مجلة الرسالة/العدد 23/صه!
مجلة الرسالة/العدد 23/صه!
للقصصي الروسي تشيكوف
يعود ايفان كراز نوكين، وهو محرر متوسط في صحيفة يومية، دائما لمنزله في ساعة متأخرة من الليل مكتئبا حزينا، على سحنته الوقار وفي مشيته الجلال. وأحيانا تراه جامعا أشتات فكره مستغرقا بكليته في تصوره كأنما يترقب أن يفتش أو يفكر في الانتحار. ذرع عرض غرفته، ثم توقف ونفش شعره وقال في لهجة (لابرتس) منتقما لأخته (إنني حائر تعب ملتاع إلى ابعد قرارات النفس. إن الحزن يجثم على قلبي، ويهيمن على جسمي، ومع هذا فلزاما علي أن اجلس لأكتب. . وهذا ما يسميه الناس (العيش)
ليت شعري لم يصف كاتب حتى اليوم هذا الخبل الذهني المؤلم، وهذا
الاضطراب الفكري الشديد الذي يعذب روح المؤلف ويؤلم نفسه.
فعندما يكون حزينا حزنا يذيب لفائف القلب، يجب عليه أن يبعث
الجمهور على الطرب المستخف والسرور العظيم. وعندما يكون فرحا
يثلج الصدر ويبهج القلب يجب عليه أن يرسل الدمع الهتان وينفث
الحزن الدفين.
أجل! يجب علي أن أكون مرحا مستهترا لا أكترث لشيء ولا أحفل به. مليح النكتة بارع الدعابة عندما ينوء بي الهم ويقتلني الحزن. حتى إذا كنت (دعني أقول) مريضاً. . . إذا كان طفلي في نزعه الأخير. . . وكانت زوجي تنهشها الأحزان وتفترسها الآلام
لما فرغ من قوله هز جمع يده وأدار حماليقه. ثم دلف إلى المخدع وأيقظ زوجه. وقال: (ناديا!. . سآخذ في الكتابة. أرجو أن تحرصي على ألا يقاطعني أحد أو يمنعني من العمل إنسان. فما أستطيع الكتابة والجدي ينب والطاهي يغط! ثم قدمي أيظاً بعض الشاي وشريحة من اللحم، إذا أمكن، فأنت تعرفين أني لا أوفق إلى الكتابة إلا إذا شربت شايي، فالشاي وحده هو الذي يبعث في القوة على العمل.)
أخذ سمته إلى غرفته وخلع معطفه وصدريته وحذاءه. نضا عنه ثيابه بتأن تام. ثم كون ملامح وجهه حتى أصبحت تعبر عن الإنسان البريء المعذب (وجلس إلى مكتبه) على هذا المكتب لا تقع عين الإنسان على حقائر الأشياء اليومية وصغائرها. فكل الأشياء وأتفهها تنقلب ذات معنى، ويظهر عليها برنامج عابس! هنا تماثيل نصفية وصور شمسية لمؤلفين عظيمي الشهرة ذائعي الصيت. وهناك كوم من المخطوطات ومجلد بمؤلفات بلينيسكي ومنه صفحة مقلوبة. ثم عظام رأس تستعمل محبرة وصفحة من جريدة طويت كما يتفق، بيد أنها تعرض عمودا معلما عليه بالقلم الأزرق بالخط العريض (جبان) وهناك جمهرة من الأقلام المبرية حديثا وريش بأسنان جديدة حتى لا يمكن لأي سبب خارجي أو حادث عارضي أن يمنع التحليق السامي لهذه المخيلة المبدعة!!
ألقى كرازنوكين نفسه على كرسيه المريح وراح يفكر في موضوع فسمع زوجه تضرب الأرض بخفها تشقق قطع الخشب (للسيماور) وخيل إليه أنها مازالت وسنانة لأن غطاء السيماور أو رجله كان يسقط من يدها بين آونة وأخرى. ووصل إلى سمعه نشيش المغلاة وأزيز اللحم المقلي، وزوجه مازالت تشق الخشب مفرقعة قرب الموقد. مغلقة بشدة باب الفرن مرة، وأخرى النافذة الهوائية، وآونة أخرى باب المدفئة. فأرتجف كرازنوكين، وفتح عينين يملؤهما الرعب ويتطاير منهما الشرر. وأخذ ينشق الهواء ويلهث (رحمتك الهم!. . . دخان الفحم؟. . . هذه المرأة التي لا تطاق عزمت على خنقي. . قل لي بالله كيف أوفق للكتابة في حالات كهذه؟)
جرى إلى المطبخ يولول وينوح، وبعد برهة عادت زوجه تمشي على أطراف أصابعها مقدمة له قدحا من الشاي فوجدته جالسا على كرسيه الطويل كما كان من قبل! لا يبدي حراكا ولا يحرك جارحة غارقا في موضوعه، فلم يتحرك، وأخذ ينقر بخفة على جبهته بأطراف أصابعه متظاهرا بأنه لا يلاحظ وجودها ووجهه يعبر مرة ثانية عن: (البريء المعذب)
قبل أن يكتب العنوان أخذ يتملقه ويدلله مدة طويلة! كأنه عذراء أهداها بعض الناس مروحة جميلة! آونة يمر بيديه على صدغيه وأخرى يرتجف ويهتز جميعه ساحبا قدمه من تحت كرسيه كالمتألم. مغلقا نصف عينيه بفتور كقطة على فراش.
وأخيرا بعد تردد دنا من الدواة وسطر العنوان وكأنه يوقع صك الموت. . . .
سمع صياح ابنه (ماما!. . قليل من الماء) فأجابته أمه (صه!. . بابا يكتب. . . صه!)
كان الأب يكتب بسرعة مدهشة دون توقف، دون أن يمحو حرفا أو يشطب كلمة وليس عنده من الوقت ما يتسع لقلب الصفحات أما التماثيل النصفية والصور الشمسية لمشهوري المؤلفين فكانت ترقب يراعه الجوال وقلبه السيال وكأنها تفكر (اها. . . أخواه استمر. . . .)
خدش القلم (صه)
فجلجل المؤلفون وقد اهتزوا بدفعة من ركبة الكاتب (صه) عاد كرازنوكين إلى نفسه ووضع قلمه وتسمع. فسمع همسات متزنة لا تنقطع. وكان ذلك صوت فوما نيكوليتش الساكن معهم وهو يصلي في الغرفة المجاورة.
فناداه كرازنوكين (أعرني سمعك!. أما تستطيع الصلاة بأسرع من هذا؟. . انك تحول بيني وبين الكتابة)
فأجابه فوما نيكوليتش بحياء ووداعة (أستمحيك العفو يا سيدي) (صه!)
بعد أن كتب صفحات خمساً تمدد ونظر إلى الساعة وتأوه. (يا للسماء!. . الساعة الثالثة!. . الناس جميعا مستريحون نيام. . . وأنا وحدي. . أنا. . يجب علي أن أعمل)
بعد أن استفرغ العمل جهده وأفنى قوته أخذ طريقه إلى المخدع ضارع الجسم، واهن القوى ورأسه ساقط على عاتقه. أيقظ زوجه صائحا بها مكدود الصوت (ناديا. . . قدحاً آخر من الشاي. . . إني. . . إني أشعر بضعف)
كتب إلى الساعة الرابعة وود لو استمر في كتابته إلى الساعة السادسة بيد انه أنجز عمله وفرغ من موضوعه
زهوه العجيب وفرحه الغريب بهذه الأعمال الجامدة ولا بصيرة عنده ولا فراسة له! استبداده وجوره، عسفه وظلمه، في مسكن النحل الصغير التي خولت له الأقدار السلطان عليه وأعطته مقاليد الأمر فيه. هذه عنده أطايب الحياة وزبدة ما فيها.
كم يشابه هذا الاستبداد الذي تراه في المنزل هذه الأجناس الذليلة الصامتة التي يخالط كلامها التورية والتي اعتدنا رؤيتها في مكاتب الصحف.
قال لنفسه وهو ذاهب لفراشه (إني تعب جدا حتى يخيل إلي إنني لن أستطيع النوم. . .
فعملنا الجهنمي الذي لا نلاقي منه جزاء ولا شكورا لا يجهد الجسم كما يجهد القريحة، على إنني سأتناول مقويا. . والله يعلم لو لم يكن هذا لخير الأسرة لنفضت منه يدي. . . . . . . أه. . انه مرعب أن يكتب الإنسان ويجبر على العمل هكذا!!)
استغرق في سبات عميق. . . فنام حتى الساعة الواحدة أو الاثنتين بعد الظهر، وما الذي كان ينامه أطول أو يحلمه ألذ. . إذا كان مؤلفا مشهورا أو محررا بارعا. أو حتى ناشرا؟
همست زوجه بوجه مرتاع (كتب سحابة الليل!. . صه!)
ما جرؤ أحد على الكلام أو السير أو التصويت فنومه مقدس ومن يذنب فيقطع هذا السكون ويشوش هذا الهدوء، فعليه أن يدفع عن هذا غاليا.
(صه!. . . . صه!)
ورن هذا الصوت في جميع الحجرات
محمود البدوي