مجلة الرسالة/العدد 216/الخروج من النفس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 216/الخروج من النفس

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1937


للأستاذ عباس محمود العقاد

كل ناقد لابد له من قدرة على الخروج من نفسه بعض الأحايين، أو من قدرة على تصور الأشياء كما يتصورها مائة إنسان لا كما يتصورها فرد واحد في جميع الحالات

وما كان (الخيال) ملكة من أنفس الملكات وألزمها للناقد والأديب والشاعر والعالم إلا لأنه يتيح للإنسان أن ينظر إلى نفسه أحياناً كما ينظر إلى غريب، وأنه ينظر إلى الغرباء أحياناً كأنهم نسخ أخرى منه يحس معها وتحس معه، ويحس باللحظة عينها بالفوارق بين تلك الأحاسيس جميعها، فينقد ويؤلف ويقسم ويوزع ويعلم أن الصواب لا ينحصر في سمت واحد ولا حالة واحدة، وأن الأمر لا يكون خطأ لأنه يخالف ما استصوب، ولا يكون دميماً لأنه يخالف ما استحسن، ولا يكون بدعاً غريباً لأنه يخالف ما تعود، ولكنما الحقيقة فصيلة من فصائل الجان، تتشكل كما يتشكلون بمختلف الأشكال والنماذج والألوان

وبعض الأمم يبتلون بضعف الملكة الناقدة لأسباب كثيرة بعضها أصيل وبعضها عارض يزول

فمنها ما يؤتى من جانب الغرور عقب النصر الباهر، وفي أيام الرخاء والوافر؛ ومنها ما يؤتى من جانب الجمود والركود وطول العهد بالحضارة، بين جيران من ذوي الخشونة والجلافة؛ ومنها ما يؤتى من جانب العزلة وقلة المخالطة والهجرة؛ ومنها ما يؤتى من بلادة الحس وضيق العطن وشيوع الجهل والقدامة؛ ومنها ما يؤتى من التعصب الشديد الذي يؤصله في النفس طول الظلم والاضطهاد مع قوة في الشكيمة وقدرة على التحول والتصرف تحول دون الأمة والفناء

وأحسب أن المصريين من أكثر الأمم سخرية بما استغربوه ولم يتعودوه، فلا يكون الخطيب خطيباً ولا الواعظ واعظاً ولا الممثل ممثلاً إلا إذا خاطبهم باللهجة المصرية التي لا تشوبها مسحة من اللهجات العربية الأخرى ولو كانت ريفية من صميم البلاد المصرية

وأذكر أن ممثلاً سورياً كبيراً حضر إلى مصر بعد اغتراب سنوات في أوربا تتلمذ خلالها على أساطين المسرح الحديث وعاد إلى مسرحنا بنمط جديد في بعض الأدوار يبذ به أنداده وسابقيه، فذهبت ومعي اثنان من الأدباء - وأقول من الأدباء لا من عامة السواد - وأصغينا إلى الرجل وهو يترقى في دوره حتى شارف القمة وألهب النفوس بالتشوف واحتداد اللهفة، ونظرت إلى جانبي فما راعني إلا أحد الصاحبين، وقد غلب ضحكاً، وإلا الصاحب الثاني يكاتم الضحك مكاتمة شديدة، وكل ذلك لأن الممثل قد مط الحروف وهو يصرخ ويهيج على نحو يقارب الفرنسية من جهة، والسورية من جهة أخرى، فنسي الأديبان أن الإنسان قد يتألم سورياً وفرنسياً وليس من الضروري أن يتألم مصرياً وقاهرياً وإلا انقلبت الخوالج الآدمية فأصبح الألم مما يضحك والهياج مما يدعو إلى الفكاهة، وحسبا أنني لم أفطن لاختلاف اللهجة كما فطنا. . . فخرجا يتندران بهذه القصة ويزهيان بالفطنة التي رزقاها وحرمتها، والذوق (الدقيق) الذي عداني وما عداهما!

وكان عيد الحرية الثمانية فذهبنا جمعاُ من الإخوان نشهد الحفل الحافل في بعض المسارح المشهورة يومذاك، وكان بين الخطباء ترك وعرب وسوريون. فما أحسب أن رواية هزلية في ذلك المسرح أثارت قط مجانة وضحكاً وسخرية كالتي أثارتها (حماسة) الخطباء والشعراء وذكريات الفجائع والمظالم في أيام الاستبداد. وكان أحد الخطباء مبيناً مفوهاً متدفقاً كأحسن ما يكون الخطيب في لغة من اللغات، إلا أنه ارتضح لهجة غريبة فبطلت محاسنه واحتجبت مزاياه. ولم يكن قصارى الأمر عند أصحابنا أنه يجهل العبارات المصرية والمخارج القاهرية، وإنما كان عندهم جاهلاً بكل شيء يجعل الخطيب خطيباً ويجعل السامعين يستمعون إليه.! فلما قلت لهم: إني أعد الرجل من أقدر من سمعت وأوفاهم بياناً، قام أحدهم يحكيه ويردد عباراته ويمثل إشاراته وحركاته فسقطت الحجة كلها وقطعت جهيزة قول كل خطيب!!. . . وإلا فماذا يبقى من قول القائل الذي يخالف اللهجة القاهرية هذه المخالفة، والذي يستطيع القاهري أن يحكيه ويتماجن عليه؟؟ لا يبقى بالبداهة شيء

ويؤمن العامة إيماناً عجيباً بملازمة الأشياء لصورها وأسمائها وعاداتها التي ألفوها حتى لا يجوز أن تقع التفرقة بينها بنحو من الأنحاء

سألت أحدهم مرة: ما اسمك؟ فأخفى اسمه الصحيح وقال لي إن اسمه (علي) وهو في الحقيقة يسمى إدريس، وكأنه امتحن ذكائي بهذه الأكذوبة وظن أنني لا أفرق بين الكذب والصدق إذ كان الرجل الذي يسمى (إدريس) تلزمه هذه التسمية لزوماً لا فكاك منه ولا يمكن أن يسمى علياً بحال من الأحوال.! فلما دعوته مرة أو مرتين باسم (علي) وصدقت ما قال تدرج إلى غشي ومخادعتي في غير ذلك موقناً أنني سأجهل الحق كما جهلته في استبانة اسمه الصحيح. وأين. . . نعم أين بالله علي من إدريس؟!

هذا مثل هابط جد الهبوط في ملازمة الأشياء لمظاهرها وأسمائها بحيث لا تقبل الاختلاف ولا التصور على مثال آخر، ولكن الذين يهبطون هذا الهبوط كثيرون وإن لم يظهروا هذا الظهور. وما من ناقد ينكر كلاماً لأنه يخالف أسلوباً من الأساليب إلا وهو قريب إلى طبقة ذلك الفدم الذي يستجهل كل من يتخيل أن أسماء تطلق على الناس غير اسم إدريس!

كنا نناقش أستاذاً مدرساً في مسألة اجتماعية فاحتج علينا برأي فيها لبعض الأئمة السابقين، قلنا: وهل هذا الإمام حجة فيما نحن فيه؟

قال: سبحان الله! إننا نقضي العمر نتعلم اللغة العربية ولا نحذقها كما حذقها ذلك الإمام وهو طفل لم يتعلمها على معلم. أفيكون هذا حظه من الفهم ثم يجهل كلاماً نحن ندريه؟

قلت: أو لم يخطر لك أن ذلك الإمام يقضي العمر يتكلم اللغة العامية التي نحذقها نحن ولا يبلغ من حذقها ما بلغناه؟ أو لم يخطر لك أن الطفل المولود بين الفرنسيين أو الإنجليز أو الألمان يسبق ذلك الإمام إلى معرفة الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية؟؟ أتظن أن العربي وحده يحسن اللغة التي يتكلمها؟ وإذا أحسنها أتظن أنه يحسن كل شيء على هذا المنوال بغير كتب وبغير معلمين؟

فلاح عليه وأنا أساجله السؤال أنه لم يكلف بداهته قط أن تتصور للأمور أوضاعاً غير الوضع المعروض عليه. وقد تنساق أمة كاملة إلى خطأ شبيه بخطئه كما انساق العرب إلى تسمية الناس جميعاً (بالأعاجم) لأنهم لا يفهمون ما يقولون

ولست أرى ميزاناً للنقد والذوق أصوب وأحكم من سؤال المرء عن عشرة شعراء أو فلاسفة يقرأ لهم ويعجب بهم ويشهد لهم بالشعر والفلسفة. فكلما اختلف هؤلاء وتباعدت بينهم أوجه الشبه وأسباب الاختيار والترجيح كان ذلك دليلاً على سعة القريحة وقدرتها على الاستحسان لجملة أسباب متفرقات لا لسبب واحد متكرر محدود. وكلما تماثل هؤلاء وتقاربوا كان ذلك دليلاً على ضعف النقد وعجز الملكة الموكلة بالاستحسان والانتقاء

ومن هنا نعتقد أن البارودي خطا بالنقد العربي خطوات كما خطا بالشعر في معناه وأسلوبه.

فانتقل بنا من المدرسة التي كانت تقصر الشعر على الجاهليين والمخضرمين إلى مدرسة تعرف الفضل للعباسيين والمحدثين، وانتقل بنا مع ذلك من جماعة الزي الواحد والنمط الواحد إلى جماعة المكاثرين بالأزياء والأنماط. فقد كان الناقد قبله يستحسن البحتري ثم لا شيء بعده ولا شيء غيره، فجاء البارودي على آثار من سبقوه يجمع بين المعري والبحتري وبين ابن الرومي وابن المعتز في ديوان واحد

ولا تزال في مصر بقية من المحدودين المطويين على أنفسهم يلج بهم الغرور ويشتد بهم الوهم على مقدار ما يضيق بهم المجال وينحسر بهم الذوق والشعور. فهم على يقين ما بعده يقين أن (الذوق) لم يخرج من مصر، وأن الذوق هو ما اصطنعوه من الفكاهة الغثة أو الرقة المحفوظة المدبرة المتشابهة العبارات والتحيات والمصطلحات، أو الجناسات الكلامية والفكرية التي لا تطلع على الذهن بلمعة من نور، ولا تترك فيه فضلة من فهم، ولا تبعث فيه حركة من حياة. وتسألهم: كم عدد الشعراء الفحول في عشرة آلاف سنة بين القوم الذين رزقوا الذوق كله والإحساس كله ولم يتركوا على زعمهم بقية منهما إلا كما يترك السؤر في الإناء المهجور؟؟ وكم واحداً من (أبناء البلد) الذين لا ذوق إلا ذوقهم، ولا إحساس إلا إحساسهم، ولا فكاهة إلا فكاهتهم، ولا فطنة إلا فطنتهم، قد صعد في مراتب الفن والشعر إلى مواطئ أقدام المحرومين المساكين، الذين لا يشعرون ولا يتذوقون، ولا يستمرئون اللطافة ولا يستملحون المعاني والنكات؟؟ وإذا كان ما استقروا عليه هو غاية الحس والذوق، وحمادي الإبداع والإحسان، وقصارى الأناقة والجمال، فما بالهم لم ينجبوا رجلاً واحداً خلاقاً في عالم الشعر أو الكتابة أو التصوير أو الموسيقى، وقد أنجبت الأمم المئات والألوف؟

سيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يفقه أدعياء الذوق بيننا أنهم صفر من الذوق، وأن الله لم يخلق على الأرض طائفة أغلظ منهم حساً، وأثقل منهم روحاً، وأفرغ منهم لباً، وأعضل منهم داء على العلاج

سيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يفقه أدعياء النقد عندنا أن الذوق الذي يستحسن حسناً جميل، وأجمل منه الذوق الذي يستحسن الحسنين، وأجمل منهما الذوق الذي يستحسن الشيئين بينهما تناقض في الحسن كأنهما ضدان وسيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يشيع بيننا أن الآكل قد يشتهي طعاماً لذيذاً ولا يمنع ذلك أن تشتمل الأطعمة على ألف لون لذيذ غيره، وأنه إذا جاز هذا في الآكال التي تعد وتحصر فأخلق أن يجوز فيما ليس له آخر، وهو أطعمة الألباب وأصناف المعاني وألوان الشعور

ونرجو ألا يطول الزمن قبل أن يتعلم الهازلون الماجنون كيف يخرجون من نفوسهم ليعرفوها ويعرفوا سواها، كما يخرج السائح من وطنه ليعرف وطنه، ويخرج القارئ من زمنه ليعرف زمنه، ويبتعد المصور من صورته ليراها حق الرؤية ويبلغ بها جهده من التسوية والتجويد

وتلك نقلة صعبة على من يحتاج إليها. ففي عالم المادة أكثر الناس انطلاقاً إلى الخروج المحبوسون في المكان المغلق المحدود. أما في عالم الفكر والروح فالمحبوسون في المكان المغلق المحدود هم أقل الناس انطلاقاً إلى الخروج وأكثرهم قناعة بما هم فيه.

عباس محمود العقاد