مجلة الرسالة/العدد 24/الشعر والشاعر
مجلة الرسالة/العدد 24/الشعر والشاعر
للدكتور عبد الوهاب عزام
سيدي صاحب الرسالة:
خطرت لي خطرة من الشعر في احدى الليالي منذ سبع سنين فأخذت القلم وكتبت الأبيات الآتية، ثم ألقيتها بين أوراقي. وكنت أقلب أوراقا منسية منذ أيام فعثرت عليها، وتذكرت اذ ذاك قوله تعالى: (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت.) فأردت أن أحمل صاحب الرسالة تبعتها فأرسلتها اليه، وله الخيار أن يئدها كما كانت، أو ينشرها:
هو وحيٌ في شعاع القمر ... يملأ القلب ضياء وسلاما
أو حديثُ في حفيف الشجر ... أفشت الريح له سرّاً فهاما
أو بكاء في حنين الوتر ... ملأ الأنفس وجداً وغراما
هو طل الفجر فوق الزَهر ... يملأ الروض دموعا وابتساما
ثم يبدو مثل قَدحْ الشرر ... بين خفق القلب والهّمِ صداما
أو تراه كالوصايا العشر ... بين ومض البرق والرعد كلاما
ذلك الشعر إذا ما تَرجما ... عن خفايا وحيه اللفظُ المبين
رب شعر وحيه قد كُتما ... أبلغ الأشعار ما لا يستبين
يخلق الشاعر خلقاً آخراً ... من خيال حائر فيه المدى
يجعل الليل غراباً طائراً ... خاف نسر الصبح لما أن غدا
ويرى النجم شريداً حائراً ... هام يبغي في الدياجي موردا
ويفيق الناس عنه ثائراً ... فيرى القصة خلقاً مسعِداً
يبرأ الأبطالَ فيها ساحراً ... فتراهم في البرايا خُلَّدا
مثلا في البِرِّ يبقى سائراً ... أو حليف اللعن يبقى أبدا
كم هدى الشاعر قبلا أمما ... وحدا فيها إلى العز المكين
وبنى للمجد فيهم سلّما ... فاستقاموا للمعالي صاعدين
وجه من يهواه روض ناضر ... أٌلِّفتْ فيه من السحر معاني
ومن الطرة ليلٌ كافر ... ضُلِّلَتَ فيه دموع وأماني دولة الحسن، عليها ساهر ... نابل من طرفه والحاجبان
ومن البحر جحيم ساجر ... ومن الوصل فراديس الجنان
غضبة الشاعر ليل زافر ... جلل الأرض بنار ودخان
ورضا الشاعر صبح سافر ... ملأ الأرض بنور وأمان
يصبغ العالم ما شاء كما ... لعبت باللون أيدي الراسمين
فإذا شاء أراه مأتما ... وإذا شاء فعُرس الفرِحين
ويلف السحب من نيرانها ... في إهاب الغيظ والحقد المكين
ويسل البرق من أجفانها ... سيف ثأر مٌصلتاً للظالمين
ويقود المزن من أرسانها ... بيد الريح شمالا أو يمين
ويعد الرعد من تحنانها ... حين يروي الأرض بالغيث الهتون
أو يرى فيه صدى طغيانها ... ردّدته رهبة للسامعين
ويقيم الطير في أفنانها ... شاديات باكيات كل حين
ويرى النهر دموعا ودما ... من عراك الدهر والقلب الحزين
أو يرى الصفحة سرا محكما ... نسجته الريح بين الناسجين
ويرى الورد ضحوكا طًربا ... إذ تُحليه من الطل درر
فإذا الورد ذوى واكتأبا ... وإذا الطل هو الدمع انتثر
ويرى البانة قدّا معجبا ... ماس في الروض دلالاً وخطر
ويرى الجدولِ صّلا هاربا ... في ظلال الأيك أعياه الوزَر
ويظن الريح دارت لعبا ... في ذرى الأشجار تلهو بالطرر
ويخال الطير غنّى مطربا ... يقرأ الحسن بصفحات الزهر
ضاق هذا العيش إلا حلما ... راق في الأهوال نومَ الكادحين
تضحك الآمال فيه كلما ... أبكت الآلام عيش البائسين
صاح والشاعر في نظراته ... يخرق الستر إلى سر الضمير
فيرى الآمال في طياته ... ودبيب الحزن فيه والسرور
يكشف المحزون في أنّاته ... اذ يراه الناس في ثوب الحبور ويجلي الخبِّ من سوءاته ... وجميع الناس منه في غرور
ويرى المحسن في هيئاته ... حين يُخفى فضله كل كفور
فشعاع الشعر في وهجاته ... كاشف للناس عن ذات الصدور
يقرأ الشاعر ما قد أبهما ... في ضمير الدهر آلاف السنين
ويرى الغائب مشهودا كما ... يَصُر الهدهد بالماء المعين
أو تراه مثل باز مدمر ... ملأ الدَّوح صياحا وصيالا
يجهد الشاعر طول العُمر ... فيرى الآمال يأسا ومحالا
فتراه مثل ليث هيصر ... عض في الأسر قيودا وحبالا
أو تراه كحمام هَدِر ... رتّل الحزن نشيدا فأطالا
ثم يلهو بجمال الزهَر ... فَكأنْ في الصدر غما ووبالا
فتراه عَنْدَليبَ الشجر ... واصفا في الروض حسنا وجمالا
صاح ما الشعر سبيلا، إنما ... هو صهر القلب في نار الشجون
صاح ما الشعر كلاما، انما ... هو ذوب النفس أو ماء العيون