مجلة الرسالة/العدد 231/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 231/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1937



مشهد غرامي من أنتوني ترولوب

غرام راهب

للأستاذ دريني خشبة

لم يكن لَبقاً سيدنا الحَبْر الجليل - المستر سلوب - حين حاول هذه المرة أن يُنَقّل فؤاده حيث شاء من الهوى. . . فلقد عرف الناس أنه مشغوف بالسيدة (. . . بولد) وأنه يسعى جهده ليحظى بها زوجة مثرية غنية ذات مال وذات جمال، وذات ريع ثابت يَقُدْره العارفون بألف أحمر رنان تقبضها غير منقوصة كل سنة. . . عرف الناس هذا، وحرص سيدنا الحَبْر الجليل على ألا تفلته هذه الفرصة النادرة التي تضمن له غَرْفةً من كنوز قارون في كل مطلع عام جديد، فيضمن نوال الدنيا و. . . حسن ثواب الآخرة!!

ولم يكن أحد يعيب عليه قط مجازفته الغرامية هذه، لأنها كانت في سبيل الزواج. . . والزواج شيء عادي أقرته الأديان ونزلت به الشرائع. . . أما أنه راهب فلا بأس، فإنها رهبانية ما فرضها الله على أحد، فلم يفرضها سيدنا الحَبْر الجليل - المستر سلوب - على نفسه؟!

وسيدنا الحَبْر الجليل رجل يعرف حق الدنيا كما يعرف حق الآخرة ويعطي لقلبه من هذه الدنيا تسعة وتسعين من أنصبتها المائة المقسمة بينه وبين عقله. . . لذلك كان شعوره يطغى على تفكيره. . . وكان هواه المتقد وعاطفته المشبوبة لا يتفقان ومركزه الذي أساسه أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر والبغي.

فلقد عرف هذا الحَبْر السيدة (. . . بولد) الأرمل، بعد أن مات زوجها، وبعد أن ترك لها هذه الثروة الهائلة التي أسالت لعاب المستر سلوب، وشبت أطماعه. . . فلم ير بأساً أن يصل أسبابه بأسبابها، وأن يملقها ويدهن لها، وأن يزخرف لها حباً يوهمها به أن له ناراً تتأجج في قلبه، وتندلع بين أضالعه. . . وكان للأرمل الغنية شيء من الجمال غير قليل. . . وإن كان جمالها يذهب به كثرة اللحم والشحم، وقصر الرقبة واستكراش البطن، وترهل الثديين قليلاً. . . ولكن وجهها كان ذا رواء وسيماء، خصوصاً حين تعالجه بالأصباغ والدمام، وسائر فنون التطرية. . . لقد كانت تجلب له حسناً مصنوعاً يغري المساكين من أمثال سيدنا الحَبْر الجليل المستر سلوب، فكيف وقد حازت هذا الثراء الضخم، والغنى الواسع، والدخل المضمون؟. . . إنها ما أغنى وما اقنى، فلم لا يغضي الحَبْر الجليل عن بعض العيوب التي جرها الشحم واللحم؟ ولم لا يذكر أنه هو الآخر ليس وسيماً قسيماً، ولا نحيل القد ممشوق القوام، ولا له لفتة الظبي ولا خيلاء الطاووس!؟ بلى، ينبغي أن يذكر لحيته الهائلة التي تحجب عين الشمس عما تحتها من وجه مكلثم، وصدر كأنه نصف جبل حملته ساقا عفريت. وهكذا ينبغي أن يخجل قلبه المنهوم بالجمال قليلاً، فنظرة خاطفة في المرآة تقنعه بمحاسن الأرمل السيدة بولد، ونظرة أخرى إلى ثروتها الكبيرة تجعلها أجمل حسان الدنيا.

ولكن قلب الحَبْر الجليل ليس من هذه القلوب الرطبة التي تقنع بصيد واحد، لا سيما إذا كان هذا الصيد وثناً من أوثان الدنيا التي تغري بالذهب، وتجذب بالثروة، وتتكلم بالدنانير. . لا. . ليس لمثل هذا الصيد يخفق قلب الراهب الذي يشغفه الجمال فهو ينبض له، وتجذبه مفاتن الحسن فهو يهيم بها. . . إن لمثل هذا القلب في هذه الدنيا حقوقاً يقتضيها من خدود الغيد وعيون الخرَّد الأماليد، وهو لا شأن له بالذهب الذي يضمن سعة الحياة ورغد العيش وإقبال الأيام. . . ومن أجل ذلك فليس لقلب المستر سلوب من هذه الأرمل الغنية نصيب، فهي صيد نفيس سمين لأطماعه، ومن أجل ذلك فلينطلق هذا القلب في دنيا الجمال ينشد صيده، فهو لا يعنيه أن يعكف على وثن من الذهب يتعبده ولا يهواه.

هذه هي السيدة. . . بولد. . . أما السينورة نيروني، فزوجة وفية للسينور نيروني من كبار رجال السياسة والطب، وقد تزوجها السينور لجمالها البارع، ولهذه الألغاز العميقة التي تمتلئ بها عيناها السحريتان؛ وتلك الظلال الحزينة الفاتنة التي تموه جبينها بمثل ظلال الغروب. . . وليس شك أن السينور يحبها ويحرص على مرضاتها، وأكبر ما يعطف قلبه عليها أنها مقعدة، أو كالمقعدة، لأنها أصيبت بلين في عظام ساقيها بعد أن بنى عليها. . . ولسنا ندري إذا كانت السينورة تحبه، أو تحب أحداً من العالمين. . . فلقد عبست للحياة وتنكرت لمباهجها وأول هذه المباهج الحب. . وكان السينور يفرط في منحها حرية الاجتماع بمن تشاء، والخلوة بمن تحب؛ وكانت هي كالعنكبوت الصناع التي لا تفتأ تنسج شراكها للذباب، فلم يكن أحد يخلو إليها حتى تصمي قلبه بنظرة أو نظرتين من عينيها القتالتين فتزلزله ويصبح لها عبداً وبها هائماً وكأنما كانت تنتقم لنفسها من الناس فهي تعذبهم بالحب الذي لم تبُله، وتكوي قلوبهم بالغرام الذي لم تعرفه. وقد أولعت بذلك حتى صار طبعاً ثانياً لها، وهي لا تستحي أن تفخر بذلك وتباهي به، فتقول لأختها: (إنها لا تعجز عن إذلال قلوب الجبابرة وقسرهم على التمرغ تحت قدميها. . .) ولم يكن بدعاً إذن أن يكثر عشاقها حتى يربوا على العشرين. . . وكان أحرهم شغفاً بها هو هذا الحَبْر الجليل العلامة المستر سلوب، الذي لم يكد يراها حتى نسى نفسه ووسوس له شيطانه، فعقد أواصر بأواصر السينور نيروني، ثم بأواصر السينورة من بعد. . . وأي بأس في أن يحتفظ بالسيدة بولد لنفسه الأمارة الطماعة، وبالسينورة لقلبه المنهوم بكل هيفاء حسناء. . . لا بأس قط. . . فليضع في قوس كيوبيد وَترين عردّين، ولْير كيف يصيب بهذه القوس إن كان مثله يحسن أن يحمل مثلها. . . ثم ليكن جريئاً. . . فلا يبالي رجال الكهنوت وهذه المعاطف الفضفاضة السود، ومقالة السَّوء التي يثلبونه بها. . . وليزر السينور نيروني في الوقت الذي لا يكون السينور موجوداً فيه في منزله، ولا جرم أن السينورة ستلقاه حينئذ، وسيشرب في حضرتها قدحاً من القهوة. . . وربما أمرت له بكوب من نبيذ بردو يبعث الدم حاراً في عروقه فيزداد جرأة وإقداماً، وقد يجد الفرصة الجميلة فيكشف عن خبيئة قلبه لهذه السيدة اللعوب. . . ليس ضير أن يفشل مرات ومرات في البوح لها. . . على أن السينورة الحصيفة اللبيبة قد عرفت ما يجتاح قلبه من حبها لأول زَوْرَة من زياراته الصباحية المفتعلة التي حسب أنه شرفها بها. . . ولقد كانت السينورة واسعة الثقافة، بل كانت أكثر من ذلك، كانت فيلسوفة بفطرتها، تجيد الفلسفة التطبيقية في كل أحوالها. . . وكانت تجيد ذلك على الخصوص مع رجال الدين. . . فما بالك بحبر جليل من عظمائهم ينسى نفسه بين يديها، وينسى وظيفته في الحياة، وينسى دقات الناقوس التي توقظ الغافلين وينسى بيانه الذي يرهب به ويرغب. . . وينسى كل شيء. . . حتى صور القديسين والحواريين التي كانت تهاجمه كلما خلا إلى السينورة فلا يأبه بها، ولا يعنى بهتافها به كما يعنى بانتقاء العطور التي يضمخ بها نفسه، والبنيقات التي يحرص أن تكون نظيفة ناصعة، وبكل ما يظهره فتى في عين السينورة، من منديل جميل وقفاز جديد. . . و. . .

وذهب الراهب الوقور ليسأل كعادته عن السينور فلم يجده، وأدخل إلى السينورة فلم تعن به إلا كما يعني الصبية بغماز الشص ينبه عن فريسة السمك. . . ووجدها كدأبها دائماً مضطجعة فوق كنبة وثيرة عند مكتبها الفخم، وبيدها يراعها الأبنوس الثمين، وأمامها صحيفة تخط فيها كلاماً قالت عنه وهي تتخابث إنه خطاب أوشكت أن تكتبه للحبر الجليل. . . ثم مدت يدها الجميلة البضة لسيدنا الراهب فتناولها في يده المرتجفة، وانحنى برأسه الكبير ولحيته المنكرة فلثمها، وهو يخيل إليه أنه يسرق القبلة الذهبية من كنوز سليمان. . . يا له من منظر عجيب!! لقد كان شيء كبير هائل شائه كرأس ثور، ينحني فيبحث في زهرة يانعة جنى عليها المنجل فقذفها في طعامه. . . . . . بل كان أغرب من هذا. . . لقد كان كالتنين الهولة يغازل فينوس ربة الحسن!

- لقد أوشكت أكتب إليك، فأما وقد جئت، فلألق بما كتبت في سلة المهملات. . .

- لا. . . لن يكون مصير ما تتفضلين بكتابته إلى هذا المصير. . . لأحتفظ به إلى الأبد، فإذا كان لا بد من إبادته، فلأحرق له بخوراً ولألق به في ناره! أليس كانت ديدو تصنع مثل هذا؟

- أنا لا أحترم ديدو هذه أيها الأب. . . لقد كنت أوثر أن تكون ديدو مثل كليوبترة حين رأت ما حاق بحبيبها فآثرت أن تلحق به، حتى بين المطرقة والسندال. . . أيها الأب الكريم مستر سلوب، أرجو ألا تخلط بين جد الحياة وبين عبث الحب!)

وصبغت حمرة الخجل وجنات الحَبْر الجليل لأنه أيقن أن السينورة تعرض بما بينه وبين المسز بولد، وأنها تشتهي أن تذله كما أذلت عشرين عاشقاً لها من قبل. . . ثم لم تشأ أن تقسو عليه فقالت تعبث به متلطفة:

- ماذا؟ إني ما أزال أقولها لك في صراحة: لا تخلط بين عبث الحب وجد الحياة. . . إن أمامك ثروة واسعة، ومدينة من الذهب شاسعة، وإنك تشتهي أن تكون صاحبها، فأقدم بحزم، ولا تتلف أطماعك بهذا الحب الطارئ؛ فإن كنت في عرض الدنيا زاهداً، فأحب كما ينبغي أن يكون الحب. . . هب الحب كل قلبك فالحب يكره أن يشركه أحد في القلب. . . فإذا أبيت إلا أن تصيب الحسنيين فأعلم أنك من الآن فاشل. . . فأيهما تؤثر أيها الأب: المال، أم الحب والجمال؟! وطافت برأسه طائفة من الأفكار، ولكنها طافت بسرعة البرق، فقال: (بل الحب، ولا شيء غير الحب. . . الحب الذي ينبغي أن يقهر كل رغبة وأن يسود جميع الأطماع. . .)

- بل آثر أن تستمع إلى نصيحتي، وتذكر ما بعد نشوة الأسبوعين أو الثلاثة الأسابيع من عمر الحب. . .! إنها الخيبة وانعكاس الأمل. . . إنه ما حدث في الأساطير لنميزيس التي لم يحب أحد كما أحبت ولا أكتوى عاشق بمثل ما اكتوت. . . أن التفاني في الحب يعني الفشل فيه. . . والحب الصحيح يعدل الفنوط من جني الثمرة المشتهاة. . . أو لم تحب جولييت؟ أو لم تحب ديدو؟ وهايدي كذلك! وترويلوس؟ ألم يحب حباً طمس رجولته؟

- بلى. . . لقد أحب ترويلوس ولكن تغفلته حبيبته، ويستطيع كل إنسان أن يحب ولا يكون ترويلوس، فليس كل النساء كرسيدز!

- هذا حق، ولكن عدم الإخلاص ليس كله من جانب المرأة، بل لكم النصيب الأوفى فيه. . . فلقد أخلصت إملوجين، فماذا كان جزاؤها؟ ألم يتهمها زوجها أنها صبت إلى أول ضيف انفردت وإياه لأول مرة في غيابه؟ وديدمونا؟ لم خنقها بعلها؟ ألم تكن مخلصة وفية؟ وأوفليا؟ ألم تجنّ بإخلاصها؟ إنه يبدو لي ألا سعادة في الحب إلا في خاتمة القصة الإنجليزية! أما هذه الدنيا السحرية ففي ذهبها وجمالها وفتنتها وخيراتها سعادة محسّة لا مراء فيها. . . سعادة يسع كل أحد أن يهنأ بها ويرشف ما شاء من معينها. . .

وارتبك الحَبْر الجليل قليلاً ثم قال: (أوه! كلا. . . إن كل هذه الدنيا بجميع ما حوت من حطام لا يمكن أن تؤدي إلى السعادة!)

- إذن ما الذي يستطيع أن يجعلك سعيداً أيها الأب؟ ما المعين الذي لا ينضب، الذي تنشد منه سعادتك؟ لن تقول ألا معين لك، فلكل من الناس معينه الخاص!

وغلب الحَبْر خباله الديني فأجاب: (قد يبحث الإنسان عن سعادته فيعييه البحث، ذلك لأننا نبحث عنها دائماً في هذه الأرض، وهي لا تكون إلا في السماء!!

- صه، ويلك! إنك تقول بلسانك ما ليس في قلبك. . . إنها تعاليمكم التي لم تستطع أن تشفي أطماعكم في هذه الدنيا. . .! إذا لم يكن شيء من السعادة حقاً في هذا العالم الفاني فلم جاهدت أن تكون قساً وجاهد أصحابك معك؟ لم طمعتم في حطام هذا الفناء وتشبثتم به؟

- ذلك لأني لم أطّهر من شوائب آدميتي، فإن لي كما لجميع الناس أطماعاً. . .

- صدقت، ولذلك قلت لك إنك تقول بلسانك ما ليس في قلبك، وإنك تسلم بما لا تؤمن، وإنك تبيع للناس عظات لا تعتقد بصحتها. . . لقد كان القديس بول مؤمناً حقاً، ولذلك لم تفسد الدنيا بكل ما فيها من زخارف تعاليمه؛ وكان مثله القس اللاهوتي المتزمت، الذي قضى نصف عمره قائماً فوق عمود في أرض الفراعنة. . . أنا أجل هؤلاء واضرابهم، لأنهم يؤمنون بالشيء فيبدو إيمانهم في كل ما يصدر عنهم. . . فإذا دعا رجل الدين إلى فضيلة ولم يكن متحلياً بها، فتعساً له، وتعساً للفضيلة تخرج من فمه فتكون رغاءً. . .

وانعقد لسان الحَبْر الجليل فلم يحر جواباً. . . وأنى له أن يستذكر تعاليم مولاه التي أعطى مركزه ليبشر بها بين الناس ما دام الشيطان يملك زمامه، ويؤجج نيران الجحيم بين يديه. . . ثم أنى له أن يجسر على هذه التعاليم فيذلها لشهواته، وهو يعلم ويؤمن، أن مولاه الإله محيط به، ما تكاد تكون له نجوى إلا هو عالم بها؟! وقد طربت السينورة لما بدا عليه من بدوات الحيرة والقلق والأرتباك، فقالت له: (يبدو لي أن ذكاءك وتوقد ذهنك يسلمان بهذه القضايا، بيد أنني ألحظ أن قلبك وعاطفتك عميَّان عنها، أليس كذلك؟)

- قلبي!! أنك أنت التي توجدين ثغرة هائلة بين ذهنك وبين قلبك، بين ذكائك وبين عاطفتك. . . إني أتهمك بما تتهميني به. . .)

ثم حمل كرسياً ودنا من السينورة بحيث لم يعد يحجز بينهما إلا زاوية المكتب الفخم الذي كانت تكتب عليه، وكانت يدها الجميلة الساحرة ممتدة عليه، فبلع سيدنا الحَبْر الجليل ريقه، ووضع يده الثقيلة الملتهبة عليها. . . فقالت له:

- هذا يعني أنك. . . تحب! وأنك تجعل مني جنَّةً مقمرة لأحلامك؟!

- ولم لا! إن حبك يصلح لأن يكون جنة واسعة مقمرة لأحلام ملك!

- لأحلام ملك؟ هه! بل قل لأحلام رئيس أساقفة يا عزيزي المستر سلوب!! ولمه؟ إنكم دائماً تعسلون لنا زخرف القول أيها الرجال! وأنتم خاصة أيها الأحبار أمهر الناس في توشية الكلام. . كن شجاعاً يا عزيزي المستر سلوب وانظر إلي بمجاميع عينيك.

وكانت قد سحبت يدها الجميلة الساحرة بعيداً من يده فنظر إليها بعينيه الجائعتين المنهومتين نظرة الوامق الملتاع، ومد يده ليقبض على يدها، لكنها رمقته بعينيها الجميلتين الصارمتين وقالت له: (لقد رجوتك أن تحول حماسة يديك الجبارتين إلى عينيك الحالمتين يا مستر سلوب لكنك لم تفعل. . .)

وكان قلب الحَبْر الجليل قد انماث من لوعة الحب، وتعذيب الحبيبة، فصرخ شاكياً:

- أوه مدلين!!

فتبسمت عن ثنايا كاللؤلؤ وقالت له: (حسن، أن أسمي مادلين، هذا لا ريب فيه، ولكن أحداً من العالمين لا يجرؤ أن يناديني به إلا أن يكون من أسرتي، أفتريد أن أفهم من ذلك يا مستر سلوب أنك تحبني وتتعشقني؟!)

وارتبك الحَبْر الجليل، ولم يدر ماذا يصنع، لأنه إنما أتى إلى بيت السينور ليجلس جلسة غرامية من غير أن يصرح بلسانه أنه يحب، فلما بدهته هي بهذا السؤال لم يستطع إلا أن يجثو على ركبتيه أمام الأريكة، ويصرح أنه إنما يحب السينورة حقاً، ولكن لا كما يحب الناس!! فلما قالها. . . بدهته السينورة بسؤال آخر فقالت:

- (والآن، أتستطيع أن تخبرني متى تتزوج بالسيدة ألينور بولد؟!)

ولم يستطع المسكين إلا أن يقول: (ولأمر ما ترمينني بتهمة النفاق والتغرير بك يا عزيزتي؟

- نفاق! أنا لم أقل شيئاً من هذا أيها الأب! ولكنه يبدو لي أنك تحب أن تدافع عن نفسك فيما يتعلق بي؟ فلم هذا؟ لم لا تبقي دفاعك لتقدمه بين يدي السيدة ألينور؟ إنها هي التي ستتزوج منك، أما أنا فامرأة ذات جمال راقتك، وليس هذا شيئاً، ألا ما أبرعكم في التخريج يا رجال الدين؟

- لقد بحت لك يا عزيزتي السينورة أنني أحبك. . أهواك. أعبدك. . . فلم تعيّرينني؟

- أُعيرّك؟ يالله! هلم أيها الأب فخبرني! ألا تتزوج من السيدة ألينور بولد؟

- لا. . . لن يكون هذا!

- بل أؤكد لك أنك من عبَّادها!

- وأنا أنفي ذلك من كل قلبي!

- ولم لا أيها المستر سلوب؟ إنها أولى النساء بك. . . بل تزوجها تكن لأطفالك أما ولبيتك ربة. . . ثم لا تنس أنها أرمل جميلة ذات ثراء!

- ألا ما أقساك يا سينورة! - أو تلك قسوة؟

- أجل. . . إذ كيف يصبو فؤادي الذي هو لك إلى امرأة سواك!؟

- إذا كانت هذه قسوة أيها الأب، فماذا إذا صرحت لك أني لا أملك أن أبادلك حباً بحب ولا عاطفة بعاطفة؟ فإذا كنت لا أملك هذا، فخبرني كيف أجزيك على حبك؟ أأجزيك عليه بأن تحضر كل يوم فتسبح بحبي وتذكر محاسني! أواه! ما أقساك أيها القدر!!

وكان الأب الجليل ما يزال راكعاً بين يدي مادلين، فلما أهوت على قلبه بهذا التصريح هب منتفضاً كالغراب (!) الذي بلله القطر، وجلس على كرسي قريب.

- وهل تسمحين أن أعطف عليك. . . مجرد عطف. . . على ما نابك؟

- تعطف عليّ؟ بل تريد أن ترثى لي لأني شبه مقعدة؟ إني إذن أحتقرك!

- أوه مادلين! أردت أن أقول (أحبك!)

ثم انقض على يدها الضعيفة الجميلة يمطرها آلاف القبل. . . فقالت له بعد إذ لم تستطع أن تذوده:

- هذا جميل! ولكن لنفرض أن السينور نيروني فاجأك الآن، فماذا عساك أن تفعل؟ وأفاق من سكرة حبه على الاسم المخيف فقال: (سينور نيروني؟!)

- أجل. . . سينور نيروني؟ أترسله إلى الأسقف وزوجه السيدة برودي؟)

- ولم تسألين؟

- لم أسأل؟ إني أحببت أن تعلم أن هناك رجلاً لا تذكره يدعى السينور نيروني؟!

- لا. . . بل أنت تنسين قلبك حين تذكرين السينور زوجك! إنك لا تحتفظين له بإثارة من الحب لأنه غير خليق بك

- القلب مرة أخرى؟! مالك كيف تتكلم أيها الأب؟ تريد أن تقول أن المرأة التي لا تضمر حباً لزوجها لها الحق في أن تخونه؟ أو على الأقل لها ألا تخلص له! والذي يقول هذا كبير أساقفة الكنيسة الإنجليزية

واشتعلت الجحيم في رأس كبير الأساقفة، وعجب كيف تذله امرأة مقعدة كالسينورة نيروني، وتمنى لو استطاع فجعلها تسجد بين قدميه تطلب حبه كما فعل هو، وتمنى كذلك لو انتزع حبها من قلبه فقذف به من حالق. . . ولكن شتان بين أن يتمنى المرء وبين أن يقدر، فلقد سحقته السينورة لأنها عرفت من مآسي الحياة ما لم يعرف القس، وبلت من تجاريبها ما لم يبل. . . وذلك أنه ما كاد يرفع عقيرته بالاحتجاج حتى غلبه هواه، وسجد مرة أخرى تحت قدميها يستعطف كالتلميذ الذليل. . . لكنها وصلت سخريتها به فقالت له:

- ولم لا تضحي حبك أيها الأب ما دام زيفاً وبهتاناً!

- زيف وبهتان؟ أتريدين أن تقولي أن حبي لك زيف؟

- زيف وأي زيف!! وإلا، فافرض أنني حنثت في سبيلك بيميني أن أكون إلى الأبد مخلصة لزوجي وفية لاسمه الذي حملت، وأنني زللت لأرضي حبك وأشفي لوعتك، فهل ترضى إذا أخرجت من هذا البيت أن تذهب معي فنقف أمام المذبح لتعلن للملأ أنك رضيتني زوجة لك. . .؟ أنا. . .؟ هذه المقعدة التي لا يسندها في فؤادك إلا مسحة من الجمال تفتنك الآن، ولا تدري ماذا تكون في غد؟ - ولكن الحَبْر الجليل لم ينبس ببنت شفة، فقالت مادلين: (ماذا؟ تكلم! ماذا تضحي من أجلي إذن إذا ضحيت لك بكل ما عرفت!؟)

فقال الأب: (لو أنك حرة الآن لرضيتك زوجة لا أرضى بها ملء الأرض ذهباً!)

فقالت مادلين: (لو أنني حرة! أنا حرة! هاأنا ذي حرة! لننطلق إذن من هنا. . . هلم فاحملني إلى دارك! لم تقف جامداً هكذا؟)

لكن الأب لم يبد مع ذاك حراكاً. . .

- آه! لقد خشيت أن تضحي الدنيا الواسعة المترعة بالخيرات من أجل امرأة مقعدة مثلي! إذن فهلم نكون صديقين. . . صديقين فحسب. . . لا تنس هذا. . .)

وانحط على الكرسي القريب منها، ثم تناول يدها الجميلة الساحرة وطفق يقبلها أكثر وأحر مما فعل قبل. . . حتى لكأن الدرس القاسي الذي تلقاه لم يكن له أثر. . . وزاد الطين بلة فقال وهو يبكي:

- (مادلين. . . مادلين. . . قولي إني أحبك. . . قولي يا مادلين!)

وهنا سمع وقع أقدام في الخارج فنهرته السينورة وهي تقول: (صه أيها الأب! إن أمي قادمة وأخشى أن تشهد دموعك. . . هلم فأصلح من شأنك. . .)

ووثب الأب الجليل مروعاً. . . ولم يعن بإصلاح شأنه. . . بل أنطلق على وجهه من الباب الخلفي، ولم يعد أحد يسمع به. . . لأنه لم يذهب إلى الكنيسة منذ ذلك اليوم. . .

(ملخصة)

دريني خشبة