مجلة الرسالة/العدد 221/الفلسفة الشرقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 221/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 23 -

الفلسفة الصينية

أخلاق العصر الأول أو الفلسفة العملية

أشرنا في الفصل السابق إلى أن فلسفة الخاصة لم تتأثر ألبته بأفكار العامة ولم تحمل أي طابع من طوابع العقلية الشعبية ونجزم هنا بأن عكس ذلك هو الذي وقع أي أن العامة هي التي تأثرت بفلسفة الخاصة، ولكنه تأثر أخلاقي فحسب، وإنما نقول فحسب، لأن فلسفة الخاصة النظرية ليس لها على عقيدة العامة إلا آثار طفيفة لا تكاد تذكر، فبينما نرى فلسفة الخاصة تعجز عن رفع الجماهير إلى الإيمان بـ (شابخ - تي) وهو السلطان الأعلى نشاهد فلسفتها العملية تسود الشعب كله خاصة وعامة، بل وتلون عقيدة الجمهور بذلك اللون الأخلاقي الراقي

نحن نعلم أن الصينيين كانوا يرون أن السماء كائن متحرك تبعاً لقانون منظم، وهذا القانون يربط القوى الثلاث: السماء والأرض والإنسان ربطاً محكماً، وإن كان لكل واحدة من هذه القوى في الظاهر طريق خاص أو غاية مقصود تحقيقها. فغاية السماء تسمى: (تيان تاو). وغاية الأرض تسمى: (توتاو). وغاية الإنسان تسمى: (جين تاو) إلا أن هذه الغايات ليست في الحقيقة إلا غاية واحدة، وهي غاية العالم أو قانون الطبيعة أو واجب الموجودات

لهذا الارتباط المحكم بين تلك الغايات الثلاث أثره العميق في كل شيء، إذ لا يكاد اضطراب بسيط يحدث في أحدها حتى يتردد صداه في جميع جزئيات الآخرين، فمثلا إذا حاد الإنسان عن الطريق السوي، فاقترف جريمة من الجرائم حدث في الحال اضطراب في السماء والأرض، وليس الكسوف والخسوف والزلازل وظهور الكواكب ذوات الأذناب والجدب والأوبئة ليس كل ذلك إلا نتائج جرائم الإنسان وحيدته عن الطريق المستقيم، فإذا ما حدث في السماء هذا الاضطراب الناشئ من سلوك الإنسان وأعقبه اضطراب الأرض عاد الأثر من جديد إلى السماء فتضاعف اضطرابها. ولهذا تقول (أونج فان) أو القاعدة العظمى، وهي أقدم مستند فلسفي صيني: إن سلوك احترام من يستحق الاحترام يجلب الغيث في الوقت المراد والتبصر يجلب الحرارة في الوقت المراد والتمرن على التأمل يجلب البرودة في الوقت المراد، وحكمة الملك تجلب الهواء في الوقت المراد، ولكن الفظاظة تديم المطر من غير انقطاع، والكسل يديم الحرارة من غير انقطاع، والتهوس يجلب البرد من غير انقطاع، واحتقار ما يستحق الاحترام يجلب الجدب، والحماقة تجلب العاصفة)

وإذا رأينا أن الصين يربطون المظاهر الطبيعية بالفضائل والأخلاق إلى هذا الحد، استطعنا أن نجزم بأن الواجب هو الذي كان له القيادة العليا في هذا الشعب، وبأن كل فرد كان يحاول بقدر طاقته أن يكون فاضلا حتى لا يكون مجلبة للوباء أو للجدب فتشقى بسببه الأمة جمعاء، ولكن الفضيلة عندهم لم تكن تتحقق بعمل أو ببضعة أعمال خيرية وإنما هي كمال الخلق وتحقيق الاستنارة التامة للنفس، واتباع الصراط السوي في كل شيء، ذلك الصراط الذي هو موجود بالفطرة لدى كل روح بشرية والذي هو برهان احترام النفس الإنسانية وارتباطها بالسماء. وأكثر من ذلك أن المستصينين الذين اشتغلوا باللغة الصينية عثروا في دراساتهم على أن كلمة: (تاو) التي هي الطريق المستقيم أو الغاية المثلى لكل الكائنات أو تحقيق الواجب تدل أيضاً على نصيب الإنسان الممنوح له من السماء، وهذا برهان آخر على ارتباط الفضيلة والواجب بحظ الإنسان في الحياة عند هؤلاء القوم.

وعند الصينيين أن الإنسان خير بفطرته، لأنه جزء الطبيعة والطبيعة هي الإله، ولكن الإنسان ليس مجبراً على اتباع طبيعتها الخيرة دائماً مثل النبات أو الحيوان، وإنما هو كائن مفكر له كسب واختيار قد يبعدانه أحياناً عن الصراط السوي الذي هو صوت السماء أو صوت الطبيعة. أما الخير الموجود في نفسه، فليس كامل التكوين، وإنما هو موجود على هيئة استعداد فقط وعليه هو أن يحققه حتى تصبح الفضيلة طبيعة عملية له.

وهنا أحسب أني لست في حاجة إلى التنبيه إلى أن الصينيين قد سبقوا الرواقيين إلى هذه النظرية بعدة قرون حيث قرر هؤلاء الأخيرون أن الإنسان هو جزء الطبيعة التي هي الاله، وأنه خير بفطرته، وأن الشر لا يقع منه إلا إذا حاد عن طبيعته، وأن هذه الحيدة لا تأتيه إلا من التفكير وحرية الاختيار.

وعلى ذكر حظ الإنسان الذي تمنحه إياه السماء ينبغي لنا أن نشير هنا إلى أن القدر كان عند الصينيين على نوعين: الأول هو الأقدار الناشئة عن أفعال الإنسان نفسه، وهذا النوع لا يمكن تعديله أو التغيير فيه. والنوع الثاني هو الحظ الذي تبدأ السماء بتوزيعه على الإنسان، وهذا يمكن تلطيفه أو تحويل شره إلى خير كما ينص على ذلك كتاب (شو - كينج)

رفع الصينيون إلههم إلى أسمى آواج الكمال الخلقي فنزهوه عن الظلم وعن الاستثناء (المحسوبية) فمن المستحيل مثلاً أن ينزل بالبشر الآلام والازدراء اتباعاً لهواه، أو أن يطرد من رحمته إنساناً لم يجرم، أو أن يعفو عن آثم لم يقلع عن إثمه كما كان يفعل آلهة البابليين والعبرانيين؛ وإنما هو إله فاضل يمنح النعمة والسعادة للأخيار، ويقسو إلي أقصى حدود القسوة على المجرمين والشرار. وفي هذا يقول كتاب (شو - كينج) ما نصه. (إن الفضيلة وحدها هي التي تؤثر في السماء، وإنه لا يوجد أمام الفضيلة ألبته شيء بعيد بحيث تعجز عن اللحوق به، وإن المتكبر منخفض، والمتواضع مرتفع؛ فإذا لاحظت ذلك، فإنك ستسير على صراط السماء. . .)

من الفضائل الهامة التي نصت عليها الأخلاق الصينية الرحمة التي تجب للصغير على الكبير، وللضعيف على القوي، وللفقير على الغني. ويحدثنا أحد العلماء بأن الآية الموجودة في الإنجيل في هذا الصدد موجودة بنصها في اقدم الكتب الصينية وهي: (إنما السعداء هم الرحماء) راجع الإنجيل وكتابي (شو - كينج) و (إي - كينج)

ومما لا شك فيه هو أن الفلسفة العملية الصينية لم تكف لحظة عن مهاجمة العنف وعن الأمر بالرحمة في المعاملات، بل وعن إفهام الأقوياء والأغنياء أن الضعفاء والفقراء خير منهم؛ وأن هذه الخيرية سر غامض كامن وراء هذه المظاهر السطحية الخداعة من غنى وقوة وجاه. ومن هذا ما يقوله كتاب (إي - كينج): (إن الهواء الذي يصفر في السماء إنما هو تصوير لقوة الرجل الذي يظهر صغيرا، وإن الرجل الذي يمشي فوق ذيل النمر دون أن يعضه هو الذي سينجح، وإن التواضع يخلق النجاح، وإن الحكيم المتواضع يستطيع أن يجتاز البحر الأعظم)

ويعلق أحد الباحثين على هذا بقوله: ولكننا يجب علينا ألا نفهم أن الرحمة التي تدعو إليها الديانة الصينية هي الرحمة التي تجر إلى الضعف، وإنما هي الثبات في وداعة والصلابة في تحقيق الواجب. وعلى الجملة هي المقياس المضبوط في كل شيء أو هي الاعتدال أو التوسط في كل شيء، وهذا التوسط كانوا يسمونه: (تشونج) أي الفضيلة في ذاتها، وفيها يقول (إي - كينج): (إن احتمال فظاظة الأفظاظ في وداعة، واختراق الأنهار في ثبات وشجاعة، وعدم إهمال البعيد، وعدم الانشغال بالغير، كل هذا مجتمعاً هو الذي يحقق السير في طريق الاعتدال الوسط)

وهناك نص يعد من أقدم نصوص كتاب (شو - كينج) يقول: (إن الفضائل التي تصير الإنسان غاية في الكمال: هي الممنونية مع الجد، والتخلي مع الثبات، والحشمة مع البساطة، والحزم في السلطان مع الحكمة، وسهولة الانقياد مع القوة، والصلابة في الاستقامة مع الوداعة، والرحمة مع التمييز، والشدة مع الإخلاص، والشجاعة مع العدالة. فإذا اتبع رعاياك هذه المحامد، فإنهم سيكونون مستقيمين في الطريق السوي)

من خلال هذا كله نلمح في سهولة أن الأخلاق الصينية قد أقيمت منذ أقدم عصورها على أساسين جوهريين: الأول المثالية العليا والثاني سعادة المجتمع. ويعلق العالم (زانكير) على هذا بقوله: ولقد فهم بعض الباحثين أن الأخلاق الصينية نفعية جافة فظة. وفي الواقع أن النظرة السطحية المتسرعة في فلسفة الصينيين لابد أن تنتج هذه النتيجة، إذ لا يكاد الباحث يتصفح كتبهم حتى يلتقي فيها بقاعدة (الفضيلة طريق السعادة) أو (السعادة غاية الفضيلة) فإذا كان الباحث من أولئك الذين لا يكلفون أنفسهم التعمق جزم بنفعية هذه الأخلاق، بل بأنانيتها ولكن نظرة فاحصة، وتأملة دقيقة، تظهران أن السعادة المقصودة ليست هي سعادة الفرد، وإنما هي سعادة المجتمع، وليس ذلك النجاح الموعود به لمكافأة الفضيلة هو نجاح الشخص، وإنما هو النجاح في تحسين أحوال البيئة العمرانية التي يقيم فيها الفضلاء. وفي الحق أن الثرة عند الصينيين من أقبح الرذائل، وان الغيرية أو الإيثار في رأيهم ن أجل الفضائل، وأن الفضيلة بوجه عام تنحصر في الخضوع الحر الذي يصدر من الفرد نحو مجتمعه صدوراً إدارياً، لأن ذلك المجتمع الممثل في أوامره الحية إنما هو عندهم صور أمينة للأوامر السماوية. وهكذا نرى أن القانون والحرية هما الدعامتان الجوهريتان للخلاق الصينية، وفوق ذلك فهما تذكراننا بعبارة (كانت) القيمة، وهي: (إن السماء التي تسطع نجومها فوق رأسي هي عين القانون الأخلاقي الذي في داخل نفسي)

نظام الأسرة

كان لرب الأسرة في الصين كما كان في روما حق الحياة والموت على جميع أفرادها بدون استثناء ودون أي تذمر أو اعتراض، ولكن بقدر ما كان أرباب الأسر في روما قاسي القلوب متحجري الأكباد لا يبالون بتضحية فرد أو عدة أفراد في سبيل هوى من الأهواء أو شهوة من الشهوات. كان رؤساء الأسر في الصين على العكس من ذلك تماماً تفيض الرحمة من قلوبهم، وينبع الحنان من بين جوانحهم، ولا يسلكون مع جميع أفراد أسرهم إلا سبل العدالة والاستقامة، ولا يتخذون في معاملاتهم إياهم رائداً غير الفضيلة، وإن كانوا لا يتوانون لحظة واحدة في اتخاذ أقسى أنواع الحزم إذا تطلبت الحالة الأخلاقية أو الاجتماعية ذلك. أما واجبات المرؤوسين نحو رؤسائهم في الأسرة من احترام وإخلاص وطاعة فإننا نكتفي بما أشرنا إليه منها عند حديثنا عن الأخلاق العامة.

السلطان

تنتقل السلطة إلى الملك عند الصينيين من السماء مباشرة، ولهذا يجب أن يكون فاضلاً، مستقيماً، حكيماً، بل قديساً منزهاً عن النقص، لأنه الابن الحقيقي للسماء؛ وليست البنوة المادية هي المعتبرة، بل إن الاصطفاء المعنوي هو كل شيء، وإن منحة السماء لا تتوقف على جاه ولا مولد، وفي هذا يقول (شو - كينج): (إن من يستضيء بالفضيلة الساطعة هو وحده الذي يمكن أن يسمو ولو كان ابن فلاح) وهذه القاعدة الأخلاقية تعلن في صراحة أن (الإمبراطور) إذا حاد عن الصراط السوي، فإن السماء تسلب منه السلطة؛ وهذا طبيعي لأن الملك مادام قد قطع برذيلته صلته الداخلية بالسماء، فيجب أن تزول صلته الخارجية بها. ولقد تجسمت هذه الفكرة حتى خصص (كونفيشيوس) فيما بعد في قانون العقوبات الذي أنشأه مادة لعقاب الفرد الذي يفقد صلته بالسماء.

أقنعت هذه النظرية الملوك بأن الحكم بحد السيف والخنجر مستحيل، وبأن السلطة الوحيدة الدائمة إنما هي المنبثقة من الفضيلة، وفي هذا يقول كتاب (إي - كينج) في وعظ الأمراء: (إن القوانين القاسية لا تستطيع أن تحقق الرخاء، وإن نصيب الحزم يساوي نصيب الخيرية، وإن القسوة يجب أن تقف عند التوسط، فإذا ما تعدته فقدت نتيجتها النافعة. ومن يطبق القانون بوداعة مع حزم، وبخيرية مع قسوة معتدلة، يفز بالشهرة، إذ يكون قد أدى وظيفته على وجه الكمال. إن الشعب إذا أحس بقسوة القانون عصاه دون اقل تأنيب من الضمير) ويقول أيضاً: (إن الوداعة الداخلية، والحزم المعتدل، والترضية الممنوحة للجميع من غير استثناء، والأمانة، والاستقامة، كل ذلك هو الذي يحقق تحسين حال الشعب ويعظم امتداد الثقة حتى تتناول الخنازير والأسماك)

لم تكن هذه القواعد الأخلاقية عند الصينيين مجرد نظريات علمية تسجل في الكتب دون أن تحقق في الواقع، كلا، وإنما كانت أخلاقاً عملية طبقها الشعب: عامته وخاصته وملوكه. ومن هذا السمو الأخلاقي العملي ما تحدثنا به الأساطير الصينية عن أحد ملوك عصر ما قبل التاريخ، وهو (هوانج - تي) أي الإمبراطور الأصفر الذي عاش حوالي القرن السابع والعشرين قبل المسيح، والذي تمثله لنا الأسطورة مثلاً أعلى للفضيلة والحكمة، وإن كانت الكتب المقدسة لا تذكر عنه شيئاً

أما (شو - كينج) فهو يحدثنا أن بلاد الصين كانت سعيدة قوية في عهد ملوك الأسرتين: الأولى والثانية أي أسرتي (هيا) و (شانج - إين) لأن ملوكهما كانوا فضلاء وحكماء؛ وكذلك امتدت السعادة إلى أول عهد الأسرة الثالثة التي أسسها (وين - وانج) الحكيم الذي كان يطلق عليه اسم الملك المهذب، والذي هو النموذج الأعلى لكونفشيوس، والذي ساهم بخطه في نسخ (إي - كينج) وقد حكم في سنة 1122 قبل المسيح

غير أن السلطة انتقلت إلى ملوك غير مستقيمين فسلبت السماء سلطتها منهم، وسقط الشعب في حضيض التنازع والتفرق، واخذ صغار الحكام يستأثرون بالسلطة. وعلى الجملة ساد الشقاء والبؤس تلك البلاد خمسة قرون كاملة انتهى بانتهائها هذا العصر وبدأ العصر الذي سنتحدث عنه في الفصل الآتي

(يتبع) محمد غلاب