مجلة الرسالة/العدد 227/الحكم في مباراة الأقصوصة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 227/الحكم في مباراة الأقصوصة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1937



اجتمعت لجنة التحكيم في مباراة الأقصوصة التي اقترحتها مجلة الرواية وجعلت للفائز فيها جائزة قدرها خمسة عشر جنيها، يوم الأحد الماضي مؤلفة من حضرات الأساتذة: محمد فريد أبو حديد، توفيق الحكيم، إبراهيم عبد القادر المازني، محمود تيمور، ثم صاحب هذه المجلة، ونظرت فيما تجمع من الأقاصيص المتسابقة، ثم قررت النظام الذي تتبعه في قراءتها وفحصها. وستجتمع مرات أخرى متوالية حتى يصدر حكمها فننشره في الرواية والرسالة وبعض الصحف.

الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

للدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 27 -

الفلسفة الصينية

العصر المنهجي - كونفيشيوس

مؤلفاته

تنقسم مؤلفات هذا الحكيم إلى قسمين. فأما القسم الأول فهو مجموعة شروحه وتعليقاته على الكتب المقدسة التي نسخها بخطه ثم أحاطها بطائفة ضخمة من معارفه العامة وآرائه الشخصية في الدين والفلسفتين النظرية والعملية، كما أن تلاميذه قد أحاطوا الأقسام الفلسفية من هذه الكتب بشروحهم وتعليقاتهم كذلك إلى حد أن اختلطت على الباحثين آراؤهم بآراء أساتذتهم

وأما القسم الثاني فهو كتبه الخاصة التي وضعها وضمنها مذهبه وعارض في بعضها مذاهب من سبقوه وعاصروه من الفلاسفة الذين أسلفنا الحديث عنهم في الفصول السابقة.

وهذا القسم أيضاً ممتزج بآراء التلاميذ على نحو ما امتزجت آراء سقراط بمذهب أفلاطون وإن كانت آراء حكيمي الإغريق قد وضحت وتبين منها ما للأستاذ وما للتلميذ بفضل علماء العصر الحديث الذين نخص منهم بالذكر العالمين الفرنسيين (ريفو) و (بريهييه)

القسم الأول

يحوي هذا القسم كل الكتب المقدسة الهامة التي سبقت عصر (كونفيشيوس) ولكن الذي يعنينا هنا هو الكتب الرئيسية وهي: (وي - كينج) أي الكتب الخمسة. فأما (شو - كينج) و (شي - كينج) فقد كان حكيمنا معنياً بهما عناية فائقة إلى حد أنه اتخذ مما فيهما من صور مُثله العليا التي يجب أن يحتذيها العلماء والملوك؛ ولم يعرض المستصينون لتحقيق ما احتواه هذان الكتابان وتبين ما للأستاذ فيهما وما للتلاميذ من شروح وتعليقات. وأما (إي - كينج) فقد وجد عليه الباحثون شروحاً مطولة، وتعليقات مسهبة، وتقريرات مطنبة، فدرس العلماء كل هذه دراسة دقيقة خرجوا بعدها مقتنعين بأن هذه المطولات مزيج من آراء: (كونفيشيوس) وتلاميذه، ولكنهم لم يستطيعوا إلى الآن أن يحلوا هذه المشكلة تماماً فيبينوا ما للأستاذ وما للتلاميذ. وأما (لي - كي) فقد ضاع أكثره، لأنه حين أحرقت الكتب لم يكن متداولاً كغيره ففقد منه ما فقد، والجزء القليل الباقي منه وجد - فيما يظهر - بدون شرح ولا تعليق، لأنه كتاب طقوس دينية أكثر منه أي شيء آخر، فلم يكن هناك داع للشرح أو للتعليق. وأما كتاب (تشون - تسيو) ومعناه: (يوميات الربيع والخريف) فهو الكتاب الوحيد الذي لم يَرتبْ أحد من الباحثين المدققين في نسبة ما عليه من شروح وتعليقات إلى (كونفيشيوس) وحده. ويؤكد أولئك الباحثون أن هذه التعليقات هي أسمى بكثير من النصوص الأصلية للكتاب، لأن هذه التعليقات تدل على علم واسع ودراية شاملة بالتاريخ الصيني القديم والمعاصر لهذا الحكيم بدرجة أدهشت علماء العصر الحديث

القسم الثاني

يتكون هذا القسم من أربعة مؤلفات تدعى بالصينية (سي - شو). وتعبيرنا في جانب هذه الكتب بألف أو وضع فيه شيء من التجوز، لأن المستصينين يكادون يجمعون على أن الحكيم أملى بعض هذه الكتب على تلاميذه إملاء كما حاورهم أو حاضرهم بالبعض الآخر فرووه عنه وأثبتوه مقترنا باسمه دون تغيير ولا تبديل. وليس هذا فحسب، بل إن كتاب (لون - يو) أحد الكتب الأربعة وأكثرها انتشاراً قد وجد مكتوباً بأسلوب أحد الذين تتلمذوا على تلاميذ (كونفيشيوس) بعد أن روى له أستاذه عن الحكيم الأكبر ما رواه شفهياً من الآراء والأفكار بنصوصها وعباراتها. ويحتوي هذا الكتاب على مجموعة من آراء مقتضبة وجوامع كلم، ومحادثات مع التلاميذ وملاحظات هؤلاء على آراء أساتذتهم وهلم جرا. وليس لهذا الكتاب - على سعة ذيوعه وتداوله - أهمية فلسفية عظمى

أما الكتاب الثاني وهو (تا - هيو) أو الدراسة الكبرى فهو دراسات وجيزة لبعض الآراء والمشاكل الفكرية في صورة أمثلة وحكم، وقد كتبه (تسيه سي) حفيد كونفيشيوس) ولكن (تشو - إي) أحد شراح (كونفيشيوس) الصينيين في القرن الثاني عشر يؤكد أن النصوص الأصلية لهذا الكتاب قد وجدت مثبتة بخط الحكيم نفسه وأن حفيده لم يزد على شرحها والتعليق عليها. ولا يرى العلماء في هذا الرأي بأساً إذ يحتمل أن يكون هذا الحفيد قد استولى على نصوص جده وأضاف إليها مذكرات من معارفه الخاصة المتواترة في الأسرة عن هذا الجد. ويرى بعض آخر من الباحثين أن هذا الحفيد لم يجد في الغالب نصوصاً مكتوبة من هذا السفر، وإنما وجد روايات شفوية مأثورة عن جده فأثبتها بأسلوبه. وأما الذي شرحها وعلق عليها، فهو (تسانج - تسيه) أحد تلاميذ (كونفيشيوس)

أما الكتاب الثالث، فهو (تشونج - يونج) وهو أهم كتب هذا الحكيم الفلسفية، لأنه هو الكتاب الوحيد الذي يحوي مذهبه، والمؤلف الجوهري الذي يعتمد عليه الباحثون في فهم المدرسة (الكونفيشيوسية)، ويتكون هذا الكتاب من مقدمة واثنين وعشرين فصلا فأما المقدمة فقد كتبها حفيده السابق الذكر، وهي مجموعة وافية من الآراء الأساسية في أخلاق (كونفيشيوس) سمعها هذا الحفيد من جده مباشرة فأثبتها في المقدمة وشرحها شرحاً مفصلا في بقية الكتاب

ويرى (ألين) الإنجليزي و (فون إركس) الألماني أن هذا الكتاب ليس إلا مجموعة مشوهة من (تاويسم)؛ فأما الأول فيرى الأستاذ زانكير أن من العبث الرد عليه، لأنه هو الذي زعم أن (كونفيشيوس) أسطورة، وأما الثاني فالسبب الذي خدعه وأوقعه في هذا الخطأ هو أنه وجد أن هذا الكتاب يحتوي على شيء غير يسير من التنسك الذي يشبه ميول (لاهو - تسيه) فاستبعد صدور هذه الآراء عن (كونفيشيوس)، ولكن هذا خطأ بحت، لأن (كونفيشيوس) ليس مادياً جافاً ولا نفعياً أثراً، وإنما هو حكيم جليل قمين بأسمى الأخلاق

وأما الكتاب الرابع فهو مجموعة كتب (مانسيوس) السبعة التي سنعرض لها عند حديثنا عن هذا الفيلسوف

منهجه وتأثيره

يشبه منهج (كونفيشيوس) منهج (سقراط) كثيراً، إذ هو يحاول أن يرشد تلاميذه إلى الحقيقة، ولكن لا عن طريق التقليد والتحفيظ، بل عن طريق البحث الشخصي الذي يتدرج من المحسات إلى المعقولات، ويصعد من الماديات إلى المعنويات؛ فتارة يلمح إلى البرهان الحق تلميحاً خفياً، وأخرى يشير إلى تناقض الباطل إشارة غامضة ثم يقود التلاميذ في طريق المحاورة قيادة منطقية محكمة إلى أن يعثروا على الحق بأنفسهم أو يهدموا الباطل بمجهوداتهم الشخصية المراقبة بإرشاد الأستاذ. وفي هذا يقول: (أنا لا أعلِّم من لا يشتهي أن يفهم، ولا أساعد على الكلام من لا يحاول أن يوضّح أفكاره)

ومن منهجه أيضاً أنه كان يضع أمام تلاميذه مُثُلاً حية من أخلاق الحكماء والملوك السابقين أو من المأثورات الدينية العالية أو القصائد الشعرية المفعمة بالفضيلة أو الحوادث التاريخية التي تصلح لأن تتخذ نماذج للسمو والنبل، وكان يسلك هذا المنهج في تعليم تلاميذه الفلسفة والأدب والفن والأخلاق

ويروي المؤرخون أن تلاميذ هذا الحكيم الذين استفادوا من منهجه بلغ عددهم في حياته ثلاثة آلاف تلميذ، وأن عدداً كبيراً من بين هؤلاء التلاميذ شغلوا في الدولة مناصب هامة وأنهم كانوا العنصر الأساسي للعلماء والأدباء الذين حكموا الصين أكثر من ألفي سنة، لأن (كونفيشيوس) قد أحسن تأديبهم فلم يخلق فيهم الميل إلى الانزواء واليأس، وإنما بث في نفوسهم روح الإصلاح والانتصار والسيادة، ولهذا لم تكن حلقات دروسه مقصورة على التلاميذ، بل كانت تضم بينها عدداً ضخما من كبار النبلاء والأرستوقراطيين الذين وجدوا فيه أكبر محقق لعظمة الصين المنشودة فدفعتهم وطنيتهم إلى الاغتراف من نمير علمه الصافي وإلى محاكاة أخلاقه السامية النبيلة

وفي الحق أن كونفيشيوس يجب أن يعد في طليعة أفذاذ الرجال الذين خلقوا المدنية الصينية، بل المدنية العالمية؛ إذ هو الذي أنشأ السياسة الصينية القيمة، وهو الذي وضع قواعد أخلاق الأسرة على الأسس الفلسفية المحترمة، وهو الذي قسم الفلسفة العملية إلى فروعها الثلاثة: الأخلاق الشخصية، وتدبير المنزل، وسياسة الدولة أو المدينة الفاضلة؛ فسبق بذلك أرسطو وأفلاطون كما سنشير إليه حين نعرض لأخلاقه النظرية. وليس هذا فحسب، بل هو الذي رفع علم التاريخ في الصين إلى مصاف العلوم الأخرى عند الأمم الراقية، وهو أول من أناروا سبيل علم المنطق للذين أتوا بعده فزادوا عليه ما جعله قميناً بالاحترام والإجلال

غير أنه على الرغم من ذلك كله لم يصادف في حياته نجاحاً باهراً كما أسلفنا. والسبب في ذلك الإخفاق هو أخلاقه المتينة التي لم تسمح له أن يتملق أعظم الملوك والأمراء مرة واحدة في حياته، ولا أن يحني رأسه إلا للحق وحده، فضايقت هذه الأخلاق القويمة المبطلين من الطغاة والمتجبرين. وكانت نتيجة ذلك أن ربح فيلسوفنا الفضيلة وخسر الحياة المادية

على أن الشعب لم يلبث أن تنبه إلى حكمة (كونفيشيوس) الخالدة القائلة: (إن الجوهر الأساسي العملي للشعب يجب أن يكون هو الأخلاق، وإن سياسية الدولة لا تنجح نجاحاً حقيقياً إلا إذا أسست على الأخلاق)

لما تنبه الشعب إلى هذه الحكمة وآمن بها وأخذ يطبقها تطبيقاً عملياً دقيقاً أخذت أحواله العامة تتحسن شيئاً فشيئاً حتى بلغت الأوج. والفضل في ذلك كله راجع إلى التماسك الأخلاقي الذي وضع هذا الحكيم بذوره في تعاليمه القيمة الجليلة

(يتبع)

محمد غلاب