مجلة الرسالة/العدد 243/بين تيمورلنك وبايزيد
مجلة الرسالة/العدد 243/بين تيمورلنك وبايزيد
قصة الملك الأسير في قفص من حديد
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لما زرت أنقرة عاصمة تركيا الجديدة منذ أعوام، وتأملت المدينة الناشئة التي اختارها القدر لتكون مبعث حياة جديدة للأمة التركية، تذكرت أن هذه الهضاب القفرة التي تحيط بالعاصمة التركية الجديدة كانت مسرحاً لحدث عظيم في تاريخ الدولة العثمانية، وأنها إذا كانت اليوم مركزة القوة والحياة في تركيا الجديدة، فقد كانت ذات يوم مبعث الدمار والويل لدولة بني عثمان وكادت أن تكون قبراً لسلطانهم الناهض ومجدهم الفتي
كان ذلك في سنة 1402م، حينما انقض تيمورلنك الفاتح التتري بجيوشه الجرارة على هضاب الأناضول كالسيل، وحينما نشبت في هاتيك الهضاب الوعرة بينه وبين السلطان بايزيد الأول موقعة أنقرة الشهيرة التي سحقت فيها قوى آل عثمان وأسر ملكهم وأمراؤهم، وكادت تمحى دولتهم من الوجود لولا أن تطورت الحوادث بعد ذلك بسرعة، وتوفي الفاتح التتري بعد ذلك بقليل، وانهارت دعائم ذلك الصرح العسكري الهائل الذي شاده تيمور بغزواته وفتوحاته وانتصاراته العظيمة
وكان تيمور قد بدأ حياة الفتح بعد ذلك بنحو ثلاثين عاماً، وخرج من سمرقند عاصمة ملكه الناشئ يثخن في الأمم والممالك المجاورة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ويفتتح قطراً بعد قطر، ويسحق مملكة بعد أخرى؛ فلم يمض على هذا البدء ثلاثون عاماً حتى استطاع أن يجتاح جميع الممالك الواقعة بين سمرقند والشام، وبين قزوين والخليج الفارسي، وأن يفتتح الهند وخوارزم وفارس والجزيرة والقوقاز وأرمينية، وأن يبسط حكمه الشامل على تلك الممالك والأنحاء الشاسعة، وأن يبلغ ذروة الظفر والسلطان الباذخ
وفي سنة 1399م خرج تيمور من سمرقند بجيشه الظافر لآخر مرة؛ وكان قد نفذ إلى الهند قبل ذلك العام وأثخن في بسائطها وقواعدها؛ واستولى على دهلي حاضرتها، وتم بذلك افتتاحه لممالك آسيا الوسطى؛ واخترق تيمور بجيشه الزاخر فارس واتجه نحو بلاد الكرج وأرمينية؛ وكانت هذه المنطقة مثار خلاف دائم بينه وبين بني عثمان، إذ كانوا يغيرون عليها من وقت إلى آخر؛ وكانت أملاك تيمور وبني عثمان تلتقي هنالك عند أرض والفرات؛ وزحف تيمور على سيواس، وكان الترك العثمانيون قد احتلوها قبل ذلك بقليل، واستولى عليها؛ وبلغت هذه الأنباء سلطان الترك بايزيد الأول، وهو معسكر بجيشه تحت أسوار قسطنطينية يحاصرها، فلم يستطع شيئاً؛ واخترق تيمور بلاد الأناضول، وزحف نحو الشام وهي يومئذ ولاية مصرية، يقصد افتتاحها؛ ثم يفتتح مصر؛ وبذلك يبسط سلطانه على الشرق الإسلامي بأسره. واستولى تيمور على مدينة حلب في مناظر هائلة من السفك والعيث والنهب، وانقض سيل التتار المخرب على ربوع الشام يثخن فيها ويحمل أمامه كل شيء. وزحف الغزاة على دمشق في أوائل سنة 803هـ (1400م)؛ فروعت مصر لهذه الأنباء، وهرع ملك مصر الناصر فرج بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ونزل بدمشق في جمادى الأولى، واشتبك جند مصر مع جند الفاتح في معارك محلية كانت سجالاً؛ ولكن السلطان اضطر أن يعود فجأة إلى القاهرة لأنباء مزعجة نميت إليه فترك دمشق لمصيرها؛ واستولى تيمور على دمشق صلحاً، ولكنها لم تنج من سفكه وعيثه؛ على أنه لم يمكث طويلاً بالشام إذ وصلته الأنباء عن أهبة بايزيد وحركاته؛ فغادر الشام شرقاً إلى الفرات، ثم سار شمالاً إلى بلاد الكرج، وأشرف مرة أخرى على حدود مملكة (الروم)
وهنا تبدأ بين هذين العاهلين العظيمين وقائع تلك المعركة الشائقة التي تسبغ عليها تفاصيلها لوناً من الخيال الساحر، فقد استقبل تيمور سفراء بايزيد وأنبهم على مسلك مليكهم، وكتب إلى بايزيد رسالة يلومه فيها على حمايته لبعض الأمراء الذين خرجوا عليه، ويفاخره بفتوحاته الباهرة وسلطانه الباذخ ويحذره من سطوته وبطشه ويتحداه في عبارات جافية مثيرة؛ فرد عليه بايزيد برسالته الشهيرة التي تذكرنا عباراتها وأسلوبها برسائل الملوك الأقدمين وعهد الأساطير، وفيها يسخر منه وينتقص من قدره وقدر فتوحاته وغزواته، وينسب توفيقه فيها إلى غفلة الزمن وإلى ضآلة شأن خصومه، ويحمل على وسائله في الحرب والسياسة، ويرميه بالعدوان والغدر، ويرمي جنده ومواطنيه التتار بالعجز والخور؛ وينوه بقوته ومقدرة جنده، وعظيم استعداده للحرب والطعان. على أن ذلك لم يكن شيئاً بالقياس إلى ذلك التحدي الغريب الذي اختتم به بايزيد رسالته إلى تيمور، إذ يقول له: (فإن لم تأت تكن زوجاتك طوالق ثلاثا؛ وإن قصدت بلادي وفررت عنك ولم أقاتلك فزوجاتي إذ ذاك طوالق ثلاثا). ويعني ابن عربشاه مؤرخ تيمور عناية خاصة بذكر محتويات الرسائل التي تبادلها الملكان، ويقول لنا إن تيموراً حينما وقف على هذا القسم الغريب الذي يلقيه بايزيد في وجهه ثارت نفسه غضباً، (لأن ذكر النساء عندهم من العيوب، وأكبر الذنوب)، فكيف بهذه الإشارة المثيرة إلى نساء الفاتح وحليلاته
وهكذا اعتزم العاهلان أن يخوض كلاهما ذلك النضال الذي يشهره كلاهما في وجه الآخر؛ فبادر تيمور إلى الزحف في جيشه الزاخر شرقاً نحو هضاب الأناضول، ونفذ إلى مملكة الروم، واستولى في طريقه على مدينة قيصرية، ثم اخترق نهر هاليس، وطوق مدينة أنقرة؛ وكان بايزيد قد استطاع في الفترة التي قضاها تيمور في الشام أن يجمع قواته وأن يستكمل أهبته. وتقول لنا الروايات المعاصرة إن جيش التتار بلغ يومئذ زهاء ثمانمائة ألف مقاتل، وأن جيش الترك بلغ زهاء أربعمائة ألف، وهي أرقام هائلة في تلك العصور وخصوصاً إذا ذكرنا ما كانت عليه وسائل النقل والتموين يومئذ من نقص وصعوبة. وكان الجيش العثماني يتفوق على جيش التتار بنظامه، ويمتاز بالأخص بفرق الانكشارية الجريئة؛ ولكن جيش التتار فضلا عن تفوقه العددي، كان متفوقاً في روحه المعنوي. وكانت هذه الانتصارات المتوالية التي أحرزها التتار ما بين السند والأناضول قد بثت في نفوس الغزاة روحاً من الثقة الوطيدة. ولما وقف بايزيد على مقدم تيمور هرع إلى لقائه في ظاهر أنقرة، وكان هذا اللقاء الشهير بين الجيشين العظيمين في يوم الأربعاء 27 ذي الحجة سنة 804 (أواخر يولية سنة 1402) وأبدى بايزيد وجيشه شجاعة فائقة؛ ولكن سرعان ما دب الوهن إلى قواته، وانسحب بعضها من الميدان بإغراء تيمور ووعوده. وسرعان ما حلت النكبة بالترك فمزقت قواتهم وسحقت، وأسر بايزيد وعدة من ولده وآله؛ وفر ولده سليمان في بقية من الجيش صوب العاصمة؛ وطارد الغزاة العدو المنهزم، واستولوا على كوتاهية؛ ثم زحف محمد سلطان حفيد تيمور إلى بروصه عاصمة مملكة الروم فاستولى عليها، وعاث فيها ونهب القصور الملكية وسبى حريم السلطان، وفر سليمان إلى الشاطئ الأوربي حاملاً ما استطاع إنقاذه من خزائن أبيه. وسحق ملك بني عثمان تحت سنابك الغزاة مدى حين
وهنا تعرض للحرب صفحة في تلك المأساة الشهيرة، فإن ابن عربشاه مؤرخ تيمور يقول لنا إن الفاتح التتري سجن بايزيد في قفص من الحديد كما فعل قيصر مع سابور ملك فارس؛ وهي رواية عربية تؤيدها الروايات اليونانية واللاتينية المعاصرة؛ بيد أن رواية ابن عربشاه ليست في حاجة إلى التأييد، فهو مؤرخ معاصر كتب روايته بعد وفاة تيمور بنحو ثلاثين عاماً فقط، واستقى مادته في سمرقند ذاتها حيث عاش مع أسرته ردحاً من الزمن وسمع أقوال رواتها وشيوخها المعاصرين لتيمور، واستقاها كذلك من بلاط السلطان محمد الأول بن السلطان بايزيد، حيث قضى في خدمته حيناً وتقلد لديه ديوان الإنشاء، واطلع على جميع المصادر والوثائق التركية والفارسية التي تتعلق بسيرة تيمور وغزواته؛ وإذن فليس في روايته عن القفص الحديدي الذي سجن فيه بايزيد ما يدعو إلى الريب
وهنالك رواية أخرى يقدمها إلينا مؤرخ فارسي معاصر، هو شرف الدين علي الذي كتب سيرة تيمور بعد وفاته بعشرين عاماً، تحقيقاً لرغبة حفيده السلطان إبراهيم. وخلاصة هذه الرواية هو أن تيمور حينما علم بأن السلطان الأسير (بايزيد) قد اقتيد إلى خيمته، نهض للقائه، وأكرم وفادته، وأجلسه إلى جانبه، وعتب عليه في لفظ رقيق، وحمله تبعة ما وقع، ووعده بصون حياته وشرفه؛ فتأثر بايزيد لكرم خصمه، وأعرب عن ندمه وقبل منه خلعته، وعانق ولده موسى الذي أسر معه والدمع ينهمر من عينيه؛ وأنزل السلطان وباقي الأمراء الأسرى منزلا حسناً. ولما وصلت زوج السلطان وهي الملكة رسبنا اليونانية وابنتها وباقي حريم السلطان، حملن إليه مكرمات معززات. ولما دعي السلطان إلى الحفلة التي أقامها تيمور ابتهاجاً بالظفر؛ وضع تيمور التاج على رأسه، ووعده برد عرشه وملكه، ولكن السلطان الأسير ما لبث أن توفي، فحزن تيمور عليه وأمر بدفنه بين مظاهر التكريم في المدفن الذي أقامه لنفسه في بروصة، واختار ولده موسى ملكاً على الأناضول
على أن هذه الرواية لا يمكن أن تنال من الثقة ما تناله منا رواية ابن عربشاه، فهي على ما يلوح رواية قصر أريد بها تمجيد ذكرى الفاتح وعرض مناقبه. ويحاول المؤرخ الفيلسوف جيبون أن يوفق بين الروايتين، فيقول لنا إن رواية شرف الدين في شقها الأول صحيحة لا ريب فيها، فقد استقبل تيمور أسيره برقة وأكرم وفادته، ولكن بايزيد قابل كرمه بكبرياء وغطرسة، فاستاء تيمور واعتزم أن يقود أسيره في ركبه الظافر إلى سمرقند؛ ولكن محاولة بذلت لإنقاذ الملك الأسير حملت تيمور على التشدد في معاملته، فزج به إلى قفص من الحديد، اقتداء بما قرأه في بعض السير القديمة من أن سابور أحد ملوك الفرس وقع في قبضة قيصر فسجنه في قفص من الحديد. ويضيف ابن عربشاه إلى ذلك أن تيموراً أراد أن يذهب في التنكيل بأسيره إلى ذروة القسوة والمهانة، فدعاه ذات يوم إلى حفل أنس عقده؛ ولما جاء دور الشراب، التفت بايزيد فإذا بنسائه وجواريه يتولين سقاية الفاتح وصحبه أمام عيني مليكهن؛ وقد كان ذلك من تيمور مبلغة في الانتقام من خصمه والتشفي منه لما اجترأ عليه من ذكر النساء في مكاتبته. وقد كان لهذه الآلام المادية والمعنوية أثرها في الملك الأسير، فلم يمض على محنته بضعة أشهر حتى توفي في غمر الحسرات والأسى، وكانت وفاته في مارس سنة 1403م
وكانت هذه أيضاً آخر غزوات تيمور وانتصاراته؛ فلم يمض قليل على عوده إلى مملكته حتى لحقه المرض وتوفي في شهر فبراير 1405؛ وكانت وفاته نذير انحلال ذلك الصرح الشامخ الذي شاده بعبقريته وظفره وسعد طالعه
محمد عبد الله عنان