مجلة الرسالة/العدد 212/إبراهيم باشا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 212/إبراهيم باشا

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 07 - 1937



موقعة نصيبين

في أواخر هذا الشهر يخرج الأستاذ محمد بدران ناظر مدرسة بنبا قادن الابتدائية ترجمة عربية لكتاب (إبراهيم) تأليف القاضي بيير كربتيس بتصريح خاص من شركة روتلدج الإنجليزية، والكتاب مثال من الدقة والأمانة في الترجمة. وإليك فصلا من فصوله ننشره بمناسبة تتويج الفاروق أعز الله ملكه.

لما علم محمد علي بأن الجيش التركي يستعد للزحف على بلاد الشام

ويحرض أهلها على الثورة أمر وزير حربيته أن يلحق بإبراهيم رغم

معارضة قناصل الدول

وأسرع وزير الحربية إلى مقر القيادة العليا لجيش إبراهيم. وكان الطريق أمامه طويلاً، ولا يستطيع هو السير فيه مسرعاً كما يسير الرسول. ولذلك سبقه مبعوث خاص يحمل إلى إبراهيم أوامر أبيه. ولم نستطع الاطلاع على نص هذه الأوامر، ولكن في مقدورنا أن نتكهن بمعناها لأن إبراهيم قد خول منذ يونيه سنة 1839 الحق المطلق في أن يفعل كل ما يراه صالحاً. فيبدأ الحرب أو يحافظ على السلم حسبما تمليه عليه الظروف

ولما ترك محمد علي لإبراهيم أن يتصرف في الأمر بحكمته وحسن تدبيره، كان يعرف أنه لن يهاجم العدو إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارا، على الرغم من أن تركيا ومصر كانتا في حالة حرب فعلية في البر والبحر منذ شهر مارس من عام 1839، كما أنبأ القنصل الإغريقي العام بالقاهرة حكومته في 26 من ذلك الشهر. ولطالما استفز الأتراك إبراهيم بموقفهم العدائي؛ ولولا قدرته على كبح جماح نفسه لتكشف ستار السلم عن حقيقة الحرب العلنية. وقد كتب في ذلك القنصل اليوناني العام في الإسكندرية إلى وزارة خارجيته بتاريخ 18 يونية يقول:

(تدل الأنباء الواردة من المنطقة التي يعسكر فيها الجيشان في الوقت الحاضر على أن جيوش السلطان تواصل الزحف، وتشجع أهل البلاد على الثورة بتقديم الأسلحة وبذل الوعود لهم. وقد تقدم (سليمان باشا والي مرعش) في جيش مكون من نحو ثمانمائة فارس، حتى بلغ عينتاب واستولى على المدينة، وإن كانت قلعتها لا تزال في أيدي المصريين. ويقال إن حافظاً باشا القائد العام للجيوش التركية كان مع هذه القوة، ولكنه تخلف عنها قبل أن تصل إلى عينتاب. ورأى جنود السلطان سكوت الجيش المصري وامتناعه عن القتال إطلاعه للأوامر الصادرة من الوالي إلى إبراهيم باشا، بعد أن هددته الدول الأوربية وأنذرته ألا يكون البادئ بفتح باب العدوان، فاغتنموا هذه السانحة وتوغلوا في البلاد من غير أن يلاقوا مقاومة، اللهم إلا مناوشة بين الفرسان السالفي الذكر وكتيبة صغيرة من البدو).

وقد أفصح هذا القنصل العام نفسه في رسالة سابقة بعث بها إلى حكومته عن حقيقة تهديد الدول الأوربية. وقبل أن ننقل إلى القارئ شيئاً من هذه الرسالة نقول إن ميخائيل توسزا الذي بعث بهذه المعلومات إلى أثينا، لم يكن من رجال الدبلوماسية الرسميين، ولا من رجال البحرية، بل كان تاجر استوطن الإسكندرية قبل أن تستقل بلاد اليونان، وكسب صداقة محمد علي، واحتفظ بهذه الصداقة. فلما أنشأت بلاد اليونان أول قنصلياتها في القطر المصري في عام 1833، عهدت بأمور القنصلية إليه. ولم يكن يرسل في أول الأمر تقارير منتظمة إلى وزارة خارجيته، كما أنه لم يبدأ الاشتغال بالمسائل السياسية إلا في سنة 1838. ولم يكتسب قط في حياته ذلك الأسلوب الخاص الذي تكتب به المراسيم والوثائق السياسية، بل كانت معانيه على الدوام واضحة كل الوضوح. ويمتاز ما كتبه توسزا بميزة أخرى غاية في الأهمية، وهي ناشئة من الصداقة الوثيقة التي كانت بينه وبين محمد علي. وقد كتب هذا القنصل إلى وزارة خارجيته في 23 يوليه سنة 1838 يقول:

(لقد أبلغ المستر كامبل وكيل إنجلترا السياسي الوالي بصفة رسمية أن بريطانيا العظمى تعارض أشد المعارضة فيما يطلبه من الاستقلال، وتصر على أن يبقى كما هو؛ وإلا فإن الدول الأربع: إنجلترا وفرنسا والروسيا والنمسا ستعمل مجتمعة لمنعه من نيل استقلاله، ولو أدى ذلك إلى استخدام القوة. وهذه الدول متفقة على ذلك، وقد قررت أن تزيد قوة الأسطولين البريطاني والفرنسي في البحر الأبيض المتوسط، وأن ترسل الجنود النمساوية إلى بلاد الشام إذا استلزم الموقف ذلك. ويلوح أن سمو الوالي سيجيب بأنه إذا عجز عن نيل رغباته بالرضا والمسالمة. فستلجئه الضرورة إلى أن يعمل لنيلها بوسائل أخرى؛ ومهما كانت العاقبة فسيكون من أكبر دواعي الشرف له أن تهزمه الدول الأربع الكبرى)

وكتب توسزا رسالة أخرى في 6 سبتمبر سنة 1838 يضم فيها بروسيا إلى جماعة الدول المتفقة. ولهذا الأمر أهميته، لأننا عرفنا من قبل أن هلمث فون ملتكه كان وقتئذ مع الجيش العثماني الذي كان يعمل بكل ما في وسعه ليستثير غيظ إبراهيم. وليس يخفى علينا أن ملتكه كان في ذلك الوقت رجلا لا خطر له، ولا يكاد يعرفه أحد؛ ولكن انضمام النمسا والروسيا وبروسيا كان مقدمة لحلف القياصرة الثلاثة الذي تم فيما بعد، ومضاعفاً للخطر الذي كان يتعرض له جيش إبراهيم. وقد أبلغ قناصل هذه الدول الثلاث محمداً علياً أن دولهم لا تسمح بأن يطرأ على العلاقة القائمة بينه وبين الباب العالي تغيير ما، وأنه إذا أقدم على عمل أيا كان نوعه فستنضم هذه الدول إلى تركيا لقتاله والتغلب عليه؛ فأجابهم الباشا عن ذلك بقوله:

(إنني لا أرغب في الحرب، ولن أقدم على عمل عدائي، ولكنني راغب في الاستقلال، ولن أتخلى عن هذه الغاية)

على أن هذا التحذير كان له أثره في نفس محمد علي؛ ورأى أن خير وسيلة لتجنب هذه الأحاديث البغيضة المنذرة بأسوأ العواقب، أن يرحل إلى الجنوب. وكانت الإشاعات متواترة بأن مناجم من الذهب صالحة للاستغلال قد كشفت في السودان. ورأى الباشا من مصلحته أن يتحقق من هذه الأنباء الهامة بنفسه، حتى إذا ما اضطر إبراهيم إلى الزحف على الأتراك، حلت بهذا الكشف مشكلة من أهم المشاكل. وزيادة على ذلك فإن غيابه يهيئ الظروف للمسألة التركية كلها أن تستقر على قرار ثابت مكين. لكن هذا الغياب المؤقت لم يكن ليفت في عضد الزمرة الدبلوماسية المتحدة التي ظلت تعارض محمداً علياً بعد رجوعه في 15 مارس سنة 1839

ولاشك في أن إبراهيم كان يعرف كل هذه الحقائق ويعرف أيضاً كيف يتعظ بعبرها؛ لأن أباه كان دائم الاتصال به لا يقطع عنه أخباره؛ وكانت معرفته بها وتقديره خطر الموقف الذي كان يواجهه سبباً في أنه لم يحرك ساكناً حينما استثار الأتراك غيظه؛ وذلك لأنه أيقن أن الأتراك يلقون معونة أوربا السياسية؛ وعرف الباب العالي ذلك فوقف من المصريين هذا الموقف المغضب. وكان فون ملكته وفون ملباخ وغيرهما من الضباط البروسيين لا يفتأون يحرضون قواد الترك العسكريين، ويستعينون بما طبع عليه الألمان من اعتداد بالنفس ومغالاة في الاطمئنان إلى مقدرتهم، فيغرون حافظاً باشا بالاستمرار على مناوأة إبراهيم.

وصادف تحريض الضباط البروسيين هوى في نفس القائد التركي العام، فلم يشك قط في الظفر بأعدائه، لأن له جيشاً جراراً، وإدارة للمخابرات دقيقة النظام، وهيئة طيبة من الضباط نواتها مساعدوه الألمان.

وشجعه على الاعتداد بنفسه أن إبراهيم لم يقابل هجومه في 23 إبريل بهجوم مثله. ولما سقطت عينتاب في يده زاد اطمئنانه، ولم يساوره قلق ما حتى جيء إليه بأحد الأسرى الذين وقعوا في يد الأتراك عند استيلائهم على قرية تل باشر. وهذا الأسير هو فرجاني شيخ عرب الهنادي. وكان رجلا سواه الله وعدله ووهبه من الكبرياء بقدر ما وهبه من قوة الجسم. وأخذ القائد العام يسأل أسيره، لعله يعرف منه ما يفيده في موقفه، لكن الرجل كان عنيداً لا يلين فأجابه بقوله: (عن أي شيء تسألني؟ دونك رأسي فليس ينجيه منك لساني، بل ربما أوقعني في الهلاك وكان منطقي سبباً في إراقة دمي). فأجابه حافظ بقوله: (لن أمس شعرة من لحيتك إذا صدقتني القول). فقال له الأسير: (أقسم بالقرآن أني سأبرح هذا المكان حياً سليما من الأذى، أخبرك بما تريد)

فلما أقسم ضحك فرجاني ملء شدقيه وقال!

(أتريد أن أخبرك بالحق وأطلعك على رأيي في معسكرك ومعسكر إبراهيم؟ أتريد أن تعرف ما سيقع في المستقبل؟ ألا هل يستطيع أحد أن يتنبأ بما في عالم الغيب؟ لكنك إذ أصررت على معرفة الحقيقة فأني مبلغك إياها: إن معسكر إبراهيم معسكر جنود، أما معسكركم فمعسكر حجاج).

فقال له القائد التركي غاضباً: (وماذا تقصد بهذا القول؟) فرد عليه بقوله: (رأيت في معسكر إبراهيم أكداساً من الأسلحة وإلى جوارها كتائب من الجند المشاة مدججين بالسلاح؛ ورأيت المدافع وإلى جانبها رجال المدفعية؛ ورأيت الاصطبلات وبقربها الفرسان؛ ورأيت كل إنسان في موضعه متأهباً لأداء واجبه؛ ولم أر شيئاً من ذلك في معسكركم، بل رأيت فيه يهوداً وتجاراً وأئمة؛ رأيت فيه رجالا يقرضون المال، ورجالا يبيعون، وآخرين يصلون، ولذلك قلت: إن معسكركم أشبه شيء بمعسكر الحجاج. وتسألني لمن سيكون النصر؟ فأقول إن هذا ما لا أعرفه، لأن علمه عند الله، وستعلمن نبأه بعد حين)

إن للأتراك أغلاطاً ولكنهم قوم كرام. ومع أن حافظاً قد تألم وكاد يصعق مما قاله العربي الصريح، فقد فك أسره وخلى سبيله، وقبل أن يعود إليه صوابه جاءه رسول ومعه خطاب من إبراهيم؛ ولم يكن هذا الرسول يحمل راية الهدنة لأن الحرب لم تكن أعلنت رسمياً بين الدولتين. وكان تاريخ الخطاب 8 يونيه سنة 1839 وقد جاء فيه:

(إن التعليمات التي أرسلتها الدول العظمى إلى قناصلها المقيمين في الإسكندرية قد أقنعتني بأنهن غير راضيات عن الحرب؛ وإني لأعرف أيضاً أن سمو مولاي المعظم غير راض عنها، ولكن على الرغم من هذا.

(1) فإن سليمان باشا المرعشلي أرسل فصيلة من جنوده هاجمت جيوشنا في بولانق.

(2) وأرسلتم فرقة إلى باياس لتحريض أهلها على الانتقاض علينا

(3) وبعثتم بالحاج عمر أوغلو إلى كرد داغ للغرض نفس.

(4) وغزوتم أرضنا وهاجمتم عرب الهنادي التابعين لنا.

(5) ووزعتم الأسلحة على أهل ولاية عيتناب، ودخل سليمان باشا المرعشلي هذه المدينة ولا يزال باقياً فيها إلى الآن. وبالأمس هاجمت قوة من الفرسان تحت قيادة سعادتكم صفوفنا وأمرتم مدفعيتكم أن تصوب نيرانها على فرساننا الهنادي في مخافرنا الأمامية).

وبعد أن ذكر إبراهيم هذه الأسباب قال:

(ولقد صبرت إلى الآن على هذا كله ولم أقابله بمثله، لأنني كنت أحاول أن أقنع نفسي بأن هذه الأعمال العدائية تغضب السلطان مولانا المعظم. فإذا كنتم سعادتكم تعزون سكوتي عنها إلى الخوف فأنكم مخطئون في ظنكم، إذ ليس لسكوتي إلا سبب واحد هو حرصي على احترام رغبات سمو والدي وسيدي المعظم. وإذا كنتم سعادتكم قد تلقيتم الأمر باستئناف القتال، فما بالكم تنهجون هذا النهج وتدسون الدسائس. هلموا إلى ميدان القتال ولكن هلموا إليه بصراحة، وخوضوا غمرات الحرب كما يجب أن تخاض. وإلا أخالكم قد نسيتم ما حدث منذ بضع سنين، وستلقون رجالاً لا يعرف الخوف طريقة إلى قلوبهم؛ أما الدسائس فأننا لا نطيق احتمالها إلى الأبد. فهل أحظى منكم بجواب صريح؟ فإن فعلتم فسينقل ردكم إلي إذا رغبتم حامل هذا الخطاب الأمير ألاي محمود بك).

(يتبع)

محمد بدران