مجلة الرسالة/العدد 215/من تاريخ الأدب المصري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 215/من تاريخ الأدب المصري

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 08 - 1937



أحمد بن يوسف

المعروف بابن الداية

للأستاذ محمد كرد علي

كان والده من جلة كتاب الدولة الطولونية انتقل من بغداد إلى مصر، وكان من أهل المروءات والفضل، ونشأ ابنه أحمد في مصر كاتباً فصيحاً وشاعراً مجيداً، وحاسباً منجماً. وأصل آبائه من أقباط مصر على الغالب، وكان جدهم الأول سميه أحمد بن يوسف الكاتب وزير المأمون. ولأحمد هذا المعروف بابن الداية ثلاثة وعشرون مصنفاً فقدت ولم يبق منها فيما نحسب سوى قطعة من (كتاب المكافأة وحسن العقبى) تدل على علو كعبه في البلاغة وقد أثبت في كتاب المكافأة أخباراً في المكافأة عن الحسن والقبيح مما شاهده في عصره، وذكر قصصاً شهدها أو نقلت إليه عمن أحسن إلى إنسان فكوفئ على إحسانه، وساق في المكافأة على الحسن إحدى وثلاثين قصة، وفي المكافأة على القبيح إحدى وعشرين قصة، قال في آخرها: وإذ قد وفينا ما وعدناك به من أخبار المكافأة على الحسن والقبيح ما رجونا أن يكون ذلك عوناً للاستكثار من مواصلة الخير، وتطلب المعارفة في الحسن، وزجر النفس عن متابعة الشر، وإبعادها عن سورة الانتقام في القبيح وقد قالوا: الخير بالخير والبادئ أخير، والشر بالشر والبادئ أظلم - رأيت أن أصل ذلك حفظك الله بطرف من أخبار من ابتلي فصبر، فكان ثمرة صبره حسن العقبى، وأخبار حسن العقبى تسعة عشر خبراً سقط بعضها فيما يظهر.

قال من أخباره: (حدثنا أحمد بن أبى يعقوب قال: أنكر المهدي على هرثمة بن أعين (من أكبر قواد بني العباس) تحككه بمعن بن زائدة وأمر بنفيه إلى المغرب الأقصى، فكلمه الرشيد فيه واستل سخيمته عليه. ومات معن، وزادت حال هرثمة، وشكر للرشيد ما كان منه. وأفضت الخلافة إلى موسى الهادي فتمكن منه هرثمة. وحدثت الهادي نفسه بخلع الرشيد، وجمع الناس على تقليد ابنه العهد بعده، وعلم بهذا هرثمة، وتذكر عارفة الرشيد فتمارض. وجمع الهادي الناس ودعاهم إلى خلع الرشيد ونصب ابنه مكانه فأجابوه وحلفو له، وأحضر هرثمة فقالوا له: تبايع يا هرثمة؟ فقال: يا أمير المؤمنين يميني مشغولة ببيعتك، ويساري مشغولة ببيعة أخيك فبأي يد أبايع؟ والله يا أمير المؤمنين لا أَكدت في الرقاب من بيعة ابنك أكثر مما أكده أبوك لأخيك في بيعته. ومن حنث في الأولى حنث في الأخرى. ولولا تأول هذه الجماعة بأنها مكرهة وإسرارها فيك خلاف ما أظهرت لأمسكت عن هذا. فقال لجماعة من حضر: شاهت وجوهكم، والله لقد صدقني وكذبتموني، ونصحني وغششتموني. وسلَّم إلى الرشيد ما قدره الهادي فيه)

قصة ثانية: (حدثني هرون بن بلال قال حدثني ياسين بن زُرارة قال: كان ببعض أرياف مصر نصراني من أهلها كثير المال فاشي النعمة سمح النفس، وكانت له دار ضيافة، وجرايات واسعة على ذوي الشعر بالفسطاط. فهرب من المتوكل رجل كنى عن اسمه لخطر منزلته، لميل كان من المنتصر إليه، فلما دخلها رأى فيها كثيراً من أهل بغداد، فخاف أن يعرف فنزع إلى أريافها، فانتهى به المسير إلى ضياع النصراني فرأى منه رجلاً جميل الأسر، وسأله النصراني عن حاله، فذكر أن الاختلال انتهى به إلى ما ظهر عليه. فغير هيئته، وفوض إليه شيئاً من أمره، فأحكم فيما أسند إليه واضطلع به. ولم يزل حاله يتزايد عنده حتى غلب على جميع أمره، وقام به أحسن قيام، فكان محل الرجل الهارب من النصراني يفضل كلما ذهب له.

(وورد على النصراني مستحث بحمل مال وجب عليه. (وسأله) النصراني عن خبر الفسطاط فقال: ورد خبر قتل المتوكل وتقلد المنتصر. ووافى رسول من المنتصر في طلب رجل هرب في أيام المتوكل يعرف بفلان بن فلان ويوعز إلى عمال مصر والشام بأن يتلقوه بالتكرمة والتوسعة فيلحق أمير المؤمنين في حال تشبه محله عنده. فعدل النصراني بالمستحث إلى بعض من أنزله عليه، وخلا الهارب بالنصراني فقال: أحسن الله جزاءك، فقد أوليت غاية الجميل وأحتاج إلى أن تأذن لي في دخول الفسطاط فقال: يا هذا إن كنت استقصرتني فاحتكم في مالي، فأني لا أرد أمرك ولا أزول عن حكمك؛ ولا تنأ عني، فقال له: أنا الرجل المطلوب بالفسطاط وقد خلفت شملاً جمّاً، ونعمة واسعة. إنما عدل بي الخوف على نفسي. فقال له: يا سيدي فالمال في يدك وما عندك من الدواب فأنت اعرف به مني فاحتكم فيه، فأخذ بغالاً وما صلح لمثله، وخرج النصراني معه. وقدم كتاباً إلى عامل المعونة من مستقره، فتلقاه عامل المعونة في بعض طريقه، ووصاه وجميع العمال بالنصراني، وصار إلى الحضرة فأصدر إليهم الكتب في الوصاة به إلى أن قدم بعض العمال المتجرة فتتبع النصراني ورام الزيادة عليه فخرج إلى بغداد.

(قال لي هرون إن ياسين قال له: إن النصراني حدثه أنه دخل إلى بغداد فلم ير بها أدنى محلا، وأكثر قاصداً منه، ثم استأذنت عليه وعنده جمع كثير فخرج أكثر غلمانه حتى استقبلوني فلما رآني قام على رجليه ثم قال: مرحباً يا أستاذي وكافلي والقائم بي حين قعد الناس عني. وأجلسني معه وانكب على ولده وشمله، وأنا أتأمل مواقع الإحسان من الأحرار، وسألني عن حالي في ضياعي فأخبرته خبر العامل، وكان أخوه في مجلسه فنظر إليه من كنا عنده، وقال له: كنت السبب في تقليد أخيك فصار أكبر سبب في مساءتي، فكتب من مجلسه كتاباً إليه بجلية الخبر وأنفذه. وأقمت عنده حولا في أرغد عيشة وأعظم ترفة. وورد على كتب أصحابي فخبروني بانصراف العامل عن جميع ما كان اعترض عليه في أمري. وأخرج أمر السلطان في إسقاط أكثر خراج ضياعي والاقتصار بي على يسير من مالها. قال ياسين فكتب النصراني ببغداد حجة أشهد فيها على نفسي أن أسلمه في جميع الضياع التي في يده (وسماها وحددها) لهذا الرجل الذي كان هرب، وصار بها إليه، فقال له: قد سوغك الله هذه الضياع، فأني أراك أحق بها من سائر الناس، فامتنع الرجل من ذلك وقال له: عليك فيها عادات تحسن ذكرك، وترد الأضغان عنك، ولست أقطعها بقبض هذه الضياع عنك. ورجع النصراني إلى الفسطاط فجدد الشهادة له فيها. فلما توفى النصراني أقرها في يد أقاربه، ولم يزاولوا معه بأفضل حال).

محمد كرد علي