مجلة الرسالة/العدد 218/الفلسفة الشرقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 218/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 09 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 20 -

الديانة الفارسية

مصير العالم

يحدثنا قسم (الجاتها) أن نهاية العالم موقوتة بموت (زرادشت) وأن (أهوارا) أراد أن يختم به هذه الحياة الدنيا، وهو لهذا يدفعه في حماسة إلى تأدية رسالته بأسرع ما يستطاع ويأمره أن يصدع بأوامر ربه وأن يعلن أنه سيتقدم بعد موته إلى القضاة الثلاثة الواقفين على الميزان أمام باب الصراط، ليؤدي الحساب عن نفسه والشهادة عن جميع أتباعه الذين سيتحقق فناؤهم على أثر موته.

غير أن الكون ظل بعد (زرادشت) سائراً في طريقه كما كان في حياته وقبل وجوده، ولم يمت الأنصار ولا الخصوم، ولم ينته العالم. فلما رأى رجال الدين الألسنة الحداد بدأت تتجه إليهم من جانب خصومهم، أرادوا أن يتحللوا من هذه الورطة التي أوقعهم فيها نبيهم الساذج، فأضافوا إلى الكتاب المقدس آيات جديدة تحوي تأويلات للآيات القديمة وتصرح بأن جميع الزمن المحدد للكون هو أثنا عشر ألف سنة مضت منها ثلاثة آلاف سنة في خلق العالم الروحاني، وثلاثة آلاف في إنشاء العالم المادي، وثلاثة آلاف فصلت بين وجود بني الإنسان ووجود (زرادشت)؛ وثلاثة آلاف بين عصر (زرادشت) ونهاية الحياة الدنيا. أما التصريح الجازم في الجزء القديم بأن نهاية العالم ستكون عند نهاية حياة (زرادشت) فقد عرفوا كيف يتخلصون منه بلباقة لا بأس بها حيث أعلنوا أن (زرادشت) لم يمت كما رأى الناس في الظاهر، وإنما نزلت بذرته الخصبة في البحيرة المقدسة، وستظل فيها تغدو وتروح حتى قبيل نهاية العالم، فإذا حان هذا الوقت المضروب نزلت إلى هذه البحيرة فت عذراء طاهرة، لتغتسل فيها، وإذ ذاك تتغلغل هذه البذرة إلى بطن العذراء فتحمل لساعتها بمنجى العالم ومن على يديه سيكون انتهاؤه فإذا ولد هذا المنجى وشب، أخذ يدعو إلى دينه وأصطفى له من التلاميذ خمسة عشر رجلاً وخمس عشرة امرأة، ليعاونوه على تأدية رسالته إلى أن ينتهي أجله المحدد بسبع وخمسين سنة فينتهي بانتهائه الكون. وعلى أثر ذلك يبدأ البعث فتمتلئ بقاع الأرض بمياه شديدة الحرارة تسيل كلها من معادن صهرتها النيران القوية فأما الأخيار فيحسون كأنها حمامات من لبن فاتر يجد الجسم فيه لذة وسروراً؛ وأما الأشرار فسيجدونها قاسية مؤلمة، ولعل العذاب بمياه هذه المعادن هو آخر ما يقاسيه أهل الأعراف الذين هم بين الجنة والنار، ثم يدخلون بعد ذلك في زمرة المعفو عنهم

عند ذلك ينهزم إله الشر الهزيمة الأخيرة ويُلقى بالثعبان الذي كان يمثله في وسط هذه المعادن فينصهر فيها ويستقر كل من السعداء والأشقياء في مكانه استقراراً أبدياً بلا تغيير ولا تبديل. ولكن عقيدة التأبيد في الجحيم لم تستمر على حالها، بل لم تلبث أن صارت موضع نقاش بين رجال الدين انتهى بأن قر الرأي على أن للعذاب في الجحٍيم حداً ينتهي عنده فيلحق المعذبون بالأخيار المنعمين، وإذ ذاك يتم السلام النهائي.

الفلسفة العملية أو الأخلاق

ليست الأخلاق من وضع الأهواء البشرية ولا من اختراع المنافع الفردية حتى تتأثر بالأزمنة والأمكنة والظروف المختلفة، وإنما هي قوانين عامة خالدة، ولذلك نرى الفضائل الجوهرية هي هي عند قدماء المصريين، وعند الهنود والفرس والصينيين واليونان والرومان كما هي عند شعوب القرن العشرين في جميع بقاع الأرض إلا من تغيرت طباعهم، وتبدلت فِطَرُهم بسبب من الأسباب التي أجمع علماء الأخلاق والنفس والاجتماع على تأثيرها في السلوك البشري.

لهذا كانت الفضائل عند الفرس كما هي عند غيرهم من الأمم تتألف من صفوف ودرجات، لكل صف منها منزلته الخاصة، فمثلاً الشرف والإحسان والأمانة الزوجية من الجانبين كانت في الصف الأول. ولقد كانت العدالة والعفة والإخلاص والصدق من أجل الفضائل كما كان العمل على تنمية النوع البشري وتقويته من أهم الواجبات الدينية، ولهذا أباحت الشريعة (الزرادشتية) تعدد الزوجات، ليكثر النسل، وحرمت الصوم لتتوفر القوة في جميع أفراد الشعب، وكذلك محاولة زيادة خصوبة الأرض والاستمتاع بما في هذه الحياة من خيرات ولذات مشروعة كانت من أسمى فروض الشريعة حتى أن إهمال بقعة من الأرض بدون نبات أو عدم الاكتراث بالتزين كارتداء رث الملابس أو عدم المبالاة بتنظيم قص الشعر والأظافر، كل ذلك كان من الجرائم الممقوتة، أما الرذائل المستفظعة فهي أضداد هذه الفضائل طبعاً.

هناك فضائل ثانوية أو مستحبات أخلاقية مثل أكل اللحوم وجميع الأطعمة المغذية ومحاولة الإحساس بالسرور، ومثل مهاجمة الأعداء من الأفراد بنظير ما قدموه. أما الدفاع عن النفس أو عن الوطن، فقد كان من الواجبات المقدسة.

هذه هي أهم الفضائل الجوهرية والثانوية ولم يبق عدا ذلك إلا أعمال هي إلى الأساطير الوثنية أقرب منها إلى الفلسفة العملية وذلك مثل حظر قتل القنافذ وكلاب البحر كما أسلفنا.

الديانة المانوية

حياة ماني

لم يعرف التاريخ عن حياة (ماني) أو (مانيس) مؤسس الديانة المانوية أكثر من أنه ولد في (بابل) سنة 215 وقتله أحد ملوك الفرس في سنة 275 بعد المسيح وأنه كان متنسكاً متصوفاً متشائماً لا يؤمن بانتصار الخير على الشر البتة ولا أمل عنده في صلاح هذا الوجود، وأنه تأثر في بعض نواحي مذهبه بالزرادشتية وفي البعض الآخر بالميتهرية القديمة التي عبثت بها العقلية الرومانية فبدلت منها الشيء الكثير، وفي البعض الثالث بالديانة البراهمية الأولى، وفي الرابع بالمسيحية قبل وضع قواعد الكنيسة كما يتبين ذلك كله في آرائه.

مذهبه

يرى (ماني) أن العالم نشأ من عملاق قسم جسمه إلى أجزاء ثم كون الموجودات من بعض هذه الأجزاء. ولا ريب أنك تذكر أسطورة بدء الخلق عند الهنود، وهي التي حدثتنا عن اشتياق الإله (براجاباتي) إلى التكثر وعن تجزيئه نفسه ونشره أجزاءه في الكون ليوحد منها جميع الكائنات.

أما رأيه في المبادئ الأولى فهو يتلخص في أن للكون مبدأين الخير والشر، وهما أزليان أبديان متساويان في كل شيء. ولا شك أنه في هذه النقطة قد تأثر بزرادشت من ناحية وبديانة (الثانوية) المغالية التي نشأت من مذهب زرادشت من ناحية ثانية. وإليك ما يقوله الشهرستاني عن هذا المذهب: (حكي محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسياً عارفاً بمذهب القوم، أن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين، أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكروا وجود شيء لا من أصل قديم وزعم أنهما لم يزالا قوتين، حساسين، سميعين، بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان، وفي الخير متحاذيان تحاذي الشخص والظل). إلى أن يقول: (ثم اختلفت المانوية في المزاج وسببه والخلاص وسببه فقال بعضهم: إن النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق لا بالمقصد والاختيار؛ وقال أكثرهم: إن سبب المزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل فنظرت إلى الروح فرأت النور فبغت الأبدان على ممازجة النور فأجابتها لإسراعها إلى الشر، فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها ملكاً من ملائكته في خمسة أجزاء من أجناسها الخمسة فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية فخالط الدخان نسيم، وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم، والهلاك والآفات من الدخان، وخالط الحريق النار، والنور الظلمة، والسموم الريح، والضباب الماء، فما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور، وما فيه من مضرة وفساد وشر فمن أجناس الظلمة فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكاً من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة، لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة).

الميتافيزيكا المانوية

يرى هذا المذهب أن الإنسان الأول مخلوق للنور أو للشمس الذي هو (أهورا مازدا) وكان هذا الإنسان في أول الأمر نوراً محضاً وأن حكمة خلقه إياه إنما هي الجهاد ضد الظلام، ولكن هذا الخصم العنيف لم يلبث أن أنتصر على الإنسان وكبله بالأصفاد وقاده إلى سجنه الحالك ولكن قوة إله الخير عملت على تخليصه من هذا السجن فنجحت بعض الشيء، لأن إله الشر كان قد تمكن من حبس جسمه النوراني في هذا الغمد الكثيف المكون من المادة المظلمة. وإذاً، فالمادة أو الجسم الإنساني أو (الماكروسكوم) و (الميكروسكوم) كما كانوا يسمونهما هما أصل الشر والسوء في هذه الحياة، لأنهما سجن الروح النورانية ومن هذا نشأت عند (ماني) فكرة وجوب تخليص النفس من الجسم أو إنهاء هذا العالم المادي بإضعاف النوع البشري وإبادة النسل بوساطة حظر الزواج وغير ذلك من وسائل التخريب والتدمير التي عمل على نشرها والتي لم تكن ملائمة لطبيعة الفرس الذين حبب إليهم زرادشت متع الحياة ولذاتها وعرفهم وسائل القوة والإخصاب.

مصير العالم المادي

ليس للمانوية في هذا الشأن شيء جديد لأنها تبعث خطوات الزرادشتية شبراً بشير وذراعاً بذراع إلا فيما يختص بفناء الشر وامتزاج مملكته بمملكة الخير وتحقق السلام العام، فقد أنكرت المانوية ذلك تمام الإنكار، وجزمت بأن المملكتين ستظلان متباعدتين متعاديتين أبدا.

نهاية ماني

لم تكد مبادئ المانوية تنتشر في بلاد فارس حتى تذمر الشعب مما أحتوى عليه من ضعف ويأس وتشاؤم وانزواء وحرمان من لذات الحياة المباحة، ثم أخذت هذه الضجة تعلو وتنتشر حتى بلغت أسماع الملك فأحضره أمامه، وناقشه في مذهبه، فلم يخف عليه شيئاً مما فيه، وصرح أمامه بأن التخلص من الشر أمر مستحيل، وأن استمرار العالم في الحياة معناه استمرار الشر، وأن الوسيلة الوحيدة للقضاء على هذا الشر هي تدمير هذا العالم، فلم يكن من الملك إلى أن قال له: إن الحكيم المخلص لمذهبه يجب أن يبدأ هو قبل غيره بتطبيق هذا المذهب على نفسه، فإن لم يفعل بدأ أنصاره ومريدوه بتطبيقه على أستاذهم، ولما كنا من أنصارك فقد وجب علينا أن نبدأ بتطبيق هذه المبادئ عليك، ثم أشار إلى الجلاد أن أبدأ بتدميره ليؤمن قبل موته بالشروع في تحقيق مذهبه وقد حدث هذا بالفعل كما أشرنا إليه في حياة ماني.

الديانة المزدكية

عاش (مزدك) حوالي نهاية القرن الخامس بعد المسيح، وكان قد تأثر بمذهب ماني من بعض نواحيه، وسار على منواله في كثير من مبادئه الفلسفية والدينية، وإن كان قد خالفه في آرائه الاجتماعية مخالفة شديدة حيث أعلن وجوب اعتناق الشيوعية المغالية، وصرح بأنها هي وحدها الوسيلة إلى إبادة الشر، إذ الحقد الذي يأكل قلوب بني الإنسان، والحرب التي تمزق أشلاء أحد الأخوين بيد الآخر لا مصدر لهما إلا الأموال والنساء، فإذا ألغيت الملكية وأبيد الزواج وأصبح المال والمرأة مباحين لجميع الأفراد بلا قيد ولا شرط طهرت القلوب من الحقد إلى الأبد ووضعت الحرب أوزارها إلى نهاية الوجود، وهو كما يبغي أن تباح الأموال والنساء، يريد كذلك ألا يختص أحد بطقوس دينية دون الآخرين حتى تزول جميع الفروق والاختصاصات التي هي منشأ كل بلاد في هذا الكون.

سقوط الديانات الفارسية

لما فتح (الإسكندر المقدوني) بلاد فارس وأنتشر الإغريق في أنحاء البلاد وأحرقوا الكتب المقدسة والصحف الدينية، تبلبلت العقول والأفكار والعقائد في تلك الأصقاع، وصادفت هذا الاضطراب ظروف أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي اجتماع ذلك الخليط العجيب من الفرس والمصريين واليونان واليهود في مدينة الإسكندرية كما سنشير إلى ذلك عند الحديث عن الأفلاطونية الحديثة.

أجتمع هذان العاملان القويان فحدث من اجتماعهما مزيج ديني غريب غمر الشرق الأدنى من أقصاه إلى أقصاه. ويعلق الأستاذ (سورا) على هذا بقوله: (إن هذا التخمر الديني المتباين العناصر هو الذي قذف بالمسيحية إلى حيز الوجود كما تقذف الأنبذة بالزَّبدِ إلى خارج أوانيها).

هذا في فلسطين ومصر، أما في بلاد بارس كانت سائدة فيها الديانة الفارسية (الزرادشتية) بعد أن عبثت بها أيدي الأهواء والأغراض، وبدلت فيها وزادت عليها مطامع رجال الدين وشهواتهم، وقد ظلت هذه السيادة طول حكم الدولة الساسانية ولم تحْنِ الرأس إلا في القرن السابع بعد المسيح حين هاجمها الإسلام وهو في عنفوان شبابه، فذابت أمام سطوته ذوبان السكر في المياه (على حد تعبير أحد المؤلفين الفرنسيين) وإن كان البعض الآخر من الباحثين يجزم بأن الديانة (الزرادشتية) لم تتلاش تماماً أمام الإسلام، وإنما تركت آثاراً تذكر في بعض نواحيه، إذ ليس بعض الفرق الإسلامية إلا لوناً من ألوان الديانة الفارسية، بل ليس تغني عمر الخيام بالخمر وتقديس بشار بن برد للنار وزندقة أبن المقفع ومروق الجاحظ في بعض آرائه إلا من بقايا الديانات الفارسية.

غير أن الذي لاشك فيه هو أن الإسلام قد أكتسح الديانة (الزرادشتية) اكتساحاً ملموساً ولم يدع لها من معتنقيها إلا نحو عشرة آلاف نسمة في بلاد الفرس ونحو مائة ألف في بلاد الهند وهم الذين أشرنا إليهم في مبدأ حديثنا عن الفرس، وقلنا إنهم لا يزالون يُعرِّضون جثث موتاهم للوحوش.

أما المانوية فقد انتقلت إلى أوربا مع الرومانيين الذين كانوا في بلاد فارس، ثم جعلت تنتشر في جميع أجزاء الإمبراطورية الغربية الرومانية، ولكن في خنوع وإذعان للمسيحية جعلاها إلى الأهازئ أقرب منها إلى المذاهب الجدية كأن تصرح مثلاً بأن خالق الكون هو إله الشر، وأن المسيح إله الخير خصمه العنيف الذي ضرب المثل الأعلى على خيريته بتضحية نفسه للصلب في خير الإنسان.

ما زالت هذه الديانة المانوية تتلاشى في المسيحية على هذا النحو حتى ابتلعتها نهائياً ولم يبق لها في الوقت الحاضر من أثر في أوربا إلا على الآراء الاجتماعية مثل الاشتراكية والشيوعية وما شاكلهما من الآراء المتطرفة التي اعتنقتها المانوية بعد عصرها الأول ثم حملتها معها إلى أوربا فكانت جرثومة كثير من المذاهب الاجتماعية الأوربية في العصور الحديثة.

(يتبع)

محمد غلاب