مجلة الرسالة/العدد 227/المزاح البارد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 227/المزاح البارد

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1937



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان لنا في المدرسة الابتدائية مدرس لا نراه إلا معبّساً - لا يفتر له ثغر ولا تنبسط له أسارير وجه، ولا تلمع عيناه بنور البشر، لفرط ما يزوي ما بينهما، ولكنه على هذا كان لا يكف عن ركوب زملائه المدرسين ورئيسه الناظر أيضاً بالدعابة التي تجيء أحياناً خفيفة محمولة، وسائغة مستظرفة، وأحياناً أخرى تكون سمجة ثقيلة لا تطاق. فمن لطيف مزحه أن العادة جرت في المدارس بأن يصوّر التلاميذ مع أساتذتهم في آخر العام المدرسي لتبقى الصور ذكرى لعهد التعلم فصففنا أمام المصور - القصار من أمثالي في الصدر، والطوال وراءهم، وجلس المعلمون على كراسي أعدت لهم أمامنا وجيء بكرسي كبير ذي مسندين للناظر، وكان رجلاً جهولاً ولكنه طيب القلب، وجعل صاحبنا يروح ويجيء هنا وههنا ليسوي الصفوف كما يزعم، ويقدم واحداً ويؤخر آخر، ويقبل ويدبر، والناظر قلق يصيح به: (اخلص بقى يا فلان أفندي) فيقول: (حالاً. حالاً إن الله مع الصابرين) ويمضي فيما هو فيه من التسوية والتعديل. وكانت العادة أيضاً أن توضع خلف الصفوف خريطة أم مصور جغرافي كبير فادعى أنه نسي ذلك وذهب يعدو إلى حجرة المدرسين ثم عاد يحمل مصوراً ملفوفاً وعلقه وأبقاه مطوياً ثم صاح بنا: (الآن انظروا كلكم إلى عدسة المصور) ففعلنا ونشر هو المصور الجغرافي وأخذت الصورة فطوى الخريطة وحملها وذهب بها فأعادها إلى حيث كانت، وجاءت الصور وأدى كل من يرغب الاحتفاظ بنسخة منها الثمن المفروض ومضى بها إلى بيته فرحاً مسروراً. ثم تأملناها على مهل في البيوت فإذا مكتوب وراءنا بالخط الثلث: (حيوانات الدنيا)، ولا أحتاج أن أقول أن معلمنا نشر خلفنا مصوراً لحيوانات الأرض من أبقار وجاموس وحمير وخيل وأسود وفيلة الخ لا للكرة الأرضية وقاراتها. . .

ومما أذكره في باب المزاح العملي أن واحداً من أصدقائي كاد مرة يخرب بيتي، فقد زارني فلم يجدني وكنت يومئذ في بيت عتيق له فناء رحيب، فوقف يصفق وينادي، فلما قالوا له إني خرجت قال: (سبحان الله العظيم وهل هذا كلام؟ يُشْبُك بنات الناس ويهرب؟)

وعدت إلى البيت وأنا خالي الذهن مما حدث، فلما دخلت على أهلي قلت: (السلام عليكم) كما هي عادتي فرأيت أمي تنظر إليّ مقطبة ثم ترخي عينها إلى الأرض، فالتفت إلى زوجتي فإذا هي تنظر إلى الحائط ولا تحول عينها عنه، كأنما عليه رسم ساحر؛ فاستغربت وأنكرت هذا الاستقبال الحافل بالنذر ولكني آثرت التباله، وأقبلت على أمي أريد أن أقبل يدها فتناولتها فنزعتها بعنف وحولت وجهها عني والدمع متحير في مآقيها فزاد عجبي وقلت: (مالكم. . . جرى إيه؟) فصاحت أمي بي: (رح. . . رح إلى حيث كنت

ووجدت زوجتي لسانها فقالت: (أيوه رح إلى حيث كنت)

فتأملتها ملياً وأنا أحك رأسي وأحاول أن أهتدي إلى سر هذا اللقاء الغريب فلم يفتح الله عليّ بشيء، فقعدت أمامهما وجذبت وجهيهما إليّ وقلت: (خبراني ما هي الحكاية فما أعرف شيئاً أستحق من أجله أن ألقى منكما هذه الجفوة)

فأفصحت أمي قليلاً وقالت: (شف بنات الناس. . .)

فقاطعتها: (بنات الناس؟ أي بنات وأي ناس؟

قالت: (هل خطبت؟)

فوثبت إلى قدمي وصحت: (خطبت؟. . خـ. . خـ. .)

فقالت زوجتي: (ألا ترين كيف يتلعثم؟ إن هذا إقرار)

فصرخت وأنا أكاد أجن: (أي إقرار يا ستي؟ أين عقلكم يا خلق الله؟ ألا تكفي غلطة واحدة؟)

ولا أحتاج أن أقول أيضاً أني خرجت بحماقتي من ورطة فوقعت في ورطة. فقد اقتنعت أمي وزوجتي بأن الزواج من أخرى لم يخطر لي على بال، وإن هذا كان مزحاً ثقيلاً من صاحبي ولكن زوجتي ظلت إلى آخر عمرها تذكر قولي: (ألا تكفي غلطة واحدة؟)

ومن الفصول الباردة ما حدث مرة في بيت قريب لنا وكان قد دعانا إلى سهرة في مصر الجديدة حيث كان يسكن، وكان بين الضيوف اثنان من المصريين الذين تعلموا في ألمانيا، فاقترح أحدهما أن يدعو صديقاً له من الألمان ليسمعنا قطعة موسيقية ألمانية فكاهية، وقال إنها: (تميت من الضحك) وأيد زميله قوله، فقبلنا وذهب رب الدار معهما لدعوة هذا الألماني الذي بُشرْنا بأنه سيميتنا من الضحك وكانت شقته في العمارة نفسها فما لبثوا أن عادوا ومعهم رجل وقور، ذو لحية كثة، ووجه رزين، ونظرة صارمة، فجعلت أتعجب فيما بيني وبين نفسي كيف يسع هذا الرجل أن يضحك أحداً كائناً ما كان ما يغنيه أو يعزفه. وكان الشابان يكلمان الرجل بالألمانية التي لا نعرف منها حرفاً. وجلس الرجل إلى البيانو وشرع يدق فلم يبد لنا - أو على الأقل لي - أن في الأمر ما يضحك؛ وكان جاداً وكان وجهه ساهماً كأنه يحلم، وغنى وهو يدق بصوت عميق قوي فالتفت إلى أحد الشابين فألفيته يبتسم فقلت: أبتسم مثله وأستر جهلي باتخاذه قدوة، وصرت بعد ذلك أخالس الشابين أو أحدهما النظر وأفعل كما يفعلان فإذا ابتسما ابتسمت، وإذا ضحكا ضحكت، وإذا قهقها أطلقتها مجلجلة؛ ولم أكن وحدي في هذا الاحتذاء فقد كان المدعوون مثلي جهلاء - أعني باللغة الألمانية - وقد خطر لهم كما خطر لي أن يحاكوا الشابين. وكنت ربما عجبت لمطربنا فقد كان إذا ضحكنا أو قهقهنا يرمينا بنظرات حامية فالتفت إلى الشابين مستغرباً ما يبدو عليه من الغضب والغيظ والنقمة فهمس في أذني أحدهما أن هذا هو المضحك. . . هذا الجد الصارم على الرغم مما في القطعة التي يغنيها وما في تلحينها من الفكاهة الواضحة فهززت رأسي كأني فهمت وازددت اقتناعاً بأن الأمر مضحك ولاشك ورحت أقهقه. ثم استغنيت عن النظر إلى الشابين والاقتداء بهما ورحت أضحك على مسئوليتي كما يقولون وخلعت ثوب الجهل والتقليد، ولبست ثوب الدعوى العريض الفضفاض

وأخيراً نهض الرجل عن كرسيه وأدار فينا عيناً تقذف بالشرر وخرج مغضباً محنقاً يبرطم ويبرجم ونحن نتبادل نظرات الإنكار لهذا السلوك العجيب فهل كان ضحكنا يا ترى أقل مما يجب؟ هل خيبنا أمله ببلادتنا؟ لا بل بجهلنا فقد كان ما يغنيه قطعة مبكية من مأساة مشهورة، وكان الرجل المسكين يعتز بأدائها على الوجه الصحيح، فكاد يجن إذ كنا نتلقى ذلك بالهزء والسخرية. وقد اعتذرنا إليه بعد بضعة أيام - لما فهمنا الحقيقة وعرفنا أنها كانت مزحة قبيحة - ولكن المسكين كان قد تعذب ليالي لا ليلة واحدة.

إبراهيم عبد القادر المازني