مجلة الرسالة/العدد 220/مصر في أواخر القرن الثامن عشر كما يصفها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 220/مصر في أواخر القرن الثامن عشر كما يصفها

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 09 - 1937


1 - مصر في أواخر القرن الثامن عشر كما يصفها الرحالة سافاري

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كانت مصر خلال العصور الوسطى كعبة لطائفة كبيرة من الرحل والباحثين يفدون عليها من المشرق والمغرب، تجذبهم عظمتها وآثارها وعلومها وفنونها؛ وقد ترك لنا كثير من هؤلاء الرحل آثاراً قيمة عن مصر وأحوالها في مختلف العصور. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء ابن حوقل وعبد اللطيف البغدادي وابن بطوطة، والبلوي، وابن خلدون من الرحل والعلماء المسلمين، ومركوبولو ودي جوانفيل وبيترو مارتيري من الرحل الغربيين. ولم ينقطع ورود هذا الرهط من الرحل بعد الفتح العثماني، بل نلاحظ بالعكس أن الرحل والباحثين الغربيين يفدون على مصر منذ القرن السابع عشر في فترات متقاربة ويضعون عنها المؤلفات والبحوث المطولة؛ ولدينا منهم في القرنين السابع عشر والثامن عشر ثبت حافل؛ ولدينا من آثارهم مجموعة نفيسة من الوثائق والصور عن مصر في هذه الفترة. وإذ كان العصر العثماني من أغمض عصور التاريخ المصري وأشدها ظلاماً، فإن هذه المجموعة من آثار الرحل الغربيين تعتبر من أهم مراجعنا في دراسته وتصويره.

بيد أنه مما تجدر ملاحظته هو أن القرن الثامن عشر كان بالنسبة للدولة العثمانية فترة انحلال وضعف؛ فقد كانت قواها العسكرية تنهار تحت ضربات روسيا القوية، وكانت الاضطرابات والمتاعب الداخلية تقوض من صرحها القديم الشامخ؛ وكانت مصر في ذلك الحين قد أخذت تتحرك من سباتها الطويل، وتترقب الفرص لتحطم ذلك النير الغاشم الذي يعصف بقواها المادية والروحية منذ قرنين. وفي منتصف القرن الثامن عشر استطاع زعماء مصر، بقية الأمراء من الشراكسة أن يستردوا نوعاً من الاستقلال المحلي، وأن يبسطوا حكمهم الفعلي على مصر، وأن يجعلوا سلطة الدولة العثمانية اسمية رمزية فقط؛ وتعاقب في حكم مصر منهم عدة بدأت بإبراهيم بك ورضوان بك، ثم علي بك الكبير. فمحمد بك أبي الذهب، فمراد وإبراهيم. على أن هذا الحكم الداخلي المستقل كان نوعاً من المغامرة التي لا تستند إلى قوة مادية يخشى بأسها أو تأييد شعبي حقيقي، وكانت مصر عاجزة عن مواجهة الأخطار الخارجية دون معاونة الدولة العثمانية. ففي تلك الفترة الت انهارت فيها قوى الدولة العثمانية، والتي تركت مصر فيها مفتحة الأبواب دون حماية حقيقية، نرى ثبتاً من الرحل الغربيين يفدون عليها في فترات متقاربة، ويدرسون أحوالها وشئونها بعناية ودقة؛ وكان جل هؤلاء الرحل من الفرنسيين والإنكليز؛ فهل كان مقدمهم إلى مصر في تلك الظروف أمراً عرضياً؟ وهل كانوا طلاب سياحة وثقافة ودرس فقط؟ أم كانوا طلائع الاستعمار الغربي المتوثب يومئذٍ، قدموا إلى مصر يجوسون خلالها ويتفقدون شئونها وأسرارها تمهيداً لمشاريع يجيش بها هذا الاستعمار؟ ويلوح لنا أن هذه الرحلات والدراسات المستفيضة لم تكن بريئة كل البراءة، ولم تكن بعيدة كل البعد عن وحي الاستعمار ومشاريعه؟ ولقد ألفى الاستعمار في هذه الدراسات كل ما يرغب في معرفته عن مصر وعن أحوالها الاقتصادية والسياسية وبالأخص عن قواها الدفاعية. وفي خاتمة القرن الثامن عشر دبر الاستعمار الأوربي أول مشاريعه لافتراس مصر، وجاء بونابرت إلى مصر تحدوه أحلام إمبراطورية عظيمة، كان يعتقد أنه يستطيع أن يتخذ مصر قاعدة لتحقيقها.

وكان في مقدمة الرحل الذين قدموا إلى مصر قبل الفتح الفرنسي بقليل رحالة ومستشرق فرنسي ترك لنا عن مصر في أواخر القرن الثامن عشر أثراً من أنفس الآثار وأقيمها، فإن الرحالة العلامة هو كلود إتيان سافاري الذي قدم إلى مصر في سنة 1776، تحدوه أحلام مشرقية باهرة؛ وكان مولده في فتري سنة 1750، ودرس دراسة جامعية حسنة في رون وباريس، وكان في السادسة والعشرين من عمره حينما اعتزم الرحلة إلى المشرق يجذبه بهاء المشرق وروعته؛ وقضى في مصر ثلاثة أعوام طاف خلالها أرجاء الديار المصرية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وزار جميع معالمها ومعاهدها وآثارها، ودرس جميع أحوالها وشئونها ومجتمعاتها، ودرس اللغة العربية والدين الإسلامي: ثم زار الجزر اليونانية، وعاد إلى فرنسا سنة 1781 بعد غيبة دامت خمسة أعوام؛ ووضع عن رحلته ودراساته في مصر طائفة من الرسائل المستفيضة ملأت ثلاث مجلدات، ونشرت بين سنتي 1785 و 1789؛ ثم نشر ترجمة حسنة للقرآن وأتبعها بكتاب في تفسير قواعد الدين الإسلامي تحت عنوان وترجم بعض قصص ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية، ووضع أجرومية للغة العربية والعامية ظهرت بعد وفاته. وتوفي في باريس سنة 1788، وهو دون الأربعين.

كان سافاري إذاً رحالة من طراز خاص، أعدته مواهبه ومعارفه للقيام بدراسات حسنة في بلاد المشرق؛ فقد درس اللغة العربية، وعرف تاريخ المشرق، وعرف كثيراً عن الإسلام والشريعة الإسلامية؛ ومن ثم كانت رسائله عن مصر تمتاز بطابع من الدقة لا نجده في كثير من الكتب والدراسات المماثلة، وهو يقدم إلينا هذه الرسائل تحت عنوان (رسائل عن مصر) ' ويصف لنا محتوياتها فيما يأتي: (بها وصف لخلال أهل مصر القديمة والحديثة ووصف لنظم الدولة، وأحوال التجارة والزراعة، وغزو القديس لويس لدمياط منقولاً عن جوانفيل والروايات العربية، ومعها خرائط جغرافية). ويهدي سافاري كتابه إلى (صاحب السمو أخي الملك. . لما أسبغه عليه من مؤازرة مكنته من نشر رسائله، وإنه لشرف عظيم أن يتوجها باسم مولاه. .) ويوجه رسائله إلى هذا الأمير أخي الملك؛ وقد كان ملك فرنسا يومئذٍ هو لويس السادس عشر وأخوه الدوق دورليان. ويبدو مما كتبه سافاري في رسالته الأولى أن الأمير المشار إليه هو الذي نصحه عند سفره أن يدرس أحوال المجتمعات التي اعتزم زيارتها وخلالها وعاداتها ولغاتها.

وقد كان لآثار مصر الفرعونية وذكرياتها القديمة في نفس سافاري أعظم الأثر، وهو يعرب لنا في مقدمته عن عظيم إعجابه بذلك التراث الباهر، ويقول لنا: (إن من يرى الآثار التي تحتفظ بها مصر، يستطيع أن يتصور أي شعب هذا الذي تحدت صروحه أحداث الزمن. فهو لم يكن يعمل إلا للخلود؛ وهو الذي أمد هوميروس وهيرودوت وأفلاطون بكنوز معارفهم التي أسبغوها على بلادهم؛ وإنه لمن الأسف أن العلم لم يستطع بعدُ أن يكشف عن أسرار النفوس الفرعونية (الهيروغليفية) التي تغص بها هذه البلاد الغنية، فمعرفة هذه الأسرار تلقي ضياء على التاريخ القديم، وتبدد الظلمات التي تكتنف عصور التاريخ الأولى) وقد تحققت أمنية سافاري بعد ذلك بقليل، إذ اكتشف حجر رشيد ووقف العلم على أسرار اللغة الفرعونية، وبدأت البحوث الأثرية بين الأطلال والآثار الفرعونية تكشف تباعاً منذ أوائل القرن التاسع عشر عن روعة هذه المدنية الفرعونية الباهرة التي ما زالت هياكلها وآثارها العظيمة، مدى العصور مثال الإعجاب والإجلال والتقدير.

ويبدأ سافاري رسائله عن مصر من الإسكندرية في 24 يوليه سنة 1777 بعد أن مكث في مصر أكثر من عامين، ويوجهها جميعاً إلى هذا الأمير الذي يهدي إليه كتابه، ويستهلها بوصف جامع لجغرافية مصر، ثم وصف بديع لمدينة الإسكندرية وآثارها الرومانية؛ ويستعرض بعد ذلك حوادث الفتح العربي، ودخول الإسكندرية في ظل الحكم الإسلامي، ويعطف على قصة مكتبة البطالسة الشهيرة، وينقل خرافة إحراقها بأمر عمر عن بعض الروايات العربية. ويبدو مما يكتب سافاري أن الإسكندرية كانت في أواخر القرن الثامن عشر لا تزال تحتفظ بقسط من عظمتها القديمة وتجارتها الزاخرة برغم الأحداث الكثيرة التي مرت بها. وكان مما أثار اهتمام الرحالة بنوع خاص منظر عمود السواري وما يحيط به من الأسرار المغلقة، والمسلات التي كانت تسمى يومئذٍ (إبرة كيلوباترة) والمقابر الرومانية، أو كما يسميها مدينة الأموات.

ولم يفت سافاري أن يلاحظ آثار الفتح العثماني المخربة؛ فهو قد درس تاريخ مصر الزاهر في عهد الدولة الإسلامية، واستطاع أن يقدر مما شاهده يومئذٍ من أحوال مصر تلك النتائج المحزنة التي انتهت إليها بعد قرنين ونصف قرن من حكم غشوم عاسف جاهل؛ وهو يقول لنا بحق إن الفتح التركي كان خاتمة لمجد مصر وإن حكم الباشوات قضى على العلوم والآداب، وخرب التجارة والصناعة والزراعة، وأسبغ حجاباً من العفاء الشامل على كل ما كان لمصر الإسلامية من عظمة ورخاء.

ثم ينتقل سافاري من الإسكندرية إلى رشيد، ويقضي بها ردحاً من الزمن، ويصف لنا رشيد وأهلها وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية في عدة رسائل شائقة؛ ويقول لنا إن الحياة فيها ساحرة مغرية، وإن لأهلها أزياء خاصة، وإنهم يقصون الشعر ويرسلون اللحى؛ ثم يقصد بعد ذلك إلى القاهرة في مركب شراعي، ويخترق فرع رشيد ماراً ببعض القرى الشهيرة يومئذٍ مثل برمبال ومحلة أمير، ويصف لنا هذه الرحلة البطيئة الشائقة، ويصف لنا بالأخص منظر القرويات على الشاطئ، وكيف يهرعن إلى النهر لأخذ الماء وغسل الثياب والاستحمام أحياناً، وكيف شهد كثيرات منهن يسبحن في النهر نحو المركب وهن يصحن: (يا سيدي هات ميدي) ويقول لنا في لغة شعرية: إنهن يسبحن في كثير من الظرف، وإنهن يتمتعن بأجسام رشيقة ساحرة، وبشرة سمراء بديعة.

وفي هذه المواطن وأمثالها تبدو براعة سافاري الوصفية، وتبدو قوة بيانه. والواقع أن سافاري يكتب بأسلوب رفيع سواء من الناحية العلمية أو الناحية الأدبية؛ ولا يفوته أن يقدم إلينا خلال وصفه كثيراً من المقارنات التاريخية والأدبية الشائقة؛ وهو من هذه الناحية يتفوق على كثير من الرحل الذين كتبوا عن مصر؛ كما أن رسائله تمتاز كما قدمنا بطابعها العلمي الدقيق.

وسنرى عندما يتم سافاري رحلته النيلية، ويصل إلى مدينة القاهرة أي صور قوية شائقة يقدمها إلينا هذا الرحالة العلامة عن حياة العاصمة المصرية والمجتمع المصري في أواخر القرن الثامن عشر؛ وسنرى أي وثيقة نفيسة تقدمها إلينا رسائله عن تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في هذه الفترة المضطربة التي تعز مصادرها ووثائقها.

فينا في أوائل سبتمبر

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان