مجلة الرسالة/العدد 210/إلى الأستاذ أحمد أمين:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 210/إلى الأستاذ أحمد أمين:

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 07 - 1937



الضعف في اللغة العربية

للأستاذ محمد سعيد العريان

تناول الأستاذ الجليل أحمد أمين في العدد 208 من الرسالة موضوع الضعف في اللغة العربية، بعد ما تناوله عديد من الصحف والمجلات في هذه الأيام؛ وما كان لي أن أعني بمناقشة ما قال الكاتبون في هذا الموضوع والإدلاء برأيي فيه لولا اعتدادي بمكانة الأستاذ الكبير وما لآرائه من خطر وقيمة، فأنا لهذا أكتب أليه أستدرك أشياء وأنبه إلى أشياء لعل لها أثراً في توجيه البحث ينتهي إلى الغاية التي يريد ونريد.

وأحب قبل أن أمضي فيما أنا بسبيله أن أؤكد لأستاذي ما لا بد من توكيده: إنني فيما أكتب إليهبعيد عما يسميه النزاع الشخصي أو التعصب الطائفي، فإذا رأى في مقالي ما يجعلني إلى طائفة من القائمين على شئون اللغة العربية فليتبرع لي بحسن الظن، وأن رأى مني انحرافاً عن الصواب فلينسبني إلى الخطأ في الاجتهاد، لا إلى الهوى والتعصب

وبعد فماذا يعني الأستاذ بالضعف في اللغة العربية؟ أتراه يعني إن اللغة العربية في هذه الحقبة من تاريخها الأدبي سائرة إلى الضعف؟ أم هو يعني ضعفها على ألسنة تلاميذ المدارس وطلاب الجامعة وناشئة المتأدبين من كتاب هذا العهد؟

هذا سؤال أحسب الجواب عنه صريحا محدداً في مقال الأستاذ؛ فما من شك في أن اللغة العربية في هذا العهد خير منها منذ ستين عاماً وقبل ستين عاماً، وإن لم تبلغ بعد الهدف الذي ترمي إليه. وأما ضعفها في السنة طلاب المدارس وخريجي الجامعة وناشئة المتأدبين، فأمر لا شك فيه كذلك ولا يحتاج إلى برهان.

وإذا تحدد موضوع البحث على هذا الوجه فأن علينا مناقشة الأسباب التي يرجع إليها هذا الضعف في اللغة العربية. وأرى الأستاذ الجليل يرجعها إلى أمور ثلاثة تتفرع في النهاية إلى ست مسائل: هي طبيعة اللغة نفسها، والمعلم، وبرامج التعليم، والامتحانات، والتفتيش، والمكتبة العربية. وسأقصر حديثي الآن على بعض هذه المسائل دون سائرها؛ إذ هي عندي أجدر بالعناية وأحق بالنظر. وأولى هذه المسائل هو المعلم، وأراني أشارك الأستاذ في قوله: (إن معلم اللغة العربية في المدارس على اختلاف أنواعها عليه أكبر واجب وأخطر تبعة، وبمقدار قوته أو ضعفه تتكون - إلى حد كبير - عقلية الأمة. .) ولكني مع ذلك لا أشاطره الرأي بأن جزءاً كبيراً من ضعف اللغة يرجع إلى المعلمين. فما المعلمون في مدارسنا - وأنا واحد منهم - إلا أدوات عاملة بغير إرادة: ليس لهم حرية في العمل ولا خيرة في الطريقة، ولا فكرة في التنفيذ؛ وإنما يشرع لهم الشارع في وزارة المعارف وعليهم الطاعة العمياء والإرادة الخرساء. قد يكون عيباً في المعلم أن ينزل عن رأيه بهذا الهوان؛ ولكنه يريد أن يعيش، ومن ورائه المفتش، والمفتش الأول، والمراقب، والوزير؛ كل هؤلاء عليه عيون لواحظ، ليس عليهم أن يوجهوه أو يروا له الرأي الصالح بمقدار ما عليهم أن يحصلوا عليه مخالفاته لما أرادت الوزارة من الخطة والمنهج والنظام. .

وأراني قد بينت للأستاذ موقف المعلم ومكانته في المدارس المصرية، مسوقاً إلى أن اعتب عليه أن ينال معلمي اللغة العربية ودار العلوم بما يشبه أن يكون مصدره فكرة قديمة مستقرة في موضعها من فكرة الكاتب الجليل لا تتصل بموضوع البحث من قريب أو بعيد! وإلا فأين هذا الموضوع من دعواه بأنه خريج دار العلوم أصبح لا يحذق الأدب القديم ولا الأدب الحديث، ولا يستطيع تغذية الشعب بالأدب الذي هو بحاجة إليه. . .؟

إننا هنا نتحدث عن ضعف اللغة العربية في المدارس لا ضعفها في الأدب العام الذي يغذي الشعب ويساير النهضة؛ ولو كان هذا هو الموضوع لاستطاع أن يجد البراهين في كل ما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء منذ نيف وستين عاماً، وكلها شاهدة بما لدار العلوم من أثر على اللغة في هذا القطر وفي الأقطار العربية عامة، وما أرى الأستاذ يستدرك فيعترف بأنه من خريجي دار العلوم أفذاذاً نابغين يصح أن يكونوا المثل الذي ينشده إلا مجاملة لطائفة من أصدقائه وزملائه في الجامعة، وما تغير هذه المجاملة شيئاً من وجه الرأي، وما تغير شيئاً من الحقيقة التي يلحظها كل من يقرأ مقالة الأستاذ الكبير، وهي أنه خرج من البحث في كفاية خريجي دار العلوم باعتبارهم معلمين، إلى البحث في كفايتهم باعتبارهم كتاباً وأدباء ومنشئين أثروا تأثيرهم في الأدب العام أو لم يؤثروا، وما هذا مصدر البحث ولا مورده. . .

وما أريد أن أطيل في هذا العتب، فأن هنا (النقطة الشائكة) التي كان هم الأستاذ أن يتحاشاها، وكان همي لولا (الواعية الباطنة) التي أقحمتها في غير موضعها من مقال الأستاذ الجليل.

وأعود إلى ما كنا فيه فأقول إن الأستاذ لم يبلغ إلى الحقيقة في قوله: إن دار العلوم وغيرها لم تستطع أن تخرج المعلمين الأكفاء الذين نتطلبهم وتتطلبهم اللغة العربية للأخذ بيدها والنهوض بها ومحاربة الضعف الناشئ فيها. وكان وجه الرأي أن يقول: إن وزارة المعارف لم تترك للمعلمين حرية العمل وحرية الرأي في المناهج للأخذ بيد اللغة العربية والنهوض بها ومحاربة الضعف الناشئ فيها؛ وذلك بما قيدتهم من قيود لا تدع لهم الخيرة في أن يفكروا في الوسائل ولا في الغايات التي يجب أن يأخذوا بها الناشئة من طلاب اللغة العربية ليبلغوا بهم حيث يريدون.

ولمنهج التعليم أكبر الأثر بعد ذلك فيما آلت إليه حال اللغة العربية في المدارس المصرية، وعلى ألسنة الناشئين من المتأدبين؛ ولا أعني بهذا منهج اللغة العربية وحده؛ فهذا جزء من كل له أثره في الثقافة العامة التي توجه التلميذ وجهته، وتعده لأن يكون ما يكون في غده: رجلاً لأمته يحرص على قوميته وتراث أهله ومقومات وجوده، أو واحدا كبعض من نعرف من شبابنا، لا يعرف له قومية وليس فيه حفاظ على ما خلف الآباء، ويضيع فيما يضيع من تراث الأجيال لغة قومه ودين قومه. والدين واللغة في تاريخ هذه الأمة شيء واحد، يقوم كل منهما من الآخر مقام الأخر مقام الجزء ما يكمله، وهما معاً عماد القومية العربية المسلمة التي نريد أن نطبع عليها ناشئة الغد.

هذا نقد عام لبرامج التعليم في مدارسنا لا أحاول تفصيله، وحسبي في هذا السبيل أن أنبه أستاذي الجليل إلى نظرة الطلبة في صميم نفوسهم إلى أن اللغة العربية مادة ثانوية وإن وضعت في المناهج في أولها - ليس من عمل المعلم بقدر ما هو من تأثير المنهج الذي يفرض فيما يفرض على التلميذ في المدرسة الابتدائية برنامجاً طويلاً عميقاً في اللغة الإنجليزية قبل أن يستقيم لسانه في نطق جملة عربية واحدة. كما أن ضعف الثقافة في الجمهور فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي والأدب العربي والمعلومات العامة التي تتصل بذلك - ليس مسئولاً عنه معلمو اللغة العربية، لأن ذلك ليس داخلاً في برنامج ما يدرسون لتلاميذهم، وليسوا هم القائمين على تدريس التاريخ الإسلامي، ولا شيٍء مما يتصل به من المعلومات العامة في مرحلة من مراحل التعليم؛ وقد كان ذلك إليهم منذ سنين، وكانت حال اللغة يومئذ خيراً منها في هذه الأيام.

وهنالك أمر ذو خطر يتصل بمنهج اللغة العربية ذاتها، ولا مناص من الالتفات إليه؛ ذلك هو ترتيب المنهج وتوزيعه على سني الدراسة المختلفة، ولا أعني هنا الكم والمقدار، إنما أعني الكيف والطريقة.

إن الأستاذ أحمد أمين قد قصر نقده للمناهج على المادة دون الموضوع؛ فراح يتهم قواعد النحو والبلاغة في مادتها وتقسيمها دون نظر إلى مؤداها وغايتها وموضوعها من مراحل التعليم.

إن الآفة والعلة والداء ليست في قواعد البلاغة ومصطلحات النحو وفصول الأدب؛ فما نحن بمسئولين بأن نجعل هذه المقاييس اللغوية تسلية وملهاة يتلهى بها التلميذ في وقت بطالته وفراغه كأنها قصة أو فكاهة، فما هذا موضعها من العلم ولا مكانها؛ ولكن العلة والآفة والداء أننا نعلم التلميذ قواعد اللغة قبل أن يعرف شيئاً من اللغة أو يقرأ منها قدراً صالحاً ليعينه على الفهم والمحاكاة؛ وإننا ندرس له البلاغة قبل أن نقدم له النماذج الكثيرة من الكلام البليغ التي تنبه فيه ملكة النقد قبل أن نعطيه قواعد النقد ومقاييس البيان الرفيع، وأننا نجرعه مصطلحات الأدب وفنونه قبل أن يتذوق الأدب نفسه. هنا العلة فلنلتمس لها الدواء قبل أن نفكر في حلاوته أو مرارته.

إن قواعد النحو، ومصطلحات الأدب، وفنون البلاغة، كفلسفة القصة من القصة: لا ينبغي التفكير فيها والمعاناة في استخراجها قبل الفراغ من القصة نفسها، والحكم على الشيء فرغ من تصوره، كما يقولون؛ فصوروا للطفل آداب لغته قبل أن يعطوه هذه المقاييس الصماء ليزن بها ما ليس في يده.

إن هذه المناهج بعيدة من الطبيعة بعد الغاية التي وصلنا إليها من الغاية التي إليها نقصد؛ وإنما ينبغي حين نريد تعليم اللغة العربية على منهاج صحيح أن نحاكي الطبيعة الخالقة في منهاجها الواضح؛ والطبيعة قد أملت علينا الطريقة التي يجب أن نأخذ بها كل ناشئ يتلقى لغة من اللغات، ففرضت عليه أن يمر في أطوار التعليم بثلاث مراحل: السماع والتلقين، ثم المحاكاة والتقليد، ثم الابتكار والإنشاء. فأن الطفل يولد وله صوت وسمع وليس له بيان، ثم يأخذ بمحاكاة الأصوات التي يسمعها؛ فإذا تكونت له أعضاء النطق أخذ يلقف الكلمات مما يسمع من أهله فيرددها كما سمعها بلهجتها ونبرها، ثم يتدرج من ذلك إلى التعبير عن حاجته باللسان الذي يتحدث به من حوله؛ على أن قاموسه في ذلك لا يعدو كلمات قليلة على مقدار وعيه وحفظه وقدرته على التقليد؛ وكلما تقدمت به السن واتسعت الدائرة التي يضطرب فيها ويستمع إليها ويلقف منها زاد محصوله اللغوي؛ ثم لا يلبث أن يلم بكل معنى وبكل لفظ وبكل عبارة، فيتحدث كما يتحدث الناس، لا يعجزه ان يفهمهم ولا يعجزون، وحينئذ يتم تمامه اللغوي في اللغة التي يتحدث بها أهله.

هذه هي الطبيعة الملهمة وطريقتها في إعداد الطفل إلى تلقي اللغة والفهم عنها والإبانة بها. فأين طرائقنا من هذه الطريقة التي فرضتها الطبيعة على كل إنسان ناطق. . .؟

وعلى هذا المنهج الطبيعي نفسه تخرج الخالدون من أدباء هذه الأمة، فبلغوا ما بلغوا وخلفوا لنا هذا التراث الباقي على الزمن من الشعر والأدب. وطريقة الأخذ عن الرواة هي طريقة الطبيعة نفسها، وهي هي كانت كل ما يؤهل الأديب أو الشاعر إلى التبريز في الأدب والإجادة فيه. وما كان الأصمعي وأبو عبيدة والقالي وغيرهم ليعلموا تلاميذهم أول ما يعلمونهم - المحادثة والإنشاء والقواعد والتطبيق، إنما كانت دروسهم في حلقات الدرس والرواية هي هذه الأمالي الباقية من جيد الشعر والخطب والأمثال والقصص، أما النحو والصرف وقواعد البلاغة فكانت شيئاً من وراء ذلك لا ينظر إليه إلا عند الحاجة، وهي اليوم عندنا أول الطريق وأخره.

وأمامنا الأمثال في كل جيل وفي كل عصر من عصور العربية ترشدنا إلى الطريق التي يجب أن نسلكها في تعليم العربية، ولكننا نغمض عنها أعيننا ونضرب في البيداء، ومع ذلك ما ننفك نسأل أنفسنا:

(أين ومتى نبلغ الغاية؟)

وهل بلغ البارودي وحافظ وإضرابهما ذلك المبلغ من الشعر والأدب بالقواعد والتطبيق ومعالجة الإنشاء، أو بالاطلاع والرواية والحفظ من مأثور النظم والنثر؟

ينبغي أن نعلم العربية على الطريقة التي يتعلم بها الطفل أن يتكلم؛ فلتكن دروس العربية الأولى أن نتحدث إلى التلميذ ثم نسأله أن يتحدث، وأن نحمله على المطالعة ثم نطلب إليه أن يكتب، وأن نقدم له الغذاء من متن هذه اللغة ومن أساليبها في أقاصيص صغيرة مسلية نقصها عليه بلسان عربي سلس الأداء واضح النبرات مفهوم المعنى، ثم نطلب إليه أن يعيد ما سمع بلغة كالتي تحدثنا بها إليه ولا تخرج عن قاموسه الذي نعرفه كلمة كلمة لأننا نحن الذين أمليناه عليه كلمة كلمة في هذه الأحاديث والقصص التي روينا له، ولا نفتأ كل يوم نزيد في معجمه اللغوي كلمات وأساليب فيما نتحدث به إليه؛ فإذا بلغنا به مبلغاً ما بهذه الوسيلة فلنفكر حينئذ في تلقينه قواعد اللغة وموازين الكلام الصحيح لا على أنها قواعد جديدة يجب أن يدرسها، ولكنها على أنها جزء غير مسموع من الكلام الذي سمع، ونطق غير ملفوظ من الكلام الذي تحدث به. وهنا نقطة يجب أن لا تغيب عن أحد من المشتغلين بالتعليم، هي أن هذا ليس واجب معلم اللغة العربية وحده، ولكنه واجب عام ينتظم المعلمين جميعا؛ وإلا كان عبثاً ما يحاوله معلم العربية، فما يعالج هو تقويمه من ألسنة التلاميذ بالقدوة والمثال تفسده الرطانة الأعجمية في لسان باقي المعلمين.

هذا هو الأمثل بأن يؤدينا إلى الهدف الذي نريده لو أخلص العاملون، فليجربه من شاء ثم يحدثني عن النتيجة؛ فأنا نفسي قد حاولت هذه الطريقة في بعض الفرق (على غفلة من المفتش وغفلة من المنهج. . .) فما ادعوا إليها إلا مقتنعا بها مؤمناً بنتيجتها.

والآن وقد وصلت إلى هذه النقطة من الموضوع، أراني مع الأستاذ أحمد أمين في الحديث عن المكتبة العربية؛ فلو أنني زعمت له ولنفسي إن عندنا المعلم الكفء الموهوب الذي لا يمل الحديث مع تلاميذه بلسان عربي مبين جذاب ليزودهم بالغذاء المريء والنموذج الصالح من متن اللغة وأساليبها، لما وسعني الزعم بأن عندنا الكتاب الذي يصلح أن يكون لهذا التلميذ أستاذاً في غيبة أستاذه؛ يعطيه ما يعطيه المعلم من متن اللغة وأساليبها في عرض جذاب يحبب إليه مطالعته والتزود منه ثم يحمله من بعد أن يحرص على المطالعة لتكميل ثقافته ويجعل لها وقتاً من وقته طوال حياته في زمن التخرج وبعد التخرج.

ولو أنني زعمت أن عندنا هذا الكتاب لكذبتني وزارة المعارف التي لا تعطي تلاميذ مدرستها الابتدائية إلا كتابا واحدا للمطالعة العربية ألفه مؤلفه في القرن الماضي. . . وما يزال حيث كان! على حين تعطي هذا التلميذ نفسه بضعة كتب للمطالعة الإنجليزية قد تبلغ ستة كتب أو سبعة في السنة الدراسية، ثمن الكتاب منها يبلغ ضعف كتاب المطالعة العربية، وهي دقة بالغة في تنفيذ سياسة الاقتصاد. . .! على أن هنا حقيقة لا ينكرها أحد ولا يغفل عنها أحد، هي أن المطالعة عند كل المشغولين بالمطالعة - عادة لازمة أكثر مما هي وسيلة من وسائل العلم، فإذا لم يعود الطفل على أن يقرأ منذ حداثته فهيهات أن يمكن حمله على المطالعة المثمرة من بعد؛ وهنا سر انصراف شبابنا عن المطالعة والأدب إلى ذلك اللغو وتلك الدعاوى الفارغة التي تملأ أفواههم عن الأدب والتجديد.

ومن ثم يجب أن نبحث أول ما نبحث في نقص المكتبة العربية للأطفال، ثم من يليهم، ثم من يليهم، إلى أن نبلغ الطبقة التي نجد فيها من يقرأ أمثال الأغاني والأمالي وعيون الأخبار والطبري وغيرها من تراثنا الأدبي الذي لا نجد من يقبل عليه إلا القليل من قراء العربية.

وأنني أؤكد للأستاذ أحمد أمين أن المكتبة العربية لم تضعف هذا الضعف لعجز في المعلمين أو نقصٍ في كفاية القائمين على شئون اللغة العربية، ولكن وسائل التخذيل وقلة المكافأة. . . وقد عالجت طائفة غير قليلة من أدباء العربية هذا النقص في مكتبة الأطفال، وكان خليقاً أن يبلغوا بها مبلغاً تطمئن إليه، لولا قلة المكافأة وسوء التقدير، وأنا نفسي ما زال أعاني أزمة عنيفة بيني وبين نفسي من جراء محاولة من هذه المحاولات لا صلاح مكتبة الطفل، صرفتني عن العمل لغيرها وقطعتني عن الجو الأدبي الذي كنت أعيش فيه والذي كنت أهيئ نفسي لمنزلة في الغد هي أجدى علي وأنفع، وجعلتني غرضاً لسهام اللوم من أصدقائي الذين كانوا يحسنون الظن باستعدادي الأدبي، والأستاذ الزيات صاحب الرسالة أول هؤلاء اللائمين، مع إعجابه بما أقدم للطفل العربي من أدب سائغ. وهاأنذا ما أزال في المحاولة، ومازلت أطمع في أن أبلغ بالقصص المدرسية - أصدرها مع زميلين من زملائي - مبلغاً أقتنع فيه بأني قد أسديت يداً إلى المكتبة العربية واحسبني قد سمعت مرة من الأستاذ أحمد أمين ثناءً على عملنا كان خليقاً بأن يحملني على الثبات ومضاعفة الجهد في هذه المحاولة؛ ولكن عملاً كهذا يا سيدي لا يجزئ فيه أن أسمع كلمات الثناء وعبارات التشجيع وأنا أبذل فيه من أعصابي ومن مالي وعمري ولا مكافأة ولا تعويض. أفيحسب أستاذنا الجليل أن سعيد العريان ومعه مائة مثله من معلمي اللغة العربية في مدارس الحكومة يستطيعون أن يسدوا هذا النقص في المكتبة العربية ووزارة المعارف لا تحاول أن تشعرهم من قريب أو بعيد بأن لهم عليها حقاً أكثر من: أحسنت وأجدت ولله أنت. . .!

أم تحسب أحداً يقدم على أن يبذل لمثل هذا العلم جنيها لعله أحوج إليه في بيته، وهو يعلم أن وزارة المعارف لا تكافئ الكتاب والمؤلفين إلا أن يكونوا مفتشين أو أشباه مفتشين؛ حتى لو أن معلماً صغيراً (مثلي. . .!) أنشأ عملاً خليقاً بأن من ينتفع به، أسرع إلى محاكاته واحد من هؤلاء فيكافأ على التقليد ويضيع العمل الجيد على منشئه بلا مكافأة ولا تعويض. . .؟ يا سيدي! والله ما كان في بالي أن أشكو، ولا أردت أن يكون الحديث عن نفسي، وليس من طبعي أن أقول: ليتني وليت الناس! ولا كان همي أن التمس المعاذير للمقصر والمجيد؛ ولكنك رغبت إلى كل ذي رأى أن يدلي برأيه، فهذا ما دفعني إلى ذاك، وأرجو ألا أكون على حيد الطريق فيما كتبت، أو أن أزيل حسن الظن من نفسك، ولعل لي عودة قريبة إلى الموضوع والسلام عليك.

(طنطا)

محمد سعيد العريان