مجلة الرسالة/العدد 231/نقل الأديب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 231/نقل الأديب

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1937



للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

318 - ما أشبه فروع الإحسان بأصوله

البحتري: قال إبراهيم بن الحسن بن السهل: كان المأمون يتعصب للأوائل من الشعراء، ويقول: انقضى الشعر مع ملك بني أمية. وكان عمي الفضل بن سهل يقول له: الأوائل حجة وأصول، وهؤلاء أحسن تفريعاً. إلى أن أنشده يوماً عبد الله بن أيوب التيمي شعراً مدحه فيه، فلما بلغ قوله:

ترى ظاهر المأمون أحسن ظاهر ... وأحسن منه ما أسرّ وأضمرا

يناجي له نفساً تريع بهمة ... إلى كل معروف وقلبا مطهرا

ويخشع إكباراً له كلُّ ناظر ... ويأبى لخوف الله أن يتكبرا

فقال للفضل: ما بعد هذا المدح، وما أشبه فروع الإحسان بأصوله!

319 - أشعر الشعراء

في (المثل السائر) لابن الأثير: يُروي عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره، فقيل له: ولِمَ ذاك؟ فقال: لأني نظمت اثنتي عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد، فيكون لي اثنا عشر ألف بيت. وقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا له، لأن (باقلا) لو نظم قصيداً ما خلا من بيت واحد جيد. وقد وصل إلى ما بأيدي الناس من شعره فما وجدته بتلك الغاية التي ادعاها لكن وجدت جيده قليلاً بالنسبة إلى رديئه، وتندر له الأبيات اليسيرة. وبلغني عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما أنهم قالوا هو أشعر الشعراء المحدثين قاطبة، وهم عندي معذورون لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام وأبي الطيب ولا على ديباجة البحتري. وهذا الموضع لا يستفتي فيه علماء العربية، وإنما يستفتي فيه كاتب بليغ أو شاعر مفلق، فإن أهل كل علم أعلم به. على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة؛ وما من أحد إلا يحب أن يتكلم فيه حتى أني رأيت أجلاف العامة وأغتام الأجناس كلهم يخوضون في فن الكتابة والشعر، ويأتون بكل مضحكة. والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريراً والأخطل أشعر الشعراء أولاً وآخراً، ومن وقف على دواوينهم علم ما أشرت إليه. وأشعر من هؤلاء عندي الثلاثة المتأخرون وهم أبو تمام والبحتري والمتنبي فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء؛ أما أبو تمام وأبو الطيب فربا المعاني، وأما أبو عبادة فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها.

320 - الشعر المغسول

في (الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء) لأبي عبيدة الله المرزباني: قال البحتري: دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه، وأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا أشجع السُّلَمي. فقال لي: إنه (يُخلى) وأعادها مرات ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت أفكرت في الكلمة، ونظرت في شعر أشجع فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة، وليس فيها بيت رائع، وإذا هو يريد هذا بعينه: إنه يعمل الأبيات ولا تصيب فيها بيتاً نادراً كما أن الرامي إذا لم يصب من رشقه كله الغرض بشيء قيل (أخلي) فجعل ذلك قياساً، وكان علي بن الجهم عالماً بالشعر.

321 - وإنما لمعان تعشق المصور

أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الأصبهاني:

قوم لو أنهمُ ارتاضوا لما قرَضوا ... أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا

لا يحسن الشعر ما لمُ يسترقَّ له ... حرّ الكلام، وتستخدمْ له الفكَر

أنظرْ تجدْ صور الأشعار واحدة ... وإنما لِمعانٍ تعشق الصور

322 - اختيار الوزن والقافية

قال الصاحب في رسالته (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي): كنت أقرأ على (الأستاذ الرئيس ابن العميد) شعر ابن المعتز متخيراً الأنفس فالأنفس، فابتدأت قصيدة على المديد الأول، فرسم تجاوزها، وقدَّرته يحفظها ولا يرضاها. فسألته عنها، فقال: هذا الوزن لا يقع طلبه للمحدثين جيد الشعر. فتتبعت عدة قصائد على هذا الضرب فوجدتها في نهاية الضعف. وسمعته (أيده الله) يقول: إن أكثر الشعراء ليس يدرون كيف يجب أن يوضع الشعر، ويبتدأ النسج، لأن حق الشاعر أن يتأمل الغرض الذي قصده، والمعنى الذي اعتمده، وينظر في أيّ الأوزان يكون أحسن استمراراً، ومع أي القوافي يحصل أجمل اطراداً، فيركب مركباً لا يخشى انقطاعه والتياثه عليه.

323 - فلقى الله شبعان ربان دفيئاً

قال أعرابي وهو يدعو الله بباب الكعبة: اللهم ميتة كميتة أبي خارجة. فسألوه، فقال: أكل بَذَجاً وشرب وطبْاً من اللبن، وتروى من النبيذ، ونام في الشمس فمات؛ فلقي الله شبعان ريان دفيئاً.

324 - طلعها كأنها رؤوس الشياطين

في (الكامل): التشبيه جار كثير في كلام العرب حتى لو قال قائل هو أكثر كلامهم لم يبعد. قال عز وجل وله المثل الأعلى: (الزجاجة كأنها كوكب دري) وقال: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين). وقد اعترض معترض من الجهالة الملحدين في هذه الآية فقال: إنما يمثل الغائب بالحاضر، ورؤوس الشياطين لم نرها فكيف يقع التمثيل بها؟ وهؤلاء في هذا القول كما قال الله: (بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله). وهذه الآية قد جاء تفسيرها في ضربين: أحدهما أن شجراً يقال له: (الآستَن) منكر الصورة يقال لثمره: رؤوس الشياطين، وزعم الأصمعي أن هذا الشجر يسمى الصوم. والقول الآخر - وهو الذي يسبق إلى القلب -: إن الله شنع رؤوس الشياطين في قلوب العباد، وكان ذلك أبلغ من المعاينة، ثم مثل هذه الشجرة بما تنفر منه كل نفس.

325 - إلا التنقل من حال إلى حال

في (تأريخ الطبري): قال أبو العتاهية: وجّه إليّ المأمون يوماً فصرت إليه، فألفيته مطرقاً مفكراً، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال، فرفع رأسه فنظر إليّ، وأشار بيده أن ادنُ فدنوت، ثم أطرق ملياً، ورفع رأسه فقال: يا أبا اسحق، شأن النفس الملل وحُبُّ الاستطراف، تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة. فقلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت. قال: وما هو؟ قلت:

لا يُصلح النفس إذ كانت مقسَّمَةً ... إلا التنقّلُ من حال إلى حال