مجلة الرسالة/العدد 232/ثورة على الأخلاق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 232/ثورة على الأخلاق

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1937


معدة قرقرت ثم استقرت

للدكتور عبد الوهاب عزام

فأما صاحبك فقد ساءتني حربه وسلمه، وهو في سلمه اشد إساءة وأعظم جناية؛ صورته لي غاضباً للأخلاق، راثياً للفضيلة، ثائراً على الناس، يقذفهم بالتهم، ويرميهم بالحمم؛ يشتط في غضبته ويغلو في ثورته، فقلت: حر غضب فأخطأ، وكريم ثار فجار، وأبيٌّ برٌّ أسخطته المذلة، وهاجه الفجور، فانطلق لا يقف عند حد. ثم صورته قنوعاً مستسلماً فقلت: وا سوأتا! أهذا المبطان جادلت، وهذا الجبان نازلت؟ لقد كان جهاداً في غير عدو. لم تكن شقشقة هدرت ثم قرت، بل معدة قرقرت ثم استقرت. وما الشقاشق إلا لفحول الجمال، وأشباههم من فحول الرجال.

وأما أنت يا أخي الزيات فما أحسبك إلا شريك محمود في رأيه، أو أصاحب وحيه؛ قدمته للكلام ونطقت على لسانه، وعرضته للنضال ونزعت في قوسه، ولا أقول أقمته مقام الوثن من سادنه، والصنم من كاهنه. فلما تبين انه في الخصام غير مبين، وفي المآزق غير دفاع، وفي المعارك لا يثبت للمصاع؛ وإنه لجوع يثيره، وشبع يرضيه، أبدلت به جماعة حسبتهم أقوم بحجتك، واشد هيبة في صدور خصومك فقلت: (على أن مجلسنا كان حافلاً بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب، وكلهم كانوا له وعليك) واكبر ظني أن هؤلاء (رجال العلم والدين والأدب) شركوا محموداً في المائدة. وإلا فكيف جمعهم بمحمود المجلس وقد (قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية)؟ والعجيب أن تذهب المائدة بثورة محمود وتثير سخط هؤلاء. ولعله كان أثبتهم على المائدة حملة، وأطيشهم في الصحاف يداً. ولعلهم آثروا القناعة، واصطنعوا الحياء، وتمسكوا بالأخلاق فحرموا، فكانت ثورتهم على الأخلاق.

وبعد فموضع الخلاف بيننا هذه القضية: هل الخلق الفاضل سبيل النجاح؟ قال محمود إبان ثورته: لا، وقلت: نعم نعم. وضربت مثلاً الصانع المجيد، الحسن المعاملة، الصادق الوعد، والتاجر الأمين المخلص، والمزارع الأمين. ثم قلت: (ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة؛ ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته، إن أستقرض اقرض، وإن استعار أعير، الخ) فبأي هذا يرتاب أصحابك؟ يقولون: ما أهون الأخلاق إن كان قصاراها هذا النجاح الحقير ويقولون إن الذين ضربتهم مثلاً من الأخيار لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً من رجال المال والأعمال كفلان وفلان - وأنا يا صديقي ما خصصت بقولي ضرباً من النجاح دون ضرب. ولم يكن ذكري التاجر والصانع والمزارع إلا مثلاً و (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما، بعوضة فما فوقها) ولا أتم الآية إشفاقاً على أصحابك أني أقولها كلمة عامة شاملة: الخلق الفاضل، في اغلب الأحوال، سبيل إلى النجاح في كل طرائق الحياة؛ إن اخفق حينا نجح أحياناً، وإن أكدى مرة أورى مرارا. فالحاكم الخير، والرئيس البر، والقائد الصالح، والمؤلف الصادق، والأديب النزيه، والصانع والتاجر والزارع، بل الموظف، كل أولئك اقرب إلى النجح واظفر بالطلبة في اكثر الأحوال من أمثالهم من الأشرار، بعد أن يتخذوا للمقاصد سبلها، ويعدوا لكل أمر عدته. فان قصروا في الأهبة وتوانوا في اتخاذ العدة فماذا يجديهم الخلق وحده؟ إن بعض الأخيار تجنبوا المعارك، وأشفقوا من المهالك، وضيعوا الحزم، فلما أوفت بهم الأعمال على نتائجها التبس الأمر على كثير من الناس فحسبوا إخفاقهم بما استمسكوا بالحق والخلق الطيب، وخالوا نجاح أضدادهم بما ركبوا إلى غاياتهم مراكب الباطل والرذيلة. فقل لهؤلاء: أعيدوا النظر واحسنوا التفكير، ولا تقصروا النجاح على المال فيجور بكم المنطق؛ فهناك الكرامة والجاه والرياسة والزعامة، وهناك الطاعة والمودة. وانظروا إلى الزعماء الذين يسوسون الأمم أهم من أصحاب المال؟

وقلت في مقالي السابق: إن للأخيار إلى مقاصدهم سبيلاً واحدة، وللأشرار سبلاً شتى، ولكن هذه السبيل الواحدة أحرى بان تؤدي إلى الغاية، وتوفي على المطلوب. فقلت إن أصحابك يرون في قالتي هذه نزوعاً إلى رأي محمود. ثم قلت: (ومادام جوهر الرأي واحداً فالسبيل القاصدة أن نطب لهذه الحال بما يوائم بين طموح الناس وكرامة الأخلاق وسلامة المجتمع) ثم قلت انه لا معدى عن إحدى وسيلتين: أن تحمل الناس بالدين والسلطان على سبيل الحق الواحدة وذلك (خيال نبيل لا يقع في الإمكان)، وأما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق، وهذا (على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد)

وجوابي انه ليس في كلامي نزوع إلى رأى محمود إلا أن تقطع المقدمات بعضها عن بعض، ويفصل بين أول الحجة وآخرها. وإما الدعوة إلى إعادة النظر في الأخلاق فأنا لم اعد في مقالي جملة الأمر إلى تفصيله. لم أجادل عن خلق بعينه، ولم اقل أن خلقا ما صالح لهذا الزمن أو غير صالح، ولكني قلت إن الأخلاق الفاضلة التي تتفق عليها أمة أو أمم لا تكون سبلا إلى الخيبة والحرمان. وإن أردت أن نعيد النظر في الأخلاق فما أنا بمنكر أن الأخلاق تقبل بعض التغير، ولكني لا أخال إعادة النظر ستغير تغيراً ذا بال فيما سارت عليه الأمم منذ هداها الوجدان والعقل إلى سبل الخير؛ ولن تحلل هذه الإعادة رذائل كالكذب والسرقة والتزوير والظلم، أو تحرم فضائل كالصدق والأمانة والعدل. ومهما تكن النتيجة فالأخلاق القديمة أو الجديدة لا تكون قرينة الخيبة والشقاء.

وقد ذكرت أيها الأخ الكريم أخلاقاً تجعلها مثلا لما تريد تغيره. ذكرت التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل، وهذه أمور يختلف فيها النظر وليست من قواعد الأخلاق. فقل فيها ما يهديك إليه النظر الصائب. ورأيي أن التواضع محمود ما لم يكن ذلة، والقناعة حميدة بقدر ما تحول بين الإنسان وبين الشره والاستكلاب. فان كانت ضعفاً في الهمة وعجزاً عن الإدراك فهي رذيلة. وكذلك الزهد. وأما التوكل فان يكن استكانة للحادثات، وخنوعاً لكل ما هو آت، فلا يرضاه إنسان؛ وان كان ثقة بالنفس وانطلاقا في سبل الحياة لا ترده دون غايته المشاق والأهوال فما أحوج الناس إليه.

يا أخي: قد أساء العجز والذل تأويل هذه الأمور. أنت تعرف أن المثل الأعلى للرجل المسلم أن يكون طماحاً إلى ابعد غايته، واثقاً بنفسه إلى غير نهاية، حراً لا يقر بعبودية، أبياً لا يقيم على دنية؛ يرى نفسه قائماً في هذا العالم بالقسط قد وكل الله إليه تصريف الأمور وتقسيم الأرزاق، والهيمنة على الأخلاق. وأين هذه مما فهمه الناس من التواضع والتوكل. الخ

وأما الربا فلا يتسع المقام للكلام فيه. وحسبك هذه الثورات الثائرة حوله، والمعارك الهائجة فيه بين البلشفية والرأسمالية. وأما قياس الأخلاق بالنفع والضر فقد ذهب إليه بعض علماء الأخلاق، ولكن مذهباً ينتهي إلى منفعة الجماعة وضررها لا منفعة الفرد وضرره. ولن تقوم لأمة قائمة أن جعلت مقياس أخلاقها نزوات كل إنسان ونزغات كل فرد.

وبعد فيا صديقي ارني حدت عن الموضوع الأول استطراداً معك، فارجع إلى محمود احمده على ثورته مخطئاً، وأذمه على هدوئه مصيباً. فقد تمثل لي في الأولى حرا ثائراً يريد أن يقلب نظم الأخلاق في الأمة، وتمثل لي في الثانية تُكلةً نكساً مبطاناً لم يدع على المائدة فتاتاً، ولم تدع فيه المائدة فيه بقية لهمة أو عزيمة أو ثورة. فرحمه الله جوعان ثائراً، وأخزاه الله شبعان خائراً

عبد الوهاب عزام