مجلة الرسالة/العدد 237/النشر في مصر
مجلة الرسالة/العدد 237/النشر في مصر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قرأت ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام عن (التأليف والنشر في مصر). وقد روى فيه أن أحد أصحاب المعالي وزراء الدولة في الحكومة القائمة دعا إليه جماعة من الكتاب وحدثهم في تنشيط التأليف في مصر ومكافأة المؤلفين ووعد في هذا وعوداً حسنة.
وهذا صحيح، فقد روى لي مثله صديق من الكتاب، ولا علم لي بما ينوي وزير الدولة أن يصنع، وأحسبه لا يزال يستطلع الآراء ويستشير أهل الذكر في هذا، فلندع له بالتوفيق، ولنسأله تعالى ألا يشغله بما هو أهم وأولى بعناية وزراء الدولة، من شئون الدولة، ولو كنت مكانه لكان حسبي أن أستطيع تنظيم أمور النشر على وجه صالح ونحو عادل، ولتركت غيري من الوزراء يحملون الأعباء الأخر.
وخلاصة التجارب في هذا الباب أن الأدب في مصر لا يُعوَل عليه في أمور المعاش، وأن الأديب الذي ليست له صناعة أخرى يرتزق منها ويحيا بها خليق أن يموت جوعا. وقد كان المرحوم السباعي يقول على سبيل المزاح: إن الأديب ينبغي أن يكون أديباً وشيئاً آخر. . . طبالاً، أو زماراً، أو عواداً، أو غير ذلك مما يجري مجراه. والذي كان يقول هازلاً. هو الجد الصميم. ودع الطبل والزمر وما إلى هذا فما كان يريد إلا السخرية والنكتة، وكانت المرارة التي يحسها في نفسه تفيض على لسانه على هذا النحو. على أن الواقع مع ذلك أنه لا غنى للأديب في مصر عن مرتزق غير الأدب، يجعل معتمده بعد الله عليه. وما أعرف في هذا البلد أديباً وسعه أن يجتزئ بالأدب؛ ولو كان هذا مما يدخل في الطاقة عندنا لكنتُ من أحق الناس بالقدرة عليه.
وكلام فارغ كل ما يقال عن الحرفة وإدراكها للأديب، فما تفعل ذلك إلا في مثل بلادنا، وحتى أدباء العرب وشعراؤهم لم يدركهم شيء من الحرفة، وإنما كانوا هم المجانين، إلا إذا كان المقصود أن بلاء الحرفة من النفس؛ على أن هذا مبحث آخر، قد نعود إليه في فصل آخر.
وقد جربت كل وسائل النشر في مصر، وانتهيت إلى أن الأمر لا ينقصه سوى التنظيم. ففي مصر والبلاد العربية الأخرى عدد كاف من القراء يستطيع الكاتب أو الشاعر أن يعو عليه وهو مطمئن إليه، ولكن من العبث والعنت أيضاً أن تجشم الأديب فوق عمله أن يقوم بأعباء الطبع والنشر، وأن تتوقع أن يجني من كل هذا العناء ربحاً عادلاً. وليس لهذا الخلط من نتيجة سوى الاضطراب وفقدان الحقوق. وقد جرب كل أديب في مصر أن يتولى هو هذه الأعباء جميعاً وأن ينهض وحده بها جملة، فأخفق. وليس الإخفاق ألا تجني شيئا، بل أن تجني كل شيء ولا تشعر أنك جنيت شيئا. ولا أذكر هنا ما جرب غيري، فبحسبي ما جربت، وقد نشرت كتباً توليت أنا أمر طبعها ونشرها، ونفدت في زمن معقول، ولكن أصحاب المكاتب يختلفون، ولا سبيل إلى الاستغناء عنهم، وفيهم الأمين ذو الذمة، وفيهم الطامع المنهوم الذي لا يشبع ولا يرضيه إلا أن يخطف كتبك بغير ثمن. ومع ذلك لا يسعني إلا أن أعترف بأني ربحت، وإن كنت لم أشعر بذلك ولم أر له أدنى أثر في حياتي. وإذا حسبت الحساب على الورق وأحصيت ما أنفقت وما حصلت كانت النتيجة أني جمعت مبلغاً من المال لا يستهان به، ولكنه مال على الورق، لأني أنفقت جنيهات رجعت ألي قروشاً مبعثرة ذهبت إلى الشيطان وجربت أن ينفق غيري على طبع كتبي ويتولى عني نشرها ثم نتحاسب، فوقع لي ما يضحك وما يبكي. وأحب أن أستثني طائفة من الجادين المخلصين، وأقول بعد ذلك إن بعضهم نشر لي كتاباً طبع منه أربعة آلاف نسخة نفدت كلها في عام، وشرع يطبع لي كتاباً ثانياً، فقلت أحاسبه، وطلبت منه نصيبي، فكان جوابه الظريف أن دع الكتاب الأول فما أعرف أين ذهب، ولعلهُ سُرق أو حرق، ولنقصر الحساب - في أوانه - على الكتاب الثاني إن شاء الله!
فقلت له: يا أخي غفر الله لك! هل حسبتني هاوياً؟ أم ظننتني أني بائع كوارع؟ إن هذه صناعتي وهي مرتزقي، فإذا لم آخذ حقي فكيف بالله أعيش؟
فابتسم وربت لي على كتفي ملاطفاً، وقال: (العفو! العفو يا أستاذ، لا تقل هذا الكلام! سبحان الله العظيم!).
يعني أنه لا ينبغي لي أن أقول إن هذه صناعتي ومرتزقي! ويظهر أنه كان صادقاً وكنت أنا المخدوع، فقد عشت من غير أن آخذ منه حقي - ولا نصف مليم واحد منه!
وينفد الكتاب - عدة آلاف من نسخه - ثم يتبين لك أن الإسكندرية أو طنطا أو المنيا تسمع به وأن ما بيع بيع معظمه في مدينة واحدة هي العاصمة، والباقي رص في الصناديق وشحن على البواخر إلى الهند والعراق ومدغشقر الخ وتجيئك الكتب تترى بذلك، فتعلم أن النشر غير منظم، وأنه كان في وسعك أن تخرج للناس من كتابك أضعاف ما أخرجت لو أن هناك نظاماً.
والعلاج عندي ليس أن تعين الحكومة الأدباء، فإن هذا يفضي إلى الظلم والغبن، ولكل حكومة من تؤثرهم بعطفها وبرها؛ والأدب ينبغي أن يبقى حراً، وإلا فسد، وتعفن. ولو أن الحكومة أرادت الإنصاف وصدقت نيتها فيه، لوجدت أن الأمر يوشك أن يفشو عليها، والنتيجة المحققة على كل حال هي التمييز والغمط.
إنما العلاج الصحيح العملي أن تقوم شركة ذات راس مال كاف تتولى النشر، وتنظم أسواقه في البلدان العربية كلها، وترتب الأمر فيما بينها وبين الصحافة على نحو يكفل التنويه الوافي في أوانه، وقد استطاعت دور السينما أن تنظم علاقتها بالصحافة على وجه مرضي، فلن تعز عنه دار النشر. وبذلك يستريح الكتاب ويطمئنون على حقوقهم، ويثقون بسعة النشر ويوقنون من إمكان التعديل على ما يخرجون كما يفعل زملاؤهم في الغرب.
وفي هذه الحالة يتسنى ما لا يتسنى الآن: الطبع الجيد، والحجم الموافق، والربح المضمون، ومع ذلك انتظام عمل الأديب وإتاحة الفسحة الكافية من الوقت للتفكير والكتابة والإتقان.
هذه - فيما أعتقد - هي الوسيلة العملية؛ فإن الأسواق موجودة، والقراء يعدون بالآلاف في كل قطر، والصحافة أداة وافية: فالأمر لا ينقصه إلا التنظيم؛ وهذا لا يكون إلا بالمال الكافي، فهاتوا لي المال، ثم انظروا ماذا أصنع لكم يا إخوان! ولا تخافوا أن أبدده. نعم. ستحدثني نفسي بذلك وتحاول أن تحملني عليه، ولكني سأقاومها، وسأروض نفسي على هذه المقاومة من اليوم، فلا تخشوا شيئاً، ولا تقلقوا على مالكم، ومع ذلك فلأن أبدده أنا خير من أن تضيعوه أنتم. ومتى كنتم تحسنون الإنفاق؟
إبراهيم عبد القادر المازني