مجلة الرسالة/العدد 216/هكذا قال زرادشت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 216/هكذا قال زرادشت

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1937



للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

الحادثات الجسام

على مقربة من جزر زارا السعيدة، تقوم في البحر جزيرة فوقها بركان يقذف حممه عليها بلا انقطاع، ويقول الشعب وبخاصة العجائز فيه: إن هذه الجزيرة منتصبة صخرا يسد باب الجحيم، غير أن هنالك منفذاً ضيقاً يخترق البركان وينتهي إلى هذا الباب

في ذلك الزمان، حين كان زارا يسكن جزره السعيدة ألقى مركب مرساته أمام الجزيرة التي يعلوها الجبل المشتعل. ونزل بحارته إلى البر ليقتنصوا بعض الأرانب، وما حان وقت الظهيرة واجتمع القبطان برجاله بعد أن لموا شعثهم حتى رأى هؤلاء الناس رجلاً يخترق الفضاء بغتة إليهم ثم اقترب منهم وصاح بهم بصوت جلي قائلاً: لقد حان الزمن، لقد اقترب كثيراً. . .

ومر بهم الشبح مسرعاً وهو يتجه إلى البركان، فتميزوا به شخص زارا لأنهم كانوا رأوه من قبل جميعهم ما عدا القبطان وأحبوه كما يحب الشعب من يخشى

فقال شيخ البحارة - هذا زارا يسير إلى الجحيم

وفي الزمن الذي نزل فيه البحارة إلى جزيرة اللهب، كان شاع اختفاء زارا بين الناس وقال صحبه لمن سألوا عنه: إنه أبحر على مركب تحت جنح الظلام ولم يعرف أحد الوجهة التي يقصدها

هكذا ساد القلق من اختفاء زارا؛ وبعد ثلاثة أيام زاد هذا القلق بعد أن أخبر البحارة بما رأوا، وشاع بين الشعب أن إبليس قد اختطف زارا، ولكن صحب زارا لم يأبهوا لهذه الإشاعة بل ضحكوا منها وقالوا: إن ما نعتقده هو أن زارا قد اختطف الشيطان

غير أن اختفاء زارا كان يشغل بال صحبه، وما مضت خمسة أيام حتى عاد إليهم، فكان سرورهم عظيما

وهذا ما نقله زارا لهم عن حديثه مع كلب النار. قال: إن للأرض جلداً ولهذا الج أمراضه، وأحد هذه الأمراض الإنسان وهنالك مرض آخر يدعى كلب النار، وقد كان هذا الكلب السبب في تناقل الناس الأكاذيب وتصديقهم لها. وما اجتزت البحار إلا لأكشف هذا السر فرأيت الحقيقة عارية من أخمص قدسيها حتى عنقها، فما تخفي عني الآن حقيقة كلب النار، وحقيقة جميع أبالسة التمرد والأقذار التي لا تتفرد العجائز بالذعر منها

لقد هتفت قائلاً: اخرج من أغوارك أيها الكلب الناري وقل لي كم هي عميقة أغوارك ومن أين تأتي بما تنفثه علينا. إنك تكرع من البحر بشراهة، وذلك ما تنم عليه مرارة الملح في ثرثرتك، والحق أنك وأنت كلب الأغوار لا تستمد غذاءك إلا من الأماكن السطحية، فما أنت إلا كالمتكلم من بطنه لأنني في كل مرة سمعت فيها أقوال أبالسة التمرد والأقذار تبينتهم أشبه بك في دناءتك وأكاذيبك. لقد اتفقت أنت معهم على النباح واتفقتم جميعكم على ذر الرماد ونشر الظلام فأنتم أعظم المتفاخرين وتعرفون كيف تدفعون بالأوحال إلى الفوران وحيث تكونون لا بد أن تحيط بكم الوحول وكل ما هو إسفنجي مضغوط ضيق المسام وما يطلب الانطلاق إلا من اتصف بهذه الصفات. والحرية هي الصرخة التي تفضلونها غير أنني فقدت إيماني بالحادثات الجسام منذ رأيت الصراخ والدخان يتعاليان حولها.

صدقني يا إبليس الثورات الصاخبة الجهنمية، ليست أعظم الحادثات في أكثر ساعاتنا ضجيجاً بل هي في أعمقها صمتاً. وما يدور العالم حول موجدي الشغب الجديد بل هو يدور على محور موجدي النظم الجديدة.

لا بد لك أيها الشيطان من الإقرار بسخافة ما كانت تنقشع عنه قرقعتك وضباب دخانك وهل من جسام الأمور أن تتحول مدينة إلى مومياء وأن يتداعى عامود إلى الأوحال؟ وهذه كلمة أخرى أوجهها إلى هدامي الأعمدة: إن أقصى الجنون هو في إلقاء الملح إلى البحر وفي إسقاط الأعمدة إلى الوحول، لأن هذه الأعمدة كانت مطروحة على أوحال احتقاركم وهاهي ذي تنهض بسيماء الآلهة وقد انطبع عليها الألم الساحر. فهي والحق تدين لكم بالشكر لأنكم أسقطتموها أيها الهادمون

وهأنذا الآن أسدي النصح للملوك والكنائس ولكل من أضعفته الفضيلة أو أهرمه الزمان فأقول: دع القوة تسقطك لتعود إلى الحياة لترجع الفضيلة إليك.

هكذا تكلمت أمام كلب النار، فقاطعني بهريره قائلا: (الكنيسة، وما هي هذه الكنيسة؟) فقلت: إن الكنيسة شئ أشبه بالدولة، بل هي من أكذب أنواع الدول، ولكن صه أيها الكلب، فانك أخبر بنوعك من أي كان. إنما الدولة حيوان خبيث على شاكلتك فهي تحب أن تتكلم فترسل بيانها دخاناً وهريراً لتخدع الناس وتجعلهم يعتقدون بأن أقوالها مستمدة من غور الأمور. فهي تريد أن تكون أعظم حيوان على وجه الأرض والعالم يراها على ما تريد.

وظهرت على وجه الكلب أفظع معاني الحسد فصاح: ماذا تقول وهل يعتقد أحد أن الدولة هي أعظم حيوان على الأرض؟

فقال هذا وخرجت من بين شدقيه إعصار من الدخان وازداد هريره حتى حسبته مقتولاً بغيظه. ولكنه ما لبث حتى استعاد السكون فقلت له: - لقد تملكك الغيظ، يا كلب النار، وذلك دليل على أنني أقول الحق عنك. وهأنذا أستمر في إعلان الحقائق فأحدثك عن كلب آخر من أتباع النار وهذا الكلب يتكلم حقيقة من قلب الأرض، فلهاثه من ذهب، وما يحسب حساباً للرماد والدخان والزبد الحار فإن فيما حوله ترتفع قهقهة تنتشر كأنها سحاب يزهو بعديد ألوانه. وهو عدو هريرك وزبد شدقيك وما في أحشائك من الاختلال. إن هذا الكلب يأخذ الذهب والضحك من قلب الأرض لأن قلب الأرض من ذهب، فاعلم هذا أنت.

وغلب الكلب على أمره عند سماعه هذه الكلمات فأرخى ذيله خجلاً وبدأ يعوي وهو يزحف زحفاً إلى مغارته.

هذا ما سرده زارا لأتباعه ولكن أتباعه ما كانوا يبالون بما يقول وقد اشتد شوقهم إلى إخباره عما حدث للبحارة والرجل الطائر في الهواء.

ولما سمع زارا ما قصوه عليه قال: ماذا عساني أظن بما قلتم؟ أفأكون شبحاً من الأشباح؟ ولعل ما رأوه لم يكن سوى خيالي ولعلكم سمعتم حكاية المسافر وخياله، غير أنه من الواجد علي أن أشدد النكير على خيالي فلا يذهب كما يشاء نائلاً من شهرتي.

وهز زارا رأسه بتعجب متسائلاً عما يقوله في هذا الحادث وهو لا يدري لماذا هتف الخيال قائلاً: لقد اقترب الزمان.

هكذا تكلم زارا. . .

العرّاف (. . . ورأيت الناس يستولي عليهم حزن عميق، وقد وهنت قوى خيارهم فيما يعملون. وانتشر تعليم يؤدي إلى الإيمان في أن كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال. فتجاوبت الأصداء في الهضبات مرددة: كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال.

لقد حصدنا ولكن غلالنا أكمد لونها وتهرأت، فأي شيء تساقط تحت جنح الظلام من وراء كوكبه اللئيم؟

لقد ذهبت جهودنا سدي وفسد خمرنا فاستحال سماً زعافاً فكأن عيناً حاسدة أصابت حقولنا وقلوبنا فأذوتها.

جففنا جميعنا فإذا نزلت بنا حارقة فلا يتطاير منا غير الرماد. لقد تعب منا كل شيء حتى لسان اللهيب.

غاضت الينابيع أمامنا وتراجع البحر عنا وقد زلزلت الأرض تحت أقدامنا ولكنها لم تفغر فاها لتوارينا. فمن لنا ببحر نغرق فيه، إننا نصرخ طالبين البحر فيذهب صوتنا بدداً على سطوح المستنقعات.

والحق أننا بذلنا أقصى جهودنا طلباً للموت ولما نزل جثثاً تحيا وعيونها جاحظة طي اللحود.)

هذا ما قاله أحد العرّافين فذهب قوله نافذاً قلب زارا فبدّله تبديلاً، وأصبح زارا حزيناً متعباً يضرب في الأرض شبيهاً بمن ذكرهم العراف في نبوءته.

وقال زارا لأتباعه: لن يمضي زمن طويل حتى ينسدل هذا الغسق القاتم على وجه الأرض، وأنا أحاذر ألا أجد وسيلة للعبور بنوري إلى ما وراءه فأنقذه من الانطفاء. هل من حافظ له بين هذه الأحزان وأنا قد أعددته ليضيء في العوالم البعيدة ويشع في طيات الظلام السحيق.

وسار زارا شارداً يحمل همه في قلبه، فأمضى ثلاثة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً ولا يعرف الراحة حتى وقف لسانه عن الكلام فاستغرق في نوم عميق. وجلس صحبه حوله يسودهم القلق طوال الليالي متوقعين أن يفيق ليردوه عن أحزانه.

وأفاق أخيراً فخاطبهم بصوت كأنه ترديد صدى بعيد قائلاً: (أصغوا إليّ، أيها الصحاب، لأقص عليكم ما رأيت في حلمي وساعدوني على تعبيره، فإن حلمي قد أغمض عيني ولم يزل معناه كامناً فيه.

(يتبع)

فليكس فارس