مجلة الرسالة/العدد 220/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 220/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 09 - 1937



من قصص التاريخ

جاسبار هوزيه 1812 - 1833

الأستاذ عبد اللطيف النشار

إن كان البؤس مؤهلاً لبقاء الذكرى فليس أحد أحق بأن يعيش في ذاكرة الناس من جاسبار هوزيه.

أربى عمره على العشرين ولكنه لم يعش في الواقع إلا أربعة أعوام، وذلك لأن بقية عمره يجب أن تحذف من حساب الأعمار. عاش ما بين العام الذي ولد فيه وبين اليوم الذي بلغ فيه من العمر ثمانية عشر عاماً، وهو يجهل تمام الجهل ما يعلمه الأطفال دون عمد - ما يعلمونه بالغريزة وحدها. كان يجهل مثلا أن في الدنيا مزارع وأن في هذه المزارع طيوراً وزهوراً؛ وكان يجهل أن في الدنيا رجالا وأن هؤلاء الرجال يمشون ويضحكون ويبكون؛ وكان يجهل أن فوقنا سماء وأن في السماء كواكب وأن أحد هذه الكواكب يضئ في النهار وبقيتها تنير في الليل.

هكذا عاش ثمانية عشر عاماً وهو لا يعرف شيئاً عن الدنيا ولا عن الناس ولا عن الأفراح ولا عن الأحزان.

وفي يوم 26 مايو سنة 1828 وجد جاسبار هوزيه عند باب مدينة نورمبورج في بافاريا وكان هذا أول عهد الناس به وعهده بالناس.

ولما ترك هذا الباب حاول المشي ولكن قدميه خانتاه لأنه لم يعتد المشي فوقع. وهو الآن يمشي لأول مرة في الطريق وهمهم بأصوات غير مفهومة لأنه لا يعرف الكلام. ولو كان يعرفه لخاطب الناس بمثل هذا القول:

(في هذا اليوم أترك في المرة الأولى سجناً مظلماً وضعت فيه منذ مولدي ولم أنتقل منه، ولم أعرف غيره. ولست بالأعمى ولكن لأول مرة ترى عيناي اليوم ضوء الشمس، ولست بالأصم ولكني إلى ما قبل لحظات لم أكن أعرف ما الأصوات؛ وهكذا أنا بينكم لا أستطيع المشي ولا السماع ولا النظر. إنني رجل ولكنني أقل بينكم من الأطفال.

وكانت قوانين هذه المدينة شديدة على المتشردين، فلما رأى الجنود جاسبار مرتمياً على الأرض قادوه إلى قسم البوليس، ولكن كان عبثاً ما حاول المحققون من الحصول على إجابة منه

وخطر ببال واحد منهم أن أمامه دواة وقلماً وورقة، فلما رأى جاسبار هذه الأشياء تناول القلم وكتب اسمه فاستدل المحققون بذلك على أنه يدعي الخرس والصمم، وعلى أنه متشرد فأرسلوه إلى السجن

وكان من بين الذين حضروا التحقيق معه طبيب اسمه الدكتور (دومر) وقد استرعت هذه الحالة اهتمامه فصار يعوده في السجن ويترقب تصرفاته

ولما جيء إليه في السجن بقطعة من اللحم وبقدح من الجعة ارتاع ورمى بالقدح، وجيء له بقطعة من الخبز وبقدح من الماء فتهلل وجهه وتغدى منشرحاً ثم نام

وفي خلال الأيام الأولى زار السجن عدد كبير من الناس ليروا هذا المجهول. وكان بعضهم يحمل إليه الكعك، والبعض يحمل إليه اللعب

وكان الفريق الآخر حكيما لأن المعاملة المعقولة مع مثل هذا المخلوق هي معاملة الأطفال. لكن جاسبار كان يرفض كل ما كان يقدم إليه إلا جواداً خشبياً حين رآه تهلل وأبدى رغبة دالة على نفاذ الصبر في الحصول عليه. فأدرك النظارة من ذلك أنه كان يملك مرة مثل هذا الجواد الخشبي، وانه كان في يأس من استرجاعه

وعلى التدريج استطاع جاسبار رؤية النور وسماع الأصوات، وكان من قبل يبكي عندما يسمع دقات الساعة من الكنيسة المجاورة وينزعج عندما تمر بالقرب من السجن فرقة موسيقية. وقد أغمي عليه في أول مرة سمع فيها الألحان

وكان الدكتور (دومر) يراقب في اهتمام شديد كل هذه التطورات، فلما اقتنع بإمكان تعليمه طلب إلى ولاة الأمور تسليمه إليه. وبدأ يعلمه ووجد تقدمه مستمرا. وبعد مدة كتب جاسبار تاريخ نفسه في العجالة الآتية:

(كنت لا أعرف كم عمري لأني لم أكن اشعر بوجود الأيام والليالي ولا بمدلول العمر، ولكني كنت أشعر بوجودي في الغرفة المظلمة التي لم أعرف غيرها. وكان رجل يزورني كل يوم ويأتي بالطعام، وكنت اشعر بأني غير وحيد في هذه الدنيا. وقد وضع الرجل أمامي شيئاً لم أكن أعرف ما هو لكن شكله كان يسرني، وهو جواد خشبي، وكنت أرى ذلك الرجل يمشي فأحاول المشي مثله ولكني كثيراً ما كنت أقع أو يصطدم رأسي بالحائط. وافهم الآن - ولكني لم أكن أفهم من قبل - أن ثيابي كانت بين حين وآخر تتبدل بثياب انظف وأن شعري كان يقص. واحسب أن ذلك الرجل كان يضع في طعامي مخدراً ليتمكن من إحداث هذا التغيير دون أن اشعر

وفي يوم من الأيام جاء بدواة وقلم وورقة وأمسك بيدي وعودني كتابة اسمي ولم أكن أعرف معنى لهذه الحركة ولا للاسم الذي كنت أكتبه. ولكن سهل علي ذلك بحكم الاعتياد. وأظن تعلمي كتابة اسمي قد أستغرق نحو عام من العمر. وأحسب أن هذا الاسم ليس هو اسمي الحقيقي ولكنه الذي أرادوا أن يطلقوه عليّ. على أنني غير راض عنه وأريد إن مت أن يكتب على قبري: (المجهول)

ولست أشك في أن أبي أراد إنكاري ولم يرد قتلي وهذا هو الذي يجعلني أعتقد أن اسم جاسبار هوزيه ليس اسمي. ويظهر أنني أصبحت عبئاً ثقيلاً عليهم بعد إذ بلغت هذا العمر فأرادوا التخلص مني. ففي أحد الأيام دخل الرجل الذي أعتاد أن يحمل إلي الطعام والشراب ولكنه لم يقدم لي طعاماً ولا شراباً فاستغربت وزاد استغرابي لما وضع عصابة على عيني وحملني فلم أسائل نفسي عما يراد أن يصنعوه بي

وهنا تخونني ذاكرتي ولكن أحسب أن وجودي في الطريق لأول مرة صدم أعصابي وأظن أنهم أزالوا العصابة عند باب (نورمبورج)

وأقام جاسبار عند الدكتور (دومر) وصار يرافقه في الأسواق ويظهر بين الناس. وفي أحد الأيام أصيب جاسبار وهو يدخل باب المنزل بطعنة من خنجر قذف به فجرح في جبينه ولكن الجرح كان خفيفاً. ولم يتمكن أحد من معرفة الذي شرع في قتله

لكن هذا الشروع كان كافياً للدلالة على أن حياة جاسبار لم تكن في مأمن بتلك المدينة

وطلب اللورد ستانهوب وهو من أغنياء الإنكليز إلى الدكتور دومر أن يترك له جاسبار فتركه له. وأرسل جاسبار إلى مدرسة في إنكلترا. وكان يقيم بها في منزل الدكتور منهرمان.

وفي يوم ما كان جاسبار يسير بالقرب من متحف أوزن فأصيب بطعنة وهرب الذي طعنه.

وعلى الرغم من أن الطعنة كانت مميتة فقد تمكن جاسبار من العودة إلى منزل الدكتور منهرمان. وكان كل ما استطاع أن يفوه به قبل موته أنه ولد في 30 ابريل سنة 1812 في بافاريا.

وأعلن اللورد ستانهوب أنه يكافئ من يرشد عن قاتله بخمسة آلاف فلورين، ولكن البحوث الرسمية وغير الرسمية ذهبت كلها سدى. ومات جاسبار في17 ديسمبر سنة 1833.

عبد اللطيف النشار