مجلة الرسالة/العدد 227/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 227/رسالة الفن
فرانز شوبير
1797 - 1828
للأديب عبد الرحمن فهمي
كانت حياة شوبير القصيرة حياة كفاح قضاها تاركاً للأجيال التي بعده حظاً من المتعة أوفر مما كان لنفسه. وهو أشهر الموسيقيين النمساويين ولد بفينا عام 1797 ولا تزال عاصمة النمسا إلى اليوم تحيي ذكرى ميلاده
وأبوه ابن فلاح من منطقة مورافيا كان يدير مدرسة صغيرة في قريته ويستعين بإيرادها على عول أسرة كبيرة كان فرانز من بينها
وسيرة فرانز إحدى سير العظماء الذين أنجبهم العالم. بدأ أبوه يعلمه العزف على آلة موسيقية مماثلة (للربابة) وكانت أسرة شوبير تمتاز بحذق العزف على الآلات الموسيقية فنبغ في هذا الفن نبوغاً جعله يفوق أخوته وهم أكبر منه سناً. فلما بلغ السنة الحادية عشرة بعثت به أسرته إلى مدرسة تابعة لكنيسة صغيرة ليتعلم بها الترتيل، وتقدم معه إليها أولاد عديدون كانوا يتسلون انتظاراً لدورهم في امتحان القبول بالتهكم على فرانز لصغر سنه ورثاثة ملبسه، ولكنه بعد أن قبل بالمدرسة استبدل بلباسه لباس المدرسة الرسمي الأنيق في حين لم يقبل بها الطلاب الآخرون لفشلهم في الامتحان
وكانت هذه المدرسة مكاناً طريفاً للدرس، يكون تلاميذها فيما بينهم مجموعة موسيقية (أركسترا) يمرنون كل يوم في الدرس. وكان فرانز في أول الأمر غير ظاهر بين زملائه الذين كانوا جميعاً يكبرونه سناً، ولكن حذقه في الفن لفت إليه نظر رئيس الفرقة وهو صبي يدعى سبون ويقول عنه: (وبحثت عن هذا العازف الحاذق فوجدته صبياً صغيراً على عينيه منظار يدعى فرانز شوبير) ومن ثم أضحى سبون وفرانز صديقين حميمين
واستطاع فرانز يوماً أن يؤلف قطعة موسيقية، إلا أنه عجز عن الحصول على الورق الخاص بكتابة الموسيقى (النوتة) لفقره، فأعانه صديق له بالمال. وهكذا بدأ تاريخ الموسيقي الصغير. وكانت غرفة التمرين بالمدرسة قاسية البرد شتاء، والطعام لا يملأ بطون التلاميذ لعدم كفايته، فهو يقدم في وجبتين ضئيلتين إحداهما عند الظهر والأخرى في الثامنة مساء. وعلى رغم ذلك استطاع فرانز في فترة الدراسة أن يخرج عدة (نوتات) موسيقية لاشك في أنها كانت تظهر أحسن من ذلك لو أن أساتذته أخذوه بالنظريات الموسيقية التي أهملتها المدرسة في تعليمها وتركت لهذا العبقري الصغير الحرية في الجموح دون أن تصقله بتغذية روحه الفني بالنمو المنتظم المطرد؛ غير أن أخذه الدرس على سالييري فيما بعد - وهو موسيقي مشهور - جعل أسلوبه في هذا الفن ينضج وينمو وينتظم
ولا ننس أنه أتى على شوبير حين من الزمن بعد إتمام الدراسة بهذه المدرسة كان فيه بائساً لأنه عاد إلى قريته واضطر أن يعلم التلاميذ في مدرسة أبيه القروية القراءة والكتابة. ومَن أشد بؤساً من معلم لم يُخلق لمهنة التدريس؟ إلا أنه كان صاحب ذمة فأخلص للعمل الذي ينال عليه أجراً لكنه لا تكاد تنقضي ساعات التدريس حتى كان يهرع إلى داره ويخلو بنفسه في غرفته وقتاً طويلا منكباً على عمله الخاص ملقياً عن نفسه كل حمل خارجي؛ وشوبير الشاب النابغ كان يحمل بين جنبيه عبقرية فذة في فن الموسيقى وتفانياً وإخلاصاً في ميدان الصداقة. هيأ لنفسه أصدقاء عديدين في فترة التعليم وأحاط به أصدقاؤه كما تحيط الهالة بالقمر وكثيراً ما خففوا عنه بؤسه ومتاعبه
ولم يكن قد بلغ الثامنة عشرة عندما ألقي أول (أصواته) الموسيقية بالكنيسة وأعقب ذلك بتلحين قطعة أخرى؛ ثم أنشأ فرقة موسيقية تتكون منه رئيساً ومن أخيه عازفاً على الأرغن ومن موسيقي كان مدير مدرسة الترتيل التي تخرج هو فيها، ومن صديق يغني الأدوار الرئيسية. ونستطيع أن نتصور السرور والإعجاب اللذين لاقى بهما أبوه هذا العبقري الصغير حتى لقد ابتاع له نوعاً من البيانو مشهوراً في ذلك الوقت واستعان على ثمنه بما اقتصده مما حصل عليه بعرق جبينه طوال حياته
وأول فشل صادف شوبير كان وهو في التاسعة عشرة من عمره عندما أنشأت الحكومة مدرسة للموسيقى فيما جاور بلدته والتمس أن يقبل بها مديراً بأجر إن كان واحداً وعشرين جنيهاً فقط في العام الواحد إلا أنه كان يفضل كل ما عدا مهنة التدريس عليها. فلما لم يعين لهذا المركز يئس يأساً شديداً، ولكن الحياة عوضته عن ذلك خيراً، فإن صداقته الجديدة لشاب يدعى شوبار أدخلت في نفسه انشراحاً وحبوراً وتحولت حياته إلى حياة جديدة
وترجع هذه الصداقة إلى سماع شوبار بشهرة فرانز الفنية من بيت سبون فقرر أن يزوره في داره فلقيه بعد أن عاد من المدرسة القروية جالساً إلى مكتبه تتكدس حوله أكوام المخطوطات الموسيقية
رغب أبوه في هذا الوقت في أن يقوم ابنه بتعليم تلامذة مدرسته الأحرف الموسيقية، ونفذ الابن هذه الرغبة إلى حين حتى نجح شوبار بإلحاحه عليه بالعودة معه إلى فينا فهجر التدريس ورجع معه حيث تقاسما العيش فرحاً معترفاً بجميل صديقه إذ بتمام الصداقة بينهما تقدم سير مصنفاته تقدماً سريعاً في جو هذه الحرية الجديدة. ولكنه برغم ذلك لم تتقدم حالته المادية بسبب إسرافه وتبذيره وعدم انتظامه في معاملة الناشرين. بل إن الحالة أدت به إلى أن يبيع أغانيه مرة بما يساوي أربعة قروش للأغنية الواحدة؛ إلا أنه خفف من هذه الحالة كثيراً اشتراكه هو وأصدقاؤه في العيش حتى أن القبعات والمعاطف كانت على الشيوع فيما بينهم جميعاً. وهذا النوع من الحياة وما كان يتخلله من فترات يقضيها فرانز مع أصدقائه في الجبال الهنغارية بقي على هذا الأسلوب حتى آخر أيامه القصيرة. ولذلك لا نعجب إذا كنا نراه يرفض بلباقة ما كان يُعرض عليه بين حين وآخر من وظائف العزف على الأرغن علماً منه أنه غير جدير بعمل يحتاج إلى الاستقرار والنظام
ولم يُسمع عنه أنه وهن يوماً أو تباطأ في عمله الخاص، بل كان يجلس إليه في الساعة التي يستيقظ فيها؛ بل إن حمى العمل إذا أصابته دفعته إلى الكتابة والقراءة في الوقت الذي كان عليه أن يهجع فيه للنوم
وبرغم أن الحياة صدمته صدمات عنيفة لم تستطع أن تغير من خلائقه، فقد كان شوبير الطائش الغافل ذو الفكر المضطرب المثل الأعلى للصداقة، المحبوب من كل معارفه، المتواضع الذي لا يعنيه من أمر الظهور شيء. أما قده فلم يكن جميلاً، وأما طلعته فلم تكن بهية، فهو في كل أدوار حياته (فرانز شوبير الصغير ذو المنظار على عينيه)
ويحسن أن نعرف أنه ألف فرقة موسيقية قبل وفاته بعام واحد وافتتح بها صالة كانت تزدحم بالمتفرجين، وأصابه منها ربح يعادل اثنين وثلاثين جنيهاً، ولكنه أتى عليها سريعاً. ويدل على إسرافه أن باجانيني الموسيقي المشهور جاء إلى فينا ليطرب جمهورها لأول مرة فحجز شوبير لنفسه أغلى مقعد ليحظى بسماعه، ثم عاد فحجز مقعدين له ولصديقه ودفع هو أجرهما. وعلى هذا النمط من التبذير أضاع نصيبه فيما كان قد ربحه. لم يتزوج شوبير قط؛ وكان إذا سئل في ذلك أجاب بأنه متزوج لموسيقاه
ومنذ بلوغه الثامنة عشرة بدأ يُخرج للعالم تصانيف كثيرة أدهشت كثرتها الموسيقي العادي فكتب في عام واحد ثماني روايات غنائية (أوبرات). وكان ذا ميل إلى الشعر يقرأ منه ما تقع عليه عيناه فيختار منه ما بَعُد غرضه وجَمُل معناه، ثم يلحنه فإذا به كنغمة عذبة من نغمات طير مغرد. ويحكى أنه عاد أصيل يوم أحد إلى داره من نزهة خلوية فقابل أحد أصدقائه في حديقة فندق القرية وأخذا يتسامران، وكان بيد صديقه مجلد لشكسبير يطالعه فانتزعه شوبير منه وتصفحه فوقع نظره على سطر معناه (أنصت واستمع إلى صوت القبرة) وتساءل (لِمَ لا يكون معي الآن ورق لكتابة الأحرف الموسيقية؟) وسرعان ما رسم له صاحبه خطوطاً مهيئاً له طلبته على قائمة حسابه بالفندق وعليها بين ضجة المكان وصخبه خط فرانز الأغنية المشهورة: (أنصت واستمع إلى صوت القبرة) ملحناً إياها. وفي المساء لحن أغنية أخرى من رواية أنطونيو وكليوباترا؛ وكذلك لحن الأغنية المحبوبة (من هي سلفيا؟) وكان في هذا الباب تياراً جارفاً لا يقف عند حد، فلا يقع تحت ناظريه شعر إلا لحنه. وقد قال شومان في ذلك: (إن كل ما لمسه شوبير كان يتحول إلى موسيقى) وقال لِيسْت (يُعد شوبير أعرق شعراء العالم الموسيقيين) ووصفه كتاب سيرته (بأنه ملك كتاب الأغاني) وكلهم محقون في ذلك فإنه أخرج في حياته القصيرة ما يقرب من الستمائة أغنية
وحل وقت هجر فيه شوبير عمله وتركه نسياً منسياً فقد أرسل يوماً مقداراً من مخطوطات أغانيه الجديدة إلى صديق له؛ وحدث أن زاره بعد أسبوعين من ذلك الوقت وكان يعزف على البيانو مغنياً أغنية أعجب بها فرانز فسأله (لمن هذه الأغنية الجميلة؟) فأجابه: (إنها لك!)
وكان شديد الإعجاب بما كتبه فيمور كوبر يدلك على ذلك كتابه لصديقه شوبار: (صديقي شوبار إنني منذ أحد عشر يوماً لم أتذوق طعاماً ولا شراباً لأني طريح الفراش مريض. . . فأشفق عليّ وأنا في هذه الحالة البائسة بزيارتك لي لتقرأ عليّ ما أنا غير مستطيعه. وقد كنت قرأت لكوبر (الجاسوس والدليل وطلائع الجيش) فإن كان لديك غير ذلك له فلتتفضل عليّ بإحضاره معك) (صديقك)
وكانت غرفته مزدحمة جداً بالمخطوطات المبعثرة هنا وهنالك، وذلك لأنه لا يكاد ينجز عملاً حتى يبدأ في غيره أغنية كان أو ترتيلة أو أوبرا أو غير ذلك مما لم يخلق شوبير إلا لها. ولن نستطيع أن نتصور الكثرة المطلقة التي كان يخلفها لنا لو أنه عاش أكثر من ذلك؛ إلا أن المنية وافته ولما يبلغ الواحد والثلاثين عاماً.
عبد الرحمن فهمي
بكالوريوس في الآداب