مجلة الرسالة/العدد 230/صورة
مجلة الرسالة/العدد 230/صورة
المولد الأحمدي
للأستاذ إبراهيم بك جلال
خرج أهل القرى جماعات وقوافل من أسفل الأرض ومن صعيدها فكانوا أسراباً يتعاقب بعضهم على آثار بعضه، يزحمون السبل المعبدة وأشباه السبل، قد شمر الرجل عن ساقيه، وبسط على الساعد قضيباً تناط به صرة جافة، وإلى يمينه آخر ينوء كاهلاه (بغرارة) من تلك الأقراص، وثالث به رمق من سعة يوهم جاريه أن تحته مطية ويظل يحرك ساقيه كلما تحركت المطية
أما المرأة فتضن بخفيها على البلى فتجمعهما على أم رأسها فإذا أوفت على المدينة آوت إلى الخفين تمشي فيهما حجلا
وغالب هذا الحجيج مشاة حفاة سرابيلهم من أسمال ومظاهرهم فاقة ومسكنة، نفروا خفافاً متوسمين فضلة الموائد ونهلة من طعام الحضر وحلواه
وفيهم صنوف وألوان من أهل الطريق تنم عليهم تلك القلانس وما يتدلى من عذباتها، وبأيديهم أعلام مصبغة، وحولهم صنوج تدق وطبول تدوي كأنصار المهدي يوم فتح السودان. فإذا غربلهم ناقد خرج ببضعة نفر من أهل العلم والتقى قدموا حسبة وقربى لله يذكرونه في تقى وخشية، ويتعففون عن قرابين هذا العيد، طعامهم أقراص وتمر، ومضاربهم مقفرة من زهو الدنيا، مهادهم بواري بسطت على أديم الأرض يؤثرون بها الزائر فيحل بين أدب واتضاع وعلم
أولئك هم مصابيح الدجى، وأعلام الهدى لمن كانت هجرته لله ورسوله
وفي المدينة دعة وجاه، ونسق جميل ومصابيح وبنود تخفق فوق الدروب وبأيدي الناس، وترى السوق المفضية إلى كعبة هذا الحجيج قد ترامت فيها السلع أكداساً على المناكب وفي الحوانيت، وفيها القمص والجوارب والنعال والأكسية والقلانس والجباب، ويليها عرائس الدمى المزوقة، والدفوف الموشاة، والأساور والأقراط والخلاخل والعقود والمرايا، وكل طلي تحبه بنات القرية وبنوها، ويلي ذلك باعة الحلوى والحمص جاثمين على الموائد يلوحون بالجواليق ويجوس الخلال باعة الشراب يدقون الكؤوس، وبين هؤلاء وأولئك يندس جماعة السراق يفترصون الغرات ويفرون بأسلابهم
وللمتسولة جنود أهل بأس يرودون الأسواق والمضارب والمشارب كالذباب حول الموائد ولهم أديم من معدن الصفاقة وجلد على هوان النفس في المسألة
وإن تلك الجموع الزاخرة من أهل القرى لتحوم حول كل متجر ويمنعها الإملاق من أن تمد له يداً حتى لكأنها الحرب الضروس بين العرض الملح وبين تنحي الناس وإعراضهم وكأنما أقيمت مناحة للكساد موتاها سلع البلاد
وتبلدت ألوف الدهماء في مواقفها فنثرتها سياط الشرط بدداً ثم جمعتها يمنة ويسرة، وكلت المناكب بباب المسجد، وعز الولوج لغير السواعد وأهل البأس، وإنك لتحس بين الضجيج أنات لأضالع وأعناق تدق ثم تنجلي عن شيوخ وغلمان ونسوة يزخرون بين الصحن والرواق وحول المحاريب ولهم دوي كألسنة الرعود لا يرعون جانب الله وما ينبغي لحرمة بيته من سكينة وخشوع فيحملون على الأكف كل أبرص ومجذوم ومعتوه. ويلوذون بأشباه الرجال ذوي الأزياء المنكرة من التمائم والمسابح ويرفعون عقائرهم بالرجس والإثم عدواناً على هذا الدين الحنيف، وإيلاماً لذلك التقيِّ المغيب في آزال الله وكرامته
وعند باب الضريح طائفة من السدنة من أهل الخطر والعزة في الرقيق الموشى من الديباج وعلى تيجانهم سمات الحسب العالي يرمقون صفوف العواد والزائرين حين يلجون الباب وحين يعرجون، ولهم آذان مرهفة لترتيل آيات الذهب والفضة في خزائن النذور
لقد كان النبي صلوات الله عليه جد هذا السيد البدوي يدعو لشد الرحال إلى ثلاثة: إلى بيت الله الحرام، وإلى الحرم المدني، وإلى بيت المقدس بغير مزيد
فما أشد وجيعة ذلك السبط الهاشمي، وأهل مصر يتخذون قبره مثابة للناس. وما أبعد الوجيعة في قلوبنا معشر آل بيت النبي
إبراهيم جلال