مجلة الرسالة/العدد 212/عرش الشمس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 212/عرش الشمس

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 07 - 1937



يقدمه واحد وأربعون قرنا!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

حينما أرسلت خيالي يرود لي ما يقع عليه (عرش الشمس) الذي يتبوأه اليوم الفاروق، من البحر فوق، إلى البحيرات تحت، عرفت في نفسي كلاماً يُوحِي إلي أن خذ قلمك وسر في موكب التتويج جندياً يحمي أو شاعراً يغني! فأنه موكب يسير فيه واحد وأربعون قرناً هي كل تاريخ الإنسانية الذي وعته ذاكرتها. . وتحتشد فيه الدنيا لرجوع شباب (أمِّها) في مَلِك نظيف المادة مكتمل، واسع الروح قِدّيس الحياة، قد صنعه الله على عينه، وآتاه البسطة في العلم والجسم، واختار له ذلك الاسم الذي يومئ الزمن به إلى تاريخ وقف وتاريخ أقبل، وخالطه بحكماء أذكياء على علم تام بكمالات النفوس وواجبات الملوك، وعبد له طريق الحكم وأزال منه الأشواك ورفعه على عرش لا تخفق فوقه راية أجنبية، وأعده ليكون ملكا بطلا ومربياً شعبياً وقائد جيل!

وهأنذا في الموكب أهتف: -

أشهد أن لا إله إلا الله يا مليكي! فلا أعبدك. . . ولا أنسى بك ملكك وبارئك وإلهك. . . كمن فتنوا بعبادة الملوك في الماضي، ومن لا تزال في قلوبهم بقية من هذه الجاهلية في الحاضر

ولكني أجد في قلبي سطوة الحب لمعناك الذي أخرجه الله على قلوب الناس إخراجاً مفاجئاً في ظرف غريب، كما يُخرِجُ الفجر فتطْرفُ له كل عين، ويتفتح له كل قلب، وتغسل الأرض به من الظلام!

ولمعناك يا مولاي في ذهني صورة تمتد امتداد النهار. . . فتقع على الزنجي في جنوب الوادي، وعلى الإسكندري ومن بينهما فحبك حب هؤلاء جميعاً، لأنك المعنى الندي الذي ينضح الله به قلوبهم الجافة، ويبثه فيها رحمة مهداة.

هي صورة مؤتلفة الأصباغ من ألوان برك الذي واليته على أمتك تقول به لها: أنا لك!

ومن كمالك الذي تستعلن به مصر في كل مكان وطئته قدماك وتقول للناس: أنا هو!

ومن دينك الذي نقول له: يا سلاماً من رحمة الروح لنا. . وظلا ظليلا من سلطان الله في أرضه علينا. . . وهدىً ضاحياً على أعلى منارة!

ومن شبابك الذي يقول به الزمان لمصر: تجددي تجددي يا أم أبي الهول! تجددي في آمال قلبك أيتها العجوز. .!

كلا! ليس مصادفة ومحض اتفاق أن يضع أبوك العظيم اسمك الكريم على ذاتك المفداة. . . وإنما هو الإلهام والإرهاص الذي ترسله المقادير حين تريد أن تحدث انقلاباً تضطرب به أحشاء الزمن، وأن تحجز بين تاريخين بحاجز من قدرها. .!

كلا! ليس مصادفة واتفاقاً أن تخرجك المقادير على مسرحها هذا الإخراج الفني العجيب الذي استجمعت فيه كل براعتها وحسها وبلاغتها في التكميل والتجميل: فأفرغت ذاتك في نصاب الرجولة ووشتها بألوان الروض. . . وقدست روحك بدين السماح وأضاءت عقلك بنور العلم. . . وزينت قلبك بمختار الأخلاق ومصطفاها. . . وإنما يراد بك أن تكون صورة من صور الكمال الإنساني يراها شبان هذا الزمان فيسيرون إلى الكمال الأعلى وفيك لهم أسوة. .!

كلا! ليس صدفة أن يتكون قلبك في عهد ثورة الأمة وزلزلتها حين ذهبت تدق بيدها المضرجة باب الحرية الحمراء، تقرعه على مسمع (أسد) ظافر بما سلب، تياه بما غلب، بطاشٍ بمن يجأر أو يهمس بالكلمة المقدسة: الحرية! حتى ظفرت منه بما زلزلت الأرض له. . . وإنما كان ذلك من الأقدار صبّا لقلبك الملكي في القالب الذي صبت فيه قلوب شباب أمتك ليكون الإحساس الوطني تحت ضغط الثورة، على سواء في الأعلى والأدنى. . . وذلك هو المقياس الصحيح لوحدة الأمة وعرشها. .

فليكن هذا كله في موضع التأمل من عقول الشباب والأمل من صدورهم والعمل من أجسادهم؛ فأنها برسالة تطلب جنوداً ذوي أرواح من شعل، وقلوب من جبل، وأجسام من عمل!

ولتهنأ الأمة بملك يدرك الحرية ويعرفها معرفة الرأي الذي كان يدور في عقله حينما يرى تلاحم الحجج بين حُماتها وغُزاتها. . ويعرفها في قلبه معرفة الدم الذي كان يفور فيه حينما يسمع أن دما من دماء جنوده الشبان سفك على مذبحها. . .

وليهنأ الملك بالعرش الذي يقدمه إليه واحد وأربعون قرناً. . . ويحمله أربعة من أبطال الدنيا: رمسيس وعمرو وصلاح الدين ومحمد علي. . . وتحوم حوله قلوب عشر مليوناً تصلي في ملكوت السموات إلى مالك الملك أن يجعل عينه الراعية على الملك الشاب الإلهي. . وأن يحدث به انقلاباً تحتاجه أوضاع الأرض!

(القاهرة)

عبد المنعم محمد خلاف