مجلة الرسالة/العدد 241/للأدب والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 241/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 02 - 1938



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 24 -

(. . . . إنه ليتفق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يتفق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها!)

عباس محمود العقاد

الرافعي والعقاد

ذلك كان رأي العقاد في الرافعي قبل بضع عشرة سنة من هذه الخصومة التي أروي خبرها. وشتان بين هذا الرأي يبديه العقاد سنة 1917 في مقال ينشره ليعرِّف بكتاب من كتب الرافعي أنشأه في ذلك العهد، وبين رأيه الأخير في المهذار الأصم مصطفى صادق الرافعي كما يسمه في سنة 1933!

إن هذه الخصومة العنيفة بين الرافعي والعقاد قد تجاوزت ميدانها الذي بدأت فيه، ومحورها الذي كانت تدور عليه، إلى ميادين أخرى جعلتْ كلاًّ من الأديبين الكبيرين ينسى مكانه ويغفل أدبه ليلغ في عرض صاحبه ويأكل لحمه من غير أن يتذمم أو يرى في ذلك معابة عليه. وكان البادئ بإعلان هذه الحرب هو الرافعي في مقالاته على السفود. .

هم ثلاثة أو أربعة من كتاب العربية في الجيل الحديث كانت لهم هذه الخلة المرذولة في النقد وفي أساليب الجدل. هذان اثنان منهم وكان للرافعي مع كل واحد من الاثنين الآخرين معركة. على أن أشد هذه المعارك عنفاً وأبعدها عن حدود الأدب اللائق هي المعركة بينه وبين العقاد!

وكان بدء هذه المعركة كما قدمت حديثاً خاصاً بين الرافعي والعقاد في دار المقتطف، حول حقيقة إعجاز القرآن، وكتاب إعجاز القرآن. وكان للعقاد فيهما رأي غير رأي الرافعي، فكانت غضبة الرافعي الأولى لكرامة القرآن والعقادُ ينكر إعجازه؛ ولكتابه والعقادُ يجحد فضله؛ ثم كانت الغضبة الثانية للتهمة التي رماه بها العقاد حين جبهه بأنه افترى كتاب سعد ونحَلَه إياه في تقريظ إعجاز القرآن ليروج عند الشعب. . .

فثمة سبب عام أنشأ هذه الخصومة، هو إيمان الرافعي بإعجاز القرآن إيماناً لا يتناوله الشك؛ وسببان خاصان: هما رأي العقاد في كتاب الرافعي، ثم تهمته له بأنه مفتر كذاب. . .!

تُرى أي هذه الأسباب الثلاثة هو الذي أثار الرافعي فدفعه إلى الخروج عن الوقار والأدب الواجب فيما أنشأ من مقالات (على السفود). . .؟ الرافعي يقول: إنها غضبة لله وللقرآن، وللتاريخ رأي آخر سيقوله فيما بعد، لست أدري أيفارق الرأي الأول أو يلتقي وإياه على سواء. . .!

ولكن كتاب على السفود مع ذلك لا يتناول مسألة المسائل في هذا الخلاف؛ فلا يتحدث إلا عن شعر العقاد وديوان العقاد؛ ثم عن أشياء خاصة تعترض في فضول القول وحشو الكلام؛ فأين هذا مما دارت عليه المعركة من أسباب الخصام. . .؟ الرافعي يقول: هذا أسلوب من الردّ قصدْت به الكشف عن زيف هذا الأديب والزراية بأدبه؛ حتى إذا تقررت منزلته الحقيقية في الأدب عند قراء العربية، لا تراهم يستمعون لرأيه عندما يهم بالحديث عن إعجاز القرآن. وهل يحسن الحديث عن إعجاز القرآن من لا يستقيم منطق العربية في فكره، ولا يستقيم بيانها على لسانه؟. . . هكذا يقول الرافعي!. . .

ومن ثم بدأت المعركة على أعين القراء. . .

يقول الأستاذ إسماعيل مظهر في مقدمته لكتاب (على السفود):

(. . . أردنا بنشر السفود أن نرضي من أنفسنا نزعتَها إلى تحرير النقد من عبادة الأشخاص، ذلك الداء المستعصي الذي كان سبباً في تأخر الشرق عن لحاق الأمم الأخرى. . .)

(. . . ونقدم بهذه المقدمة تعريفاً لما قصدنا من إذاعة هذه المقالات الانتقادية التي أعتقد بأنه لم يُنسج على منوالها في الأدب حتى الآن!)

(وعسى أن يكون السفود (مدرسةَ) تهذيب لمن أخذتهم كبرياء الوهم، ومثالاً يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة!)

أما أن تكون هذه المقالات الانتقادية لم يُنسج على منوالها في الأدب الحديث فَنَعم، وأما أن تكون مدرسة للتهذيب ومثالاً يحتذيه النَّقدةُ فلا. . فليس بنا من حاجة إلى أن يحتذي النقدةُ هذا المثال في أسلوب النقد والجدل فيزيدوا عيباً فاحشاً إلى عيوب النقد في العربية

والحق الذي أعتقده أن في هذا الكتاب - على ما فيه - نموذجاً في النقد يدل على نفاذ الفكر ودقة النظر وسعة الإحاطة وقوة البصر بالعربية وأساليبها. ولكن فيه مع ذلك شيئاً خليقاً بأن يطمس كل ما فيه من معالم الجمال فلا يبدو منه إلا أَدَمُّ الصور وأقبح الألوان، بما فيه من هُجْر القول ومر الهجاء؛ ولئن كان هذا مذهباً معروفاً في النقد للرافعي وخصمه واثنين آخرين من كتاب العربية في هذا الجيل - إننا لنريد للناقدين في العربية أن يكونوا أصحَّ أدباً وأعفَّ لساناً من ذاك. . .!

ذلك رأي قلته للرافعي - يرحمه الله - فما أنكره عليّ ولا اعتذر منه؛ فما يمنعني اليوم شيء أن أعلنه صريحاً إلى الأدباء. ولقد همّ الرافعي منذ سنوات ثلاث أن يجمع كل ما كتب في النقد بعد كتاب (المعركة) في كتاب واحد؛ فأبديت له الرأي أن يضم إلى هذا المجموع مقالات (على السفود) بعد أن يجردها مما يعيبها حرصاً على ما فيها من الفن؛ فارتاح لهذا الرأي واطمأن إليه، ولكنه لم يفعل، إذ حالت الحوائل دون تنفيذ فكرته

وإنها لخسارة أن ترى التمثال الفني البديع مغموراً في الوحل فلا تصل إليه إلا أن تخوض له الحمأة المنتنة وهيهات أن تُقبل عليها النفس؛ وإنها لخسارة على العربية أن ترى هذا الفن البديع في النقد يتكنفه هذا الكلام النازل من هجر القول ومر الهجاء

ولقد كان الرافعي نفسه يعترف بأن في الكتاب ما لم يكن ينبغي أن يقول، وبأن خصمه بما قال فيه كان يملك أن يسوقه إلى المحاكمة؛ ولكن الرافعي مع ذلك كان مطمئناً إلى شيء آخر. .

قال الرافعي: (. . . قال لي قائل: لقد قلت في العقاد ما كان حرياً أن يقفه وإياك أمام القضاء!. . . ولكني يا بني كنت على يقين بأن العقاد لن يفعلها؛ إنني كنت أهاجم العقاد بمثل أسلوبه في النقد، وإن معي لورقات بخطه لا يسره أن أجعلها دفاعي أمام المحكمة فيخسر أكثر مما يربح. ولقد قرأت من هذه الورقات على مستشار كبير فأيقن بما أنا موقن وحكتْ لي محكمتُه. . .!)

ذلك حديث الرافعي. . . فهل كان هذا حسْبَه من العذر فيما كتب؟

على أن كثيراً من قراء على السفود لم يعرفوا كاتبه إلا بعد سنين؛ وكان في هذا خير للرافعي ولسمعته الأدبية ولمكانه من نفوس القراء؛ إذ كان العقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، والوفدُ هو الأمة كلها، قراءها وعامتها وشيوخها وشبابها؛ فكان العقاد بذلك هو عند الشعب إمام الكتاب وأمير الشعراء، لا يعاديه إلا خراج على الأمة أو مارقٌ من الوطنية، ولو كانت عداوته في مسألة أدبية لا تتصل بالسياسة، ولو كانت مناقشته حول إعجاز القرآن. . .!

ثم كانت هُدْنةٌ بين الرافعي والعقاد، صمت فيها الخصمان طويلاً وكل منهما يتربص بخصمه ليضربه الضربة القاضية، فلما مات المرحوم شوقي بك في خريف سنة 1932، انتهز العقاد نهزة ليبدأ مع خصمه معركة جديدة لم تكن هي آخر العراك بينهما

(شبرا)

محمد سعيد العريان