مجلة الرسالة/العدد 24/هل للعلم قيود ترفضها الأخلاق؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 24/هل للعلم قيود ترفضها الأخلاق؟

مجلة الرسالة - العدد 24
هل للعلم قيود ترفضها الأخلاق؟
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1933



للدكتور هنسن أسقف درهام بإنجلترا

ترجمها بتصرف الدكتور أحمد زكي

(بدا شيء من القلق في منطوقات رجالات العلم ارتاع له الناس. وكيف لا يرتاع الرجل العادي وقد أنذر رؤساء ثلاثة لرابطة العلوم البريطانية في سنوات ثلاث متعاقبة بالخطر الذي يحيق بالمجتمع المتدين من جراء التقدم السريع الجاري. أن رجل العلم في العصر الحالي كساحر للقرون الخوالي يبعث الشياطين فلا يلبث أن تفلت من قبضته، وتتحرر من سلطته، فتعبث في الكون إفسادا وتخريباً) من خطبة قريبة.

العقل العلمي

كلنا متفق على أن العقل العلمي يجب أن يكون خلوا من كل غرض، بعيدا عن كل شهوة، إن هَوِى صاحبه فلن يتأثر بهواه، وإن أبغض فلن يتأثر ببغضه، فهو عقل يطلب الحقيقة للحقيقة وحدها، وهو يطلبها في هدوء وثقة واتِّزان ورجاحة، لا يزعجه اصطخاب تثيره التقاليد حوله، ولا يهزه اضطراب يبعثه العرف السائد من جراء ما تكشفه له، وهو يطلبها في قناعة وعفة ونبل، فلا تحدثه نفسه بما قد تؤدي له الحقيقة المكشوفة من نفع، وما قد تدر عليه من مال، وهو يطلبها لحاجة شديدة في نفسه تدفعه دفعا إلى علم ما لم يعلم، كما يندفع الهالك الظمآن إلى الرِّي والماء، وهو لا يفرق بين الحقيقة الصغيرة الحقيرة، والحقيقة الكبيرة الهامة، ولا بين الحقيقة تأتيه هوناً، وبين الحقيقة يأتي بها الجهد الجهيد، فلكل مكانه من الخريطة العامة، وهي لا تتم إلا بتمام أجزائها، وهو لا يجد لنفسه عوضاً كافياً من هذه الجهود، ولا جزاء وفاقاً على متاعب البحث ومصابرة التنقيب، كالعلم الذي تحصله تلك الجهود والأبحاث. وبعد فليس بمستغرب أن من يطلب العلم لذاته دون مراعاة شيء غيره ولا مجاملة أحد سواه يصطدم بكل سلطان قوي الدعائم قديمها، ومن ذلك سلطان الدين.

العلم والدين

وقد اشتبك الدين والعلم في معارك بدأت في أواخر العصور الوسطى وامتدت إلى وقتن هذا. ولاشك أن من أكثر اسباب هذا العراك سوء فهم للدين، وعدم التمييز بينه وبين علم اللاهوت التقليدي الموروث. وقد خلف لنا هذا العراك سجلات عديدة من مساجلات ومناظرات امتلأت بها رفوف عديدة بدور الكتب، ولكنها لا تجد الآن قارئا إلا دارسا متشوقاً يأتي اليها الفينة بعد الفينة، مناظرات لم تولد غير كراهات غاشمة أفسدت الأذهان وأساءت إلى التفكير الخالص في كلا المعسكرين على السواء، نظر فيها رجال الدين بأعينهم إلى الوراء، إلى السنوات الزاهرة الذاهبة حين المجد للدين وحده، والجبروت للعقيدة وحدها، والسلطان الذي لا يدافع لرجال الكنيسة وحدهم بلا منازع ولا متحدٍّ، فعز عليهم أن يسلموا كل هذا وان يعترفوا للعلم بكثير أو قليل.

على أن الخصام الذي بين العلم والدين قل في العصور الحديثة، أو على الأقل هدأت حدته، وذلك أن أهل اللاهوت تعلموا ولو في كثير من التباطؤ، وأذعنوا ولو في كثير من التلكؤ، واهتدوا أخيراً إلى التوفيق بين تعاليمهم وتعاليم العلوم الطبيعية من فلك وجيولوجيا حتى علم الحياة وكان أصعبها توفيقاً.

العلم والأخلاق

وما دام العلم يشتغل بملاحظة حقائق الوجود عن كثب، وبتدوين أحداث العالم المادي في أمانة ودقة، وما دام يخرِّج النتائج من الفروض تخريجاً صحيحاً، فقد جاز أن يصطدم بعقائد المسيحية التقليدية، وقد أصطدم فعلاً. وليس من الضروري (ما حبس نفسه في هذه الحدود) أن يصطدم بالأخلاق ما توجبه وما ترتضيه. ولكن عندما يبدأ العلم يطبق طرائقه التطبيقية على جسم الإنسان وبدنه فانه بذلك يخرج عن حدوده الأولى، ويبدأ يمس رأي الناس في أنفسهم وأعمالهم، وبدل أن يكون الخصام بين العلم والدين، يصبح خصاماً بين العلم وقانون الأخلاق العام وهو قانون يشد أجزاء المجتمع بعضها إلى بعض، كما يشد الملاط آجرَّ البناء، وعند ذلك يصبح قانونا مزعزع الأساس مشكوكا في سلطانه، ويصبح قضاؤه غير مبرم. ثم يتقاصر ظله ويتقاصر حتى يصبح عبداً للعلم خاضعا لنتائجه، مأموراً بعد ان كان آمراً؛ وعندئذ ينظر الإنسان بعين جديدة إلى الطبيعة البشرية، ويصبح الواجب البشري ذا سيطرة، ولكنها محدودة مشروطة.

وهُنا يتساءل: هل يكون للمعمل فتأوي أخلاقية خاصة يتحلل بها أصحابه من القانون الأخلاقي العام الذي يتبعون أوامره ونواهيه عن طيب خاطر حيثما ساروا في الدنيا الوسيعة حتى إذا هم دخلوا المعمل أغفلوها جميعا؟ أيجوز استخدام التجربة، ذلك السلاح الرهيب دون مراعاة صالح غير صالح المعرفة للمعرفة ذاتها؟ إلا ينقلب رفض العلم لمراعاة اعتبارات الحياة الأخرى سببا إلى اقتراف كثير من الأثام؟ وجملة الأمر هل تتقيد الطريقة العلمية بقيود خلقية أم تترك طليقة؟ وإذا هي تقيدت فما هي تلك القيود؟

قال هكسلي: (إن كل الفلسفات وكل الأديان تقريبا متفقة على أن الحقيقة والجمال والخير غايات ثلاث يطلبها الإنسان لذاتها دون ما عداها؛ أو على الأقل تتفق الفلسفة والأديان على ذلك نظريا، أما عند التنفيذ فتظهر اختلافات وتلوح مصاعب).

ومع ذلك فهكسلي لا يتنازل عن شيء للتنفيذ، ولا يجود بشيء مما يتطلبه العمل من الضرورات. فهو يقول: كثيرا ما يقال إن من الأشياء ما يعلو على الفحص والتمحيص لقداسته، ولكن الرغبة الشديدة في المعرفة الخالصة إذا ملأت رأس الإنسان لم تجز له تمحيص كل شيء فحسب، بل تحتم عليه ان يتتبع مباحثه غير آبه لأي المواضع قادته، غافلا عن كل صفات الأجسام المبحوثة ما دامت قابلة للبحث والفهم، فأن العقل الممحص لا يرى أن بحث الشيء يمنع منه قدسيته، وفضلا عن هذا فان التجربة دلت على أن المعرفة التي تنال من أجل نفسها عن هذا الطريق، تقع من النفس منزلة لا تنزلها هي نفسها لو أنها أصيبت عن طريق غير هذا.

قال هكسلي ذلك وهو يعرض للدين أكثر من عرضه للخلق، ولكن كلامه يمكن تمديده حتى يسع الأخلاق. وهكذا يصبح السؤال: هل يصح لنا أن نفترض أن (الغايات الثلاث التي يطلبها الإنسان لذاتها دون ما عداها) متوافقة في جوهرها كل التوافق حتى أن من يطلب الواحدة يحصل في النهاية على الجميع. يقول عميد كاتدرائية سانت بول: (يجب علينا إلا نفارق بين القيم الثلاث أو نخاصم بينها. فكلنا نتسلق الجبل في طريقنا إلى الله. ولكن من طرق ثلاث تؤدي كلها إلى قمة الجبل. ومن المحتمل أن نجد من هذه الطرق واحدة هي أيسرها في الصعود).

أنا لا أعُنى الآن بالنهاية التي تؤدي اليها القيم الثلاث، ولكن عنايتي الحاضرة بالنتائج العملية التي تنشأ عنها. أن استعارة العميد نفسها تتضمن انفصال الثلاث في سبيلها من الجبل، وهذا الانفصال هو بيت القصيد. فلنسلم جدلاً بأن النزاع القديم بين الفن الجميل والأخلاق أكثره سوء في فهم هذا، أو فهم ذلك، أو فهمهما كليهما، ولكن السؤال: هل للفنان أن يغمض بحق عينه عن الاعتبارات الخلقية وهو يعمل في دار فنه؟ هل دراسة الفن للفن قضية رصينة مقنعة؟. . .

شرائط العلم ثلاث

أنا أقول إن الطريقة العلمية مشروطة بشرائط ثلاثة، أولها الواجب الذي تفرضه الأخلاق على دارس العلم بحكم رجولته، ذلك الواجب الذي لا يستطيع أن ينسخه أي مأرب من مآرب العلم مهما كان. وثانيهما قيود لا بد من تقيد الطريقة العلمية بها، تحتمها حقوق أولئك الذين تؤثر فيهم تلك الطريقة، وثالثهما قيود يفرضها نوع النتاج المقصود من التجربة.