مجلة الرسالة/العدد 228/الحد الحاسم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 228/الحد الحاسم

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1937


للأستاذ عباس محمود العقاد

من العقول عقل كالرسول الذي تثق بقدميه ولا تثق برأسه: ترسله وتفصل له ما يعمل في كل حالة، فإذا طرأ طارئ لم تُسلف له فيه وصية فلا عمل ولا تصريف حتى يرجع إليك. فالشيء عنده إما معمول بأمر أو متروك بأمر، وإما حسن كما تراه أو قبيح كما تراه، ولا توسط ولا تدرج بين الأمور

ومن العقول عقل كالرسول المفوض: تنبئه بمرادك ثم تكل إليه تحصيله كما يريد، فلا تبيح ولا تمنع، ولا تقسم الأمور كما تراها، بل تدع له أن يقسم ما يشاء حين يشاء

العقل الأول لا غنى له عن الحدود الحاسمة في الكلام؛ فالشيء عنده إما أبيض أو أسود، وإما حلو أو مر، وإما مأخوذ أو متروك؛ ولا يجوز أن يكون مأخوذاً في حال ومتروكا في حال، ولا أن يكون حلواً ومراً في وقت واحد، ولا أن يكون بين البياض والسواد تارة يبيض وتارة يسود على حسب الضياء والظلام، وعلى حسب الموقع الذي تنظر منه إليه

والعقل الثاني لا يتقيد بالحدود الحاسمة ولا يحتاج إليها، لأنه يرى الدرجات بين المسافات، ويرى الظلال بين الألوان، ويرى التشكيلات بين الأشكال

فالشيء عنده لا يكون بعيداً وحسب، ولا قريباً وحسب، وإنما يكون بعيداً بمقدار كذا وقريباً على درجة من القرب مقسومة بين الدرجات؛ وقس على ذلك سائر ما يدركه ويحده ويعيه

ولغات الأمم تبين لنا مقدار نصيبها من العقل المسخر ومن العقل المفوض

فاللغة التي تقل فيها (الظروف) هي اللغة التي قلما يستغني أصحابها عن الحدود الحاسمة والأوامر المفروضة، لأنهم يجهلون الفروق ولا يدركون وجوه الاختلاف، إلا إذا بلغت من الظهور والاتضاح مبلغ النقيض من النقيض، أو مبلغ الشيء المميز بعلامة لا تشتبه بغيرها من العلامات

واللغة التي تكثر فيها الظروف هي لغة العقول المفوضة أو العقول المتصرفة، لأنها تمح الفرق الصغير فلا تقف عند الحد الحاسم الكبير، وتري العمل الواحد على أشكال متعددات، فلا تحصره في شكل واحد محدود محتوم

و (الظرف) في اللغة هو الكفيل بإظهار هذه الفروق الصغيرة، وتقسيم الدرجات بين المسافات الواسعة. فإذا رأينا (الظروف) في لغة من اللغات فنحن إذن أمام ناس متصرفين غير محدودين، أو أمام عقول تستنبط الفهم من بواطنها ولا تنتظر حتى يقال لها: أفهمي هذا هكذا، وافهمي ذاك على ذاك المثال

وأحسب أن (الظروف) تقل، وأن العقول تعجز عن التصرف لسبب من سببين:

أحدهما طول عهد الاستبداد، فيتعود العقل إملاء الأوامر عليه وإسناد الفرائض إليه، فيصدع بما يؤمر ويطيع ثم لا يتصرف، وينتظر الإرشاد والتسديد في كل خطوة وعند كل طارئ جديد

والثاني نشأة الأمة في بيئة محدودة لم تتشعب فيها مسالك العمران ومذاهب التفكير، فكل ما فيها فروق كبيرة بارزة، ومسافات بعيدة شاسعة، فلا محل فيها للفرق الدقيق ولا للدرجة الصغيرة ولا للمسحة المترددة بين الألوان

وأنت تستطيع أن تفتح (معجم) اللغة من اللغات فتعرف نصيبها من الحرية أو من سعة العمران بتلك العلامة التي لا تخطئ، وهي علامة (الظروف) المصوغة أو التي تسهل صياغتها من الأسماء والأفعال

يضحك الإنسان ضحكة السرور، وضحكة الألم، وضحكة التشفي، وضحكة التهكم، وضحكة الرصانة، وضحكة الطيش، وضحكة المعرفة والحكمة، وضحكة الجهل والبلاهة، وضحكة القوة والعزة، وضحكة المجون والاسترخاء؛ وكله ضحك إذا نظرت إلى اسمه في اللغة. . . فماذا يفيد هذا الاسم إن لم يميزه مميز من الظروف؟

وتقول مثلاً في عنوان مقال أو قصيدة: (شجاعة الجبن) فيفهم العقل المتصرف أو عقل (الظروف) معنى ما تقول

أما العقل المغلق أو عقل الحدود الحاسمة فيعجب حتى يغرب في الضحك ويسخر ممن يلقي إليه بذلك العنوان، لأن المسألة عنده إما شجاعة وإما جبن ولا يلتقيان. وليس في علمه أن الجبن قد يؤدي إلى الإقدام بعض الأحيان، وأن الجبان والشجاع في بعض المواقف سيان

ومن هنا كان استغراب الجامدين لما كانوا ينعتونه (بالتفرنج) من تلك العناوين، وما هو بالتفرنج ولا بالوصف الموقوف على الفرنجة، ولكنه وصف شائع بين جميع العقول التي بلغت رشدها وخرجت على وصاية (الحدود الحاسمة) أو على وصاية الأسماء والأفعال التي لا تميز بينها الظروف والإضافات

وليس أصعب من إفهام عقل حاسم يتحذلق ويقيم الاعتراضات على ما سمع. فأنت إذا قلت مثلاً: إن النهار مضيء والليل مظلم، فذلك تفريق من أصدق التفريقات بين الأضداد: يسمعه العقل المتصرف فيعلم ما تعنيه لأول وهلة، ويسمعه العقل الحاسم المحدود المتحذلق فيقول لك: كيف؟ إن النور الكهربائي يضيء بعض الحجرات بالليل، وإن الستائر لتلقى الظلام على بعض الحجرات بالنهار! وقس على ذلك أمثال هذه الاعتراضات وما تنم عليه من الضيق والعجز وقلة التصرف والتواء التفكير

وإلا فانك إذا أردت أن تمنع ذلك الاعتراض وأشباهه فقد وجب عليك أن تقول: إن النهار مضيء والليل مظلم، ثم تتبع هذا التفريق بإحصاء جميع الحجرات التي تحجبها الستائر والنوافذ وجميع الحجرات التي تضيئها المصابيح الكهربائية وغير الكهربائية، وتعود فتقول: إن النهار مضيء والليل مظلم ماعدا حجرة في بيت زيد في طريق كذا في مدينة كيت وكيت بمصر بالقارة الإفريقية، وهكذا حتى تستوفي بيان جميع الحجرات في جميع الطرقات في جميع المدائن في جميع الأقطار. فإن لم تذهب إلى هذا التفصيل فأقل ما في الأمر أن تعمد إلى استثناء لا حاجة إليه ولا مزيد فيه

فما الذي يدعو العقل المحدود إلى أشباه ذلك الاعتراض؟ أَدقة في فهم؟ كلا! بل عجز عن إدراك الحدود بغير إملاء حاسم وعجز عن طلب المعرفة يشغله بالقشور عن اللباب وبالتوافه عن مهام الأمور

وهنا ينبعث لنا من التمثيل مثل آخر للتفريق بين العقل المتصرف المفوض والعقل الحاسم المسخر

فهل من الضروري أن يلجأ العقل المتصرف إلى التفريقات والظروف في تعبيراته؟

وهل إذا قال القائل: (إن النهار مضيء والليل مظلم) نحسبه من أصحاب اللغات الغنية التي يتكلمها المتصرفون أو من أصحاب اللغات الفقيرة التي يتكلمها المحدودون المغلقون؟

الجواب هنا ينفع فيه التصرف المطلق، ولا ينفع فيه الحسم المغلق!

الجواب هنا أن ذلك القائل يكون من المتصرفين إذا قدر أن سامعيه لا يعترضون على ذلك الاعتراض السخيف ولا يطالبونه ببيان الحجرات في جميع البيوت والطرقات والأمصار والقارات، أو باستثناء هو وذلك على حد سواء. فإذا هو سكت بعد تفريقه الموجز فسكوته خير من الإفاضة والتشعيب

وأنه يكون من المحدودين إذا قال: (إن النهار مضيء والليل مظلم) ثم سكت عن المزيد لأنه يجهل مواقع الاستثناء كما يجهلها سامعوه

فالتصرف لازم في جميع التفريقات حتى التفريق بين المتصرفين والمحدودين

ومن ثم نستطيع أن نقول: إن (الظروف) والتفريقات تكثر في اللغات الغنية، ثم نرى أن أصحاب تلك اللغات قد يستغنون عن الظروف والتفريقات ويعرفون كيف يستغنون عنها ومتى يحسن الاستغناء؛ فلا نعجل بالاعتراض ولا نحسب أننا متناقضون، لأن التصرف خليق أن ينفي هذا التناقض الظاهر عن أذهاننا وأن يغنينا عن الإسهاب حيث لا حاجة إلى إسهاب

ساقني إلى موضوع الحد الحاسم رأيٌ في علاقة الأدب والديمقراطية قرأته في كتاب (لونارد وولف) المسمى بعد الطوفان، وسأعود إليه ببعض الشرح والتعليق في غير هذا المقال

وخلاصة رأيه أن الشعراء والقاصين كانوا يرسمون للناس قبل القرن السابع عشر نماذج من طوائف وجماعات. أما بعد القرن السابع عشر وانتشار الديمقراطية فأبطال القصص (أفراد) مستقلة قلما تتكرر في غمار السواد، وليست نماذج من طبقة أو طائفة أو قبيل

وعلاقة الديمقراطية بهذا في رأي (لونارد وولف) ومن يجارونه أن المساواة قد خولت الفرد حربة الظهور فبرزت الخصائص واستحقت من الشعراء والكتاب عناية لم تكن تستحقها حين كان الجمهور أرقاماً متكررة على نموذج واحد، أو حين كان النبلاء طرازاً مرسوم المراسم لا يختلف فيه إنسان عن إنسان

رأي جميل لا شك في صدقه واحتوائه للكثير من الأصول والملاحظات ودلالته على سعة المعرفة وحسن التحليل والتعليل

ولكن ما نصيب ذلك الرأي لو وقع للمحدودين من أصحاب الحدود الحاسمة ومن جماعة المطالبين بتعداد الحجرات إذا قيل إن النهار ضياء والليل ظلام؟ فقبل القرن السابع عشر رسم شكسبير بطله (هملت) وهو ولا ريب (فرد) بين أمراء جميع الأزمان وليس بالنموذج المتكرر في طبقة الأمراء

وقبل القرن الأول رسم هومير أبطاله الفرسان وهم مختلفون اختلاف أفراد لا اختلاف نماذج

فأين يذهب رأي وولف الجميل لو صدمناه باعتراضات شتى على هذه الوتيرة؟

يذهب إلى حيث نخسره ويخسره النقد وميزان الآداب، لأن وصف الشخوص بعد القرن السابع عشر قد اختلف وكانت لاختلافه علاقة بالديمقراطية ما في ذلك مراء. وعلينا نحن أن (نتصرف) في التفريق بين أجزاء ذلك الرأي فنضيف إلى ميزان الأدب صنجة تعين على الضبط والتمييز. أما إذا أبطلنا الرأي وعطلناه حتى يعود لنا وولف ببيان الحجرات المضيئة في الليل والحجرات المظلمة في النهار فنحن الخاسرون لأننا نجهل مواقع التدقيق لا لأننا نعرف التدقيق في نقد الآراء

الحد الحاسم أو العقل المحدود هو آفة الجامدين الكبرى، وهو علة الركود في آدابنا وفنوننا، ولكننا نتغلب عليه ونروض عقباته، ولا نستدل على ذلك بشيء أدل من زهدنا في الجدل (البيزنطي) عاماً بعد عام

عباس محمود العقاد