مجلة الرسالة/العدد 240/الأدب في العراق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 240/الأدب في العراق

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 02 - 1938



كلمة تشخيصية أولى

للأديب السيد عبد الوهاب الأمين

- 1 -

الأدب بعد الحرب

دعي القرن العشرون قرن المدنية والنور؛ ولقد كانت مفاخر العصور السابقة من طراز آخر غير المدنية وغير النور، فمفهوم (المدنية) لا زال مقروناً بالحرب والدمار، ولا يزال النور مقصوراً على الماديات دون المعنويات. وقد قامت بعد الحرب العظمى هيجة صاخبة أيقظت جميع الشعوب، كان قوامها نهضة أدبية شاملة، لا تزال بقايا منها محتفظة بفعالية ظاهرة. وهانحن أولاء نرى في كل يوم دليلاً جدياً على هذه النهضة الأدبية الكبرى، فيما تستبق إليه المطابع العربية من نشر مؤلفات جديدة لشخصيات أدبية عالية من طراز لم تعهده البشرية قبل الحرب العظمى؛ فكان من الطبيعي أن يثار التسآل عن هذا الأدب وهذه النهضة الأدبية، وما محصولها وقوامها وجدواها؟ وهل الأدب لهو يزجي الإنسان به ساعات فراغه ليعتصم به من مفاسد الفراغ كما يقول الشاعر؟ أو هو ضرورة من ضرورات الحياة المدنية ودلالة على الحياة المعنوية المكتملة؟

إن كانت لهواً فالأدب كالحياة لهو لا مفر منه، وإن كان يفوقها بأنه لهو له جدواه ودلالته، وهي مقصورة الدلالة على أنها لا جدوى لها؛ وهو إحدى ضرورات الحياة الشاعرة المدركة ودلالاتها؛ وبغير فضيلتي الشعور والإدراك لا تبقى من معاني الحياة غير الناحية البهيمية التي يترفع البشر المدرك أن يقتصر عليها. والأدب - وهو وصف الحياة الصادق - مقرون بالحياة ومحمول عليها؛ فإن كانت حياة رفيعة فهناك أدب رفيع، وإن كانت منحطة فأدب منحط؛ وفي هذه الناحية يؤيدنا التاريخ تأييداً لا يستدعينا البرهان

ونعتصم بالتاريخ مرة أخرى فنراه يقول: (إن نهضة من النهضات في الشعوب العالمية لم تتم إلا بعد أن تقدمتها حركة أدبية). وقد سجل هذا التاريخ في صفحاته مجداً لفولتير ورسو كمجد نابليون وروبسبير؛ ولسنا نعني أن الأدب بصورة مجردة يتقدم ظهوره في نهضات الشعوب، بل المقصود أن تقدم ظهوره في مثل هذه الحالات إنما هو دليل قاطع على نهضة تلك الشعوب وإنذار وبلاغ بنهضة مقبلة على الفور، وما نريد أن نعني بالأدب غير البلاغ والإنذار

هل الأدب ضرورة؟

ليس من شك في أن الأدب ضرورة

وهو ضرورة لا تشبه غيرها من ضرورات الحياة الكبرى، لأنها ضرورة شديدة الشبه بالحياة نفسها كما تقدم، وذلك لأنها حياة أخرى من دون لحم ودم. أو هي الحياة نفسها مخلدة على الورق، وفي بطون الكتب. وليس المقام مقام تمجيد للأدب ومغالبته في الحياة، وإنما هو مقام تعريف بقدره ومكانته بوجه عام، وما دمنا نريد لحياتنا العامة تقدماً واضطراداً. فأحرى بنا أن نوجه أنظارنا لتعرف آثار هذه النهضة المقبلة وما يجب أن يسبقها من البعث الأدبي

نظرتنا إلى الأدب ونتائجها

لذلك ينبغي أن نغير نظرتنا إلى الأدب، تلك النظرة السطحية التي تعودنا منذ عشرات السنين أن ننظرها إلى المحصول الأدبي وإلى أشخاص الأدباء، سواء الأحياء منهم والأموات. يجب أن نفهم أن الأدب ليس تزجية الفراغ، أو سمر العاطل، أو منادمة الميسور، أو ما يدخل في أمثال هذه المعاني مما درجنا على اعتقاده، فالأدب كما يفهم غيرنا قوة فعالة في الحياة اليومية والحياة العامة بصرف النظر عن مفهومه ودلالته

إن هناك خطراً خلقياً عظيم الأثر سنتعرض له، إذا استمرت نظرتنا إلى الأدب على ما هي عليه الآن من السطحية وقلة الشأن من جهة، ومن الخطأ الشائع في مفهومه وإدراكه من جهة أخرى. فالأديب في نظر الأكثرين منا هو الشخص الذي يعيش على هامش الحياة ولا يقيم وزناً لخارجياتها ومادياتها، ولا يسأل عما يقول أو يفعل، ويكفي أن يوصف الإنسان (بالأديب) لكي يفهم السامع أنه أمام شخص غريب الأطوار يعيش في عالم لا علاقة له بالحاضر ولا يطلب منه الاستعداد للمستقبل. وكذلك يتلقى أكثرنا كتابات الأدباء وقصائد الشعراء على أنها أقرب ما تكون إلى الآثار والعاديات وقد كان لهاتين الحالتين نتيجتان أولاهما مادية والأخرى روحية، فالأولى أننا أصبحنا فقراء في أدبنا عالة على آداب غيرنا. فمنا من ينصرف إلى قراءة الأدب بإحدى اللغات الأجنبية إن كان يحسنها، والذين يجهلون تلك اللغات قد تعودوا القناعة بما تصدره مصر وسورية وبقية البلاد العربية من مطبوعات وكتب. والنتيجة الروحية هي هذه الحالة التي نوشك أن نحس بها جميعاً من القنوط من بعث أدبي لا نحس الحاجة إليه، ويقنعنا أن نكتفي بالتعيش على فيض مما تصدره جاراتنا العربيات من أدب يختص بهن، ولا يطمئن حاجاتنا الروحية أو يعبر تمام التعبير عن إحساسنا الفني

أدبنا كما ينبغي أن نفهمه

الأدب كما يفهمه هذا العصر لا ينحصر - كما يعتقد الكثيرون منا ممن اقتصرت ثقافتهم على نوع واحد من أنواعه - في القدرة على الأداء والتعبير الجميل، بل أصبح - بفضل الطباعة والصحافة - يضم إليه أشتاتاً أخرى من فنون لم تكن في العهد القديم تقرن به؛ وتطورت تسمياته فأصبحنا نسمع الآن (بأدب البحر) و (أدب الموسيقى) و (أدب الموقد) وما إلى ذلك من التسميات. وعهدنا نحن بالأدب أنه محصور في اللغة والبديع، والأمالي، والمقامات، وما إليها. ولكل من هذه الفنون - طبعاً - أصول ليس في مكنة الأديب أن يتعداها أو يغفل عنها؛ ومن هنا نتج الضيق فيما نسميه نحن أدباً ويسميه الغربيون عنا بينما هم يسمون الأدب باسم آخر

ولو أردنا أن نحصر مفهوم الأدب كما يذكره أيناه العصر الحاضر لما عجزنا عن ذلك فحسب، بل لكان عملنا - لو تم - ناقصاً في ذاته، بالغاً ما بلغ من كمال؛ ذلك لأن المفهوم عنه لن يقف عندما سوف نصل إلى تحديده وتعريفه، بل سيخلق وشيكاً غيره وغيره من فنون لا نستطيع منذ الآن أن نعطي فكرة عنها فنحن الآن مثلاً لا زلنا نعيش في أدب الترسل واجترار الكلام على الأصول القديمة؛ أما في العالم فقد حدثت بعد دورنا هذا آداب جديدة: كأدب المقالة، وأدب القصة، وأدب الرواية، وأدب الترجمة ولن يستطيع أي مفكر وأديب كبير أن يتنبأ عن أدب العصر المقبل: ما هو؟ وكيف سيكون؟ وماذا يفيد؟ وما أسلوبه؟

علم الأدب إننا نفهم الأدب الآن فهماً غريباً لا هو بسبيل فهم الأقدمين له، ولا هو على شاكلة ما يعنيه الغربيون ويصطلحون عليه؛ فقد كان شأنه في القديم عظيماً، وكان شخص الأديب عنصراً فعالاً في الحياة العامة. وحسبنا دلالة على مفهوم الأدب وفعاليته في تلك العصور ومقام الأديب في الحياة الاجتماعية أن الأقدمين كانوا يعزون الأدب فيسمونه (علماً) وهم يقصدون بالعلم ما نقصد العلم به الآن بهذه التسمية فيقولون (علم الأدب)! ويصفون الأديب بأنه عالم في علم الأدب

تطور مفهوم الأدب والصحافة

والأدب في العصر الحاضر له مفهوم تطور وترقي حتى زاد في علوه على ما كان له من المكانة في العصور القديمة، وأصبح شأنه في الحياة العامة أعمق وأخطر مما كان عليه في العصور التي سبقت المدنية الحديثة، وأصبح الإنسان لا يستطيع أن يتصور بلداً متمدناً من دون صحف وطباعة. وقد حاول أحد الكتاب أن يستمر في خياله عن مدنية كهذه، فانتهى به الأمر أن وكل نتائجها إلى الجنون. فقد أصبحت الصحافة سلاحاً وكانت في بداية أمرها لا تزيد على وسيلة بسيطة لزيادة المعلومات العامة ونشر الأخبار؛ وصارت (القصة) الفنية الأدبية وسيلة العالم في الدعوة إلى نظرية من نظرياته، والفيلسوف إلى نشر فلسفته، والسياسي إلى الدفاع والدعاوة عن سياسته، وغدا شخص الأديب متمتعاً بأكثر مما كان يتمتع به شخص الأمير من التجلة والاحترام والتقدير والمهابة في العصور السابقة

الأدب كما نفهمه نحن

أما ما نفهمه نحن عن الأدب فأنه ينحط إلى أقل من اللهو والمجانة، وبعض أساليب اللهو عندنا تستدعينا شيئاً من الجد والهمة في إحضارها والاستعداد لها، أما الأدب فلا نكاد نعتبره من الملاهي التي نجد في الحصول عليها، فان حصل من تلقاء نفسه فانه لا يكاد يعنينا إلا أن نكون نحن في حالة لهو، أو نتلقاه على أنه صنيعة لاه غير مسؤول عما يقول، في ساعة لهو خالية من خير أو من جد أو من منفعة. وهذا نهاية ما يصل إليه سوء فهم الأدب، وسوء تأويله، وخطر حالة مثل هذه لا يقتصر على تشويه جمال الأدب نفسه، بل يتعدى ذلك إلى خلق شعور العجز والمحاكاة والتقليد الأعمى كما نرى جماع ذلك في حياتنا الأدبية الحاضرة

لقد آن لنا أن ندرك حظ الأدب ومغالبته في الحياة العامة وتأثيره في إعداد الأجيال المقبلة الأعداد الذي يتفق مع ما سيحتاجون إليه من كفاءة وقدرة. ونحن مسؤولون أمام التاريخ عن إهمال الناحية الأدبية والفنية في حياتنا، كأفراد، كأمة، وكحكومة. وما دمنا نسعى إلى النهوض في جميع مناحي حياتنا العامة فأحرى بنا أن نضع نصب أعيننا ضرورة اعتبار الأدب بوجه عام من أهم ما ينبغي السعي على إحيائه والعمل على النهوض به. ولن يستدعينا العمل لهذه الغاية ما يستدعي الحياة المادية من تضحية في النفوس والأموال والكفاءات والجهود، بل كل ما نحتاجه في هذا المضمار هو تحسين نظرتنا إلى الأدب ومعناه وأثره واعتباره من الضرورات التي ينبغي أن نوحد الجهود في سبيل العناية بها في غمار ما نحن آخذون بسبيل السعي إليه من نواحي الحياة الأخرى، والكف عن اعتباره ألهية لا تستحق عنايتنا إلا بعد الإجهاد والنصب كما نتناول ألهيات الحياة وتفاهاتها. ولا نطمع في أن يصل تقديرنا هذا للأدب إلى أكثر مما وصل إليه فعلاً في أيام المتنبي وأبي نواس ومن عداهما وإن كان يحق لنا أن نحذو حذو أوربا والغرب في هذا المضمار وأن يكون تقديرنا له كتقديرهم له سواء بسواء

(للحديث بقية - بغداد)

عبد الوهاب الأمين