الجمود الفكري وتلك الأوهام التي ليست من الإسلام في شيء، والتي كانت سبباً في تأخر المسلمين
فكان شأن السيد جمال الدين في الناحية الدينية مثل شأن (مارتن لوثر) في الديانات المسيحية؛ وكان شأنه في الناحية الفكرية مثل (جان جاك روسو) وغيره من فلاسفة الفكر؛ وكان شأنه في السياسة وتحرير البلاد من يد الغاصب مثل شأن (واشنطن) محرر (أمريكا) و (مازيني) محرر إيطاليا وغيرهما من رجال السياسة
وبالجملة كان لجمال في كل ناحية من نواحي الإصلاح والتجديد أثر ظاهر وفضل لا ينكر ولقد كان من مبادئ السيد جمال الدين: (أن الإسلام والذل لا يجتمعان في قلب واحد) ولعمري إنه لمبدأ خالد يكتب بماء الذهب في تاريخ أعظم عظماء الإسلام ويضمن له البقاء والخلود ويسمو به إلى مراتب أقرب إلى مراتب الملائكة والأنبياء
نعم إنه لآية من آيات الحق، ووحي هبط من السماء، وتأييد من الله يؤيد به عباده المصلحين، وهداية من الرحمن ونعمة يسبغها الله على من يشاء إنه عليم قدير
أي مسلم يقرأ هذا المبدأ القويم دون أن يسكب الدمع مدراراً، ودون أن تذهب نفسه حسرات على ما كان للمسلمين في غابر الأزمان من عز وسؤدد، وما هو عليه أكثرهم اليوم من الذلة والانحطاط
نعم فهو يلفظ القول ليصيب به موقع الماء من ذي الغلة، وينزل فيه بالحكمة التي هي أبعد من العنقاء وأعلى منالاً من الجوزاء إلى مستوى تستطيع أن تحله الدهماء، إن في ذلك لعبرة
تلك هي روح السيد جمال الدين، وهذا هو مبلغه من التأثير في نفوس الطالبين، وكذلك الزعامة الصادقة، والهداية الموفقة، وذلك صنع الله لعباده من المصلحين
وهذا لعمري هو الذي جمع الناس عليه وجعلهم من جميع الطبقات يهرعون إليه ومكن له في نفوس الملوك والعظماء والعامة والدهماء، فاستطاع أن يظفر بالجو الصالح لبث هدايته حيثما حل وأينما ارتحل
وأرى أن السيد جمال الدين في آرائه وحكمته، وعلو نفسه، وكرم أخلاقه ونبله زعيم إسلامي بعثه الله ليجدد للإسلام حياته التي كانت زاهرة زاخرة في عهوده الأولى، ويكون هذا أصدق شاهد على قول النبي ﷺ (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)
فقد كان أول المجددين في القرن التاسع عشر الحكيم القدير والمصلح العظيم، والمجاهد الكبير، والثائر الخطير السيد جمال الدين سيد النابغين، وأمير الخطابة والبيان، فيلسوف الإسلام وآية الحق القاهرة، وحجة الشرق الناهضة، وكوكب الإصلاح الذي ظهر ساطعاً في آفاق الشرق بعد أن كان في ظلام حالك
كانت حياة هذا الفيلسوف سلسلة جهاد موفق، وحلقة كفاح مثمر، حياة خصيبة ممرعة ثرية ممتعة لها من الآثار الحميدة والأيادي البيضاء والأعمال المجدية ما لا سبيل إلى تقديره؛ فلقد كان يجول بفكره في ميدان مترامي الأطراف من متنوع الفنون، ويتناول في مباحثه أجل الشئون مما يهم البشر، يهتك غشاء الباطل عن الحق بنظرات نافذة وتفكير صحيح
والحقيقة التي لاشك فيها أن المرء لا يكاد يقف على عمل من أعماله أو رأي من آرائه، أو يقلب صفحة من حياته حتى يشعر أنه بين يدي ذهن مستقل جبار لا يرتضي دون الحرية مطلباً، ولا يبتغي غير محاربة الاستبداد شيئاً
بقي السيد جمال مناراً وهاجاً في الحرية يهتدى به، ومرجعاً صادقاً يفزع إليه في شتى نواحي الأمور. ولا بدع فإنه يعمل لمبدأ خالد لن يغير تيار الحوادث منه مادام الإنسان إنساناً
ولست مغالياً في مدح السيد جمال، ولا أكيل له تلك العبارات جزافاً مندفعاً وراء العاطفة، إذ هناك الكثير من الكتاب الغربيين الذين لا تربطهم أية صلة بجمال الدين إلا الاعتراف بالفضل، والتقدير للنبغاء والمصلحين، فهذا (هنري روشفور) الكاتب الفرنسي الشهير يقول في كتابه (ماجريات حياتي):
(السيد جمال الدين من سلالة النبي، والمعدود هو أيضاً أنه أشبه بنبي. ثم قال: إنني شعرت نحو هذا الرجل بعاطفة الحب التي أجدها تربطني بكل داع إلى ثورة أو مقاوم لسلطة)
وهاك (رينان) الفيلسوف الكبير يقول عنه: (يخيل إلي من حرية فكره، ونبالة شيمه وصراحته، وأنا أتحدث إليه، أنني أرى وجهاً لوجه أحد من عرفتهم من القدماء الفلاسفة، وأني أشهد ابن سينا، أو ابن رشد، أو واحداً من أساطين الحكمة الشرقيين اللذين ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار)
جميل جداً أن نسمع تلك الحقيقة من فلاسفة الغرب، وأن يشهدوا بفضله وعلمه، وقوته وحكمته، وهم الذين لم يستفيدوا منه شيئاً طائلاً، وليس بجميل منا نحن الشعوب التي رضعت من ثدي علمه، واستفادت من إرشاده، وتمتعت بالحرية التي كان ينشدها أن نجهله أو نتجاهله، وألا نحتفل بذكراه ونضع الأسفار الضخمة في تاريخ حياته وتحليل نفسيته
اذكروا الرجل، واحتفلوا بيوم ذكراه فإن في ذكراه عظة وعبرة. . . اكتبوا المقالات الطوال، واقرضوا الشعر الرصين، فليس هو بالذي ينقضي عمله بموته، وإنما هو صاحب العمل الخالد والمجد الدائم، إنما هو رجل الأمم والجماعات
فيا أيها الشعب الإسلامي، ويا أبناء الشرق، هذا هو السيد جمال الذي ما اتخذ له وطناً ولا ولداً، فليس هو بالذي تتناساه الشعوب أو تهمل ذكراه الأمم
أما أنت أيها الشعب المصري فهذا الذي أنقذك من براثن الظلم والجبروت، وعادى من أجلك دول الاستعمار، وقضى شطراً كبيراً من حياته في المدافعة عنك ومناصرتك، ولاقى الصعاب والأهوال
أما أنتم يا رجال النهضة، ويا زعماء البلاد، ويا نواب الأمة فهذا السيد جمال الذي بعث في نفوسكم تلك الروح وعمل جهده على إيجاد الحياة النيابية في مصر
أما أنتم يا رجال الدين، ويا علماء الأزهر، لكم وحدكم يوجه العتاب. ألم يكن جمال هذا هو المحرر للأزهر من ذلك الجمود الفكري الذي كان راسخاً فيه؟ ألم يكن جمال هذا هو الذي خرج لكم في مدرسته الإمام الخالد الذكر الشيخ (محمد عبده) وكان يقول عنه عند نفيه (خرجت من الدنيا ولم أترك مؤلفاً ولا ولداً ولكن تركت لكم محمد عبده وكفى به لمصر عالماً)
أما أنت أيتها الصحافة، أما أنت يا لسان الأمة الناطق، وآيتها البينة وحجتها القوية، وميدانها الفسيح؛ أما أنت يا مشعل الوادي، ويا منار الأفكار، فهذا السيد جمال الذي أنبتك في مصر وجعل منك ذلك المصباح الوهاج، فهذا أستاذك صاحب العروة الوثقى
أما أنت أيتها الروح المقدسة الطاهرة الزكية البريئة العالية السابحة في ملكوت الله. أما أنت يا روح جمال فإليك أتقدم بالاحترام الفائق والإجلال التام، والمعذرة الصادقة عن تقصيرنا السابق، وغفلتنا الطويلة
وإني أخيراً لأفتخر بالسيد جمال الدين الأفغاني في الإسلام وأقول (حسبه من عظمة ومجد أنه في تاريخ الشرق الحديث أول داع إلى الحرية، وأول شهيد في سبيل الحرية)
محمد سلام مدكور
مؤلف كتاب جمال الدين الأفغاني