مجلة الرسالة/العدد 21/بقية من لغو الصيف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 21/بقية من لغو الصيف

مجلة الرسالة - العدد 21
بقية من لغو الصيف
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1933



للدكتور طه حسين

ليتك لم تأمري وليتني لم أطع. فمن صواب الناس ما يكون خطأ،

ومن خطأ الناس ما يكون صوابا. والمرء بخير ما عرف لنفسه قدرها

ولم يعد بها حقها، ولم يكلفها الحياة في النجوم، وقد خلقت لتحيا في

الأرض. ولقد حاولت في غير طائل أن أعرف ماذا كنت تنكرين من

صحبتنا في بلاد الغربة. فقد كنا نلتقي ونفترق لا يكون بيننا إلا حديث

نقي بريء فيه ذكر للأدب والأدباء، فما زلت تحبين ذلك وتظهرين

كرهه، وما زلت تسرين الرغبة فيه، وتعلنين الضيق به حتى ملأت

صدري ضيقا بنفسي، وحرجا بمكاني منك، وخيلت إلي أني أثقل

عليك، وأكلفك من صحبتي مالا تطيقين، حتى إذا كان ذلك اليوم وليته

لم يكن تقدمت إلي في الرحيل فامتنعت عليك وأسرفت في الامتناع،

والحت أنت وأغرقت في الإلحاح، ولم أجد بدا من الطاعة وان كنت

لها لكارها، ولم تجدي بدا من المضي في الأمر، وان كانت نفسك

لتحدثك في العدول عنه. ولم أكد استقر في باريس، ولم تكادي تستقرين

في مدينتك الجامعية الصغيرة حتى اتصلت بينك وبين هذه الكتب

والرسائل التي لا أستطيع أن أصفها بأقل من أنها برهان قوي ساطع.

على أننا نخدع أنفسنا عن أنفسنا. ونتكلف في أرضاء الناس

وأوضاعهم ما لا يحفل به الناس، ولا يلتفتون إليه، وما لا نحتمله

نحن إلا في جهد جاهد وعسر لا حد له.

والآن وقد أضعنا من حياتنا أياما طوالا كنت تترددين فيها على حجرات الدرس الجامعة، وكنت أتردد فيها على الأندية وملاعب التمثيل أكتب إليك وقد أنىّ لي أن أعود إلى القاهرة. لعلك تإذنين في أن نلتقي مرة قبل أن أعبر البحر. ولست أدري أيقع هذا الكتاب منك موقع الرضى أو موقع السخط؟ ولكني أعلم أن الأيام معدودة علينا في هذه الحياة وان من الحمق أن يستطيع الأصدقاء التلاقي ثم لا يلتقون، ينتظرون أن يتاح لهم ذلك في يوم آخر قريب أو بعيد. فمن يدري لعل هذا اليوم ألا يجيء. ولعل الأحداث والخطوب أن تحول بين الأصدقاء وبين ما كانوا يقدرون من اللقاء فيه. ولو عقل الناس لما تفرقوا إلا حين لا يكون من الفراق بد، ولكن الغرور يغرهم بأنفسهم ويطمعهم في الأيام، فيخيل إليهم أنهم مخلدون وأنهم ليمرون بالحياة كما يمر الطيف بالنائم المغرق في النوم وقد تعجبين حين تعلمين إني لا أكتب إليك من باريس، وإنما أكتب إليك وقد دنوت منك حتى لم يبق بينك وبيني إلا مسير دقائق على الأقدام. فقد وصلت إلى مدينتك الجامعية مع المساء وأنا أكتب إليك وستقرئين كتابي مع الصباح فان أردت لقائي فهذا رقم التلفون، وإن أبيت فان القطار يبرح مدينتك إلى مرسيليا مع الظهر، ولن أراك حتى أعلم بأن رؤيتي لا تؤذيك ولا تثقل عليك، ولا تخيل إليك أنك تخرجين على ما ألف الناس من أوضاع وأطوار.

عجبت للأذكياء وكبار العقول انهم ليأخذون أنفسهم أحيانا بما لا يلائم الذكاء ولا تسيغه العقول.

وكانت تختلف على وجهها الناصع وهي تقرأ هذا الكتاب مظاهر الوفاق والخلاف وآيات الرضى والسخط. فكان وجهها يشرق حينا، وتغشيه ظلمة رقيقة حينا آخر. حتى إذا فرغت من قراءة الكتاب وضعته في رفق أمامها على المائدة ومدت بصرها كأنما تريد أن تبلغ به أقصى الآفاق. لولا هذه الجدران التي تقوم غير بعيد وتقف عينها عند حد محدود وأرسلت نفسها الحرة إلى أبعد مما استطاعت أن ترسل إليه بصرها السجين، وظلت على هذه الحال وقتا لم تعرف أطال أم قصر ثم عادت إلى نفسها وثابت إلى غرفتها من الفندق، وأخذت كتابها برفق، وأعادت النظر فيه، وظلت كذلك تنظر في الكتاب ثم تدعه، ثم تعود إليه. حتى أدارت رأسها عن غير عمد فرأت التلفون، فقامت من غير عمد، وسعت إلى التلفون، ثم تحدثت فيه عن غير عمد، وعادت إلى مكانها، فأخذت الكتاب ونظرت فيه، ثم نظرت فيه، ثم طوته ثم أخفته، ثم ظهر عليها تردد شديد، كأنها تنبهت لأنها أتت أمرا عظيما وكأنها تراجع نفسها في استدراك ما فات، وإلغاء ما قدمت من الأمر، وكأنها تفكر في أن تتحدث إلى التلفون بغير ما تحدثت به إليه منذ حين.

ولكنها لم تبلغ من ذلك ما تريد لأن طرقا خفيفاً على الباب قد ردها عنه، واضطرها إلى أن تصلح من شأنها على عجل وترفع صوتها إذنة بالدخول. ولم يكد ينفرج الباب عن صاحبها الأديب حتى أقبلت عليه باسمة تحييه وتقول في جرأة متكلفة، واستحياء ظاهر، إن كنت أقبلت للوم والعتاب فعد أدراجك وارجع من حيث أتيت، وخذ قطار الظهر. فان في كتابك من اللوم والعتب والفلسفة والتشاؤم ما يغني عن إضاعة الوقت. قال فان ما أضيعه من الوقت في اللوم والعتب لن يكون شيئا بالقياس إلى هذه الأسابيع الطوال التي أضعتها أنت حين أبيت إلا أن تقيمي هنا، واذهب أنا إلى باريس. قالت فذلك شيء قد كان، وقد مضى بأثقاله وأوزاره وليس إلى استدراكه من سبيل فلست أرى خيرا في ذكره، ولا نفعا لإعادة الحديث فيه، قال أما أنا فأرى في ذلك الخير كل الخير والنفع كل النفع، لأنك لم تستفيدي بما مضى ولن تنتفعي بذلك الفراق الطويل الأليم، قالت وما يدريك؟ قال أرأيتك لو أنبأتك بأني سأقيم معك في هذه المدينة وسأختلف معك إلى دروس الجامعة حتى ينقضي الصيف ونعود معا إلى القاهرة، ماذا تصنعين؟ قالت أو قادر أنت على ذلك وقد انتهت إجازتك، ولم يبق لك بد من القفول. قال فان الإجازات تمد وان الحيل أوسع من أن تضيق وإن رسالة برقية قد ذهبت إلى القاهرة خليقة أن تمنحني من الوقت ما يتيح لي أن اختلف إلى حجرات العلم بعد أن اختلفت إلى معاهد اللهو والفراغ. قالت كالواجمة أو فعلت هذا؟ قال نعم قالت فعد إلى باريس أو أذهب أنا إليها. قال محزونا لابأس عليك فلن نلتقي في هذه المدينة الا بياض هذا اليوم، ولكن كيف تريدين أن تقضيه؟ وأين تريدين أن تقضيه؟ فما أظن أن غرفتك هذه الضيقة تسع أحاديثنا وخواطرنا التي لاحد لها والتي ينبغي أن تكون حرة كالطبيعة الحرة. ومطلقة كالهواء الطلق. وإني لأعرف من هذه الأرض أكثر مما تعرفين. قالت فإني لا أعرف منها إلا الجامعة والفندق والطريق بينهما. قال أما أنا فلا أعرف الجامعة وإنما أعرف الجبل والسهل وأعرف الربى والوديان، وأعرف الغابات الملتفة والرياضة النضرة، والغدران الجارية، ذات الصفحات النقية، والصوت الجميل، وأعرف بنوع خاص ربوة بديعة يجرى من تحتها جدول بديع لا تقع القدم فيها إلا على عشب. ولا ترى العين فيها إلا جمال الشجر والزهر، ولا تسمع الإذن فيها الا هفيف النسيم وحفيف الورق وغناء الطير، وقد دارت حولها طائفة من الشجر الباسق الذي ارتفع في الجو كأنه يريد أن يبلغ السماء، والذي مد أغصانه في كل وجه حتى التفت واشتبك بعضها ببعض، وهيأت فوق هذه الربوة الجميلة الهادئة غرفات جميلة هادئة تصلح لتفكير المفكرين، وحديث المتحدثين، والرأي عندي أن نقصد إلى هذه الربوة فننفق فيها بياض هذا اليوم فإني مشوق إلى أن أراها بعد أن فارقتها منذ أعواما وأن أراك فيها بعد أن فارقتك منذ أيام تعدل أعواما وأعواما. قالت لا أرى بهذا بأسا ولكن على أن يسبق منك الوعد باثنتين أما أولهما فان تكف عن اللوم والعتب وما يشبه اللوم والعتب من هذا التجني الذي تحسنه أكثر مما تحسن أي شيء آخر، قال زعموا أن قيمة كل امرئ ما يحسن، فإذا كنت ترين أني ممتاز في التجني لا أكاد أحسن شيئا غيره وتطلبين إلي مع ذلك إلا اقصد إليه ولا أخوض فيه فأنت إذاً تريدين أن تضعيني موضع الذي يقول فيما لا يحسن، ويخوض فيما لا علم له به. قالت ذهابنا إلى هذه الربوة الجميلة الهادئة رهين بهذا الوعد. فلك أن تختار بين الجد الخالص الذي لا عبث فيه ولا دعابة، ولا لوم فيه ولا عتب، ومعه ربوتك الجميلة الهادئة وغرفتك البديعة التي تصلح للتفكير والحديث، وبينما تحب من العبث والخلط تذهب فيهما كل مذهب، وتندفع فيهما إلى غير الطريق، قال أوحرنا في الاختيار، فإني إذن أختار الثانية وأوثر أن نطوف بالعبث والخلط في شوارع هذه المدينة الصغيرة الهادئة، لا يضيق بنا مكان إلا تركناه إلى مكان آخر، ولا نستنفد فنا من فنون السخف إلا عدلنا عنه إلى فن آخر. فإني أصبحت أرى السخف أقوم ما في الحياة. قالت لقد أفسدتك باريس قال بل أفسدتيني أنت حين أكرهتيني على الذهاب إلى باريس، قالت فإني لا أدع لك حرية الاختيار وإنما أفرض عليك الربوة الجميلة الهادئة وحديثها البريء من العبث والتجني فرضا، قال لقد أطعتك حين نفيتني إلى باريس فأحرى أن أطيعك حين تذهبين بي إلى هذه الجنة الخضراء، وأكبر الظن أن طبيعة هذه الربوة الجميلة الهادئة ستكون أقوى منك ومني وستوجه عقلينا وقلبينا إلى حيث تريد هي لا إلى حيث تريدين، ولا إلى حيث أريد. قالت مادمت واثقا بالطبيعة إلى هذا الحد، مؤمنا لها إلى هذا الحد، فلنذهب إلى ربوتك ولنحكم جمالها وهدوءها فيما ستفيض به قلوبنا من شعور، وفيما ستضطرب به عقولنا من تفكير، وفيما ستجري به ألسنتنا من حديث. وأنتصف النهار وإذا هما في هذا المكان الجميل الذي خلت فيه الطبيعة إلى نفسها فاتخذت زينتها حرة طليقة لا متكلفة ولا خاضعة لعبث الناس. وإذا هما ينظران ويسمعان ويتنسمان هذا النسيم الهادئ القوي وقد أزيلت الحجب بين نفسيهما وبين ما في هذه الربوة من جمال هادئ قوي خصب مختلف الألوان. ولو قد خلي بينهما وبين ما كان يغرقان فيه من هذا الصمت الحلو الذي كان يمزجهما بهذه الطبيعة الحلوة لظلا صامتين هادئين حتى تزعجهما ظلمة الليل، فتخرجهما عما كانا فيه من صمت وهدوء، ولكن الطبيعة نفسها أبت عليهما ما كانا فيه كأنها أحبت أن تسمعهما وكأنها أحبت أن تمتزج أصواتهما بأصواتها. فما هي إلا أن يحسا نبأه تخرجهما من نعيم الصمت والذهول إلى شقاء الحديث والتفكير. أحسا نبأه فريعا لها، وهما أن يتعرفا مصدرها فلم يصلا مما أرادا إلى شيء ولكنهما تساءلا، وسمع كل منهما صوت صاحبه فأغري به واشتدت رغبته فيه، وعادا إلى ما كانا فيه من حوار، قبل أن يبلغا هذا المكان الجميل.

قال، وإذاً فأنت تجدين من المشقة في قراءة القصص التمثيلي ما يرغبك عن هذه القراءة، وينفرك منها، ويحبب إليك قراءة هذا القصص اليسير الذي لا أخذ فيه ولا رد ولا جدال فيه ولا حوار. قالت نعم وان كرهت ذلك ورأيته آية من آيات الضعف ومظهرا من مظاهر القصور. قال وكيف يكون ضعفا ما تحبين، وكيف يكون قصورا ما تكلفين به من الأمر؟ قالت تنبه فإني أراك مقدما على إخلاف الوعد الذي سبق. قال فإني لم أعد بشيء على أني لا أدرى أين يكون هذا الإخلاف. لست عابثا، ولا متجنيا، إنما أقول ما أعتقد، وأصور ما أرى. وإني لأشعر بالنفور من قراءة التمثيل، وبالرغبة في الاكتفاء بهذا القصص اليسير. قالت فانك تكبر التمثيل إكبارا أراك تسرف فيه، فلست أجحد قدره ولا مكانه بين مظاهر التعبير الأدبي، ولكن التمثيل خلق للملاعب لا للمكاتب. وخلق لينفذ إلى النفس من طريق الإذن والعين، لا من طريق العين وحدها. وخلق لينفذ إلى النفس ممتزجا بأصوات المتحاورين وحركات اللاعبين، لا لينفذ إليها كلاما غير منطوق، وعملا لا يأتي به أحد من الناس. قال حجة قوية هذه لا أريد ولا أستطيع أن انقضها وليس من شك في أني أوثر أن أرى التمثيل في الملاعب على أن أخلو إليه في مكتبي، وأوثر أن أرى أشخاص القصة يذهبون ويجيئون، وأسمعهم يجادلون ويحاورون، ولكن ماذا أصنع إذا حيل بيني وبين الاختلاف إلى الملاعب، لأن ظروف الحياة لا تريد ذلك أو لأني أعيش في بلد لا يزهر فيه التمثيل، ولا يكاد يزوره إلا لماما أو لأن آيات من القصص التمثيلي قد قطعت الطريق بينها وبين الملاعب. أأجهل هذا الفن من فنون الأدب جهلا، وأهمله اهمالا، وأنسى أنه موجود وان فيه للنفوس الراقية متاعا، وللعقول الراقية غذاء، وللقلوب الراقية لذة. قالت وقد أخذها شيء من الدهش كأنما رفع عنها حجاب فرأت نورا باهرا لم تكن تنتظر أن تراه. ماذا تقول! وأين ذهب بي الجدال! وإلى أي حد انتهى بي حب الخصومة. قال إلى حيث تأتين ما لم يستطع الدهر أن يأتي وتصدرين أحكاماً عجز النسيان وعجزت الأيام وعجزت المحن والخطوب، وعجز الجهل والجمود عن أن تصدرها، إلى حيث تمحين من سجل التاريخ الأدبي أعلام الأدب القديم والحديث، إلى حيث تعتبرين ايشيل، وسوفوكل، واوربيد، وارستوفان، وشكسبير.

قالت في شيء من الجزع لا تقل هذا، وكيف السبيل إلى قبر هؤلاء الأعلام ومحو هذه الأسماء، وإهمال لهذه الآيات وان أصحابها لأبقى من الدهر كله وأقوى من الناس كلهم، وأحق بالعناية ممن شئت وممن لم تشأ من أبطال العلم والأدب والفلسفة جميعا. ثم انحدرت من عينيها دمعتان وقالت بصوت رقيق تقطعه العبرة، كيف يمكن أن ينسى قول سوفوكيل على لسان انتيجون في حوار الملك: ولدت للحب لا للبغض. قال مهلا، فأنا لم نأت إلى هذه الربوة الجميلة الهادئة، ولم ننزل ضيفا على هذه الطبيعة النضرة الباسمة لنسفح الدموع. ونثير في نفوسنا عواطف الحزن، وقد وعدتك أو قد وعدت نفسك بالا نعبث هنا ولا نلهو، ولكني لم أعدك، ولم تعدي نفسك بأن نبكي ونرسل الزفرات ونسفح العبرات. قالت والهدوء يثوب إليها وإشراق الابتسامة الهادئ الخفيف يذود عن وجهها ما غشيها من ظلمة الحزن، والبكاء، لولا شغفك بالجدال وكلفك بالحوار واحتيالك في خلق الخصومات التي لا تنتهي، ولما اضطررت إلى أن أتورط في هذا الكلام الذي لا يمكن أن يوصف ألا بأنه فن من فنون السخف أو لون من ألوان الجحود، قال لست جاحدة، ومعاذ الله أن تكوني جاحدة، ولكني قلت لك أني أصبحت أرى أن السخف أقوم ما في الحياة. قالت فكن سخيفا ما شئت. فأني لا أحب السخف. لا أحب ان أسمعه ولا أحب أن أخوض فيه، ولولا إننا هنا بعيدان عما احب من الكتب لفرضت عليك عقوبة. . . قال وهي أن اقرأ لك فصلا من فصول التمثيل، لأقيم لك الدليل على أن التمثيل يمكن أن يقرأ فيثير اللذة والإعجاب بعيدا عن الملعب، قالت ولمن تريد أن تقيم الدليل وقد عرفت أني أشاركك في الرأي، وإني لم اقل ما قلت ولم أذهب إلى ما ذهبت إليه، الا حين اضطررتني أنت إلى هذا الحوار الذي لا ينقطع، والذي لا خير فيه. قال ماكرا، ومن يدري لعلك إن حاورتك في الشعر أن تقولي انه لا يقرأ. وإنما يسمع من المنشدين. ولعلي إن حاورتك في الموسيقى أن تقولي أنها لا تقرأ، وإنما تسمع من الموقعين.

قالت ومن يدري لعلك أن حاورتني في أي شيء أن تسيء رأيي في كل شيء، وان تردني إلى حيث كان أسلافنا في العصور الأولى، لا يعرفون الترف العقلي ولا يبتغون لذة العقل والشعور إلا من أقرب الطرق وايسر الوسائل. فقد كانوا يسمعون الشعر ويسمعون الموسيقى ويسمعون التمثيل، لأنهم لم يكونوا يقرؤون فأما الآن فقد نستطيع نحن أن نسمع فان فاتنا الاستماع فقد نستطيع أن نقرأ. وأني لأفكر في هذا فاعجز عن إحصاء نعمة الله على الناس حين ألهمهم الكتابة وعلمهم القراءة. فهذه النعمة هي التي حفظت لنا ما بقي في أيدينا من آيات البيان في العصور القديمة وأتاحت لنا ان نعجب بما كان يعجب به الناس من سحر الشعر والنثر، منذ القرون الطوال. وهذه النعمة هي التي تتيح لنا دائما أن نستبقي آيات التمثيل التي لم يبق بينها وبين الملعب من سبيل، لأن الأذواق قد أصابها من التغير والتبدل ما جعل تمثيل هذه الآيات أمر لا مطمع فيه، فلولا أنها قد حفظت لنا بالكتابة ولولا أننا نستطيع أن نحييها في نفوسنا بالقراءة. لماتت موتا لا نشور بعده وكيف ترى تمثيل ارستوفان، وأي قصصه يمكن أن يظهر في الملاعب الآن وأين الآذان التي تستطيع أن تسمع لحواره وما فيه من تجاوز الذوق الاجتماعي ومخالفة الأدب المألوف. ومع ذلك فكيف يستطيع مثقف أن يجهل تمثيل ارستوفان، إني لأكره كل ما يشذ عن الأدب الذي تواضع عليه الناس ولأرفض كل الرفض أن اقرأ على أحد، أو أسمع من أحد كثيرا من قصص ارستوفان، بل إني لأكره أن أقرأ هذه القصص كما كان القدماء يقرؤون بصوت عال تسمعه الإذن، ولكني على ذلك اعترف باني أطيل النظر في هذه القصص واقرأه المرة بعد المرة واقرأه كلما ضقت بالحياة أو ضاقت بي الحياة، اقرأه بالعين لا بالشفتين واللسان. قال ومالك تقفين عند ارستوفان وإن في آيات سوفوكل وصاحبيه لما يعجز الملعب عن إخراجه للناس الآن، لأن فن التمثيل نفسه قد تغير وتبدل، ولكن أي حرمان يصيب المثقفين لو قضى عليهم أن لا يقرؤوا غناء الجوقة في شعر هؤلاء الأعلام. وشكسبير أيجب أن يحرم المصريون مثلا لذة الاستمتاع بآياته لأنها لا تمثل في بلادهم، بل أيحرم الإنجليز أنفسهم لذة الاستمتاع بآياته لأنها لا تمثل عندهم إلا بمقدار. قالت بل نستطيع ان نذهب إلى أبعد من هذا فقد نستطيع أن نؤمن بأن القصص التمثيلي فن من فنون التعبير الأدبي يمكن أن يقصد إليه من حيث هو، وان يكتب الكاتب قصة تمثيلية لتقرأ لا لتمثل، قال فأنك لا تذهبين إلى شيء مستحدث وهل كانت كتب أفلاطون كلها الا فنا من فنون التمثيل كتبت لتقرأ لا ليلعبها الممثلون أمام النظارة، قالت بل أنا أجد القراءة تمنحني قوة لا أجدها حين اختلف إلى الملاعب فأنا اخلق الممثلين وأصورهم لنفسي وهم يذهبون ويجيئون ويجادلون، وأخلع عليهم من الصور الفنية ما يعجبني ويلائم طبيعتي، ومزاجي، وفهمي كما اقرأ. قال ولست أخفي عليك إني اكره أن أرى قصة تمثيلية قبل ان اقرأها، ولعلى اقرأ القصة التمثيلية فاعجب بها اعجابا، وافتن بها فتونا. ثم اشهدها في الملعب فيدركني شيء كثير من خيبة الأمل لأن الممثلين لم يؤدوها كما كنت أريد أن تؤدى، أو كما كنت أنتظر أن تؤدى. قالت وكذلك آيات الجمال الفني كلها ترتفع في النفوس حتى تبلغ المثل الأعلى أو تدنو منه فإذا اشتملتها الحياة الواقعة وأخرجها الإنسان إلى الوجود الفعلي نزلت عن مرتبتها لأن طبيعة الجمال الفني كلها ترتفع في النفوس حتى تبلغ المثل الأعلى أو تدنو منه فإذا اشتملتها الحياة الواقعة وأخرجها الإنسان إلى الوجود الفعلي نزلت عن مرتبتها لأن طبيعة الجمال الفني فيما يظهر لا تحب الحدود التي يفرضها الزمان والمكان.

قال في رفق مهلا فقد يخيل إلي إنا نصعد في السماء، ولو مضينا في هذا الحوار لبلغنا هذا السحاب الذي يوشك أن يفسد جمال هذه الطبيعة النضرة الباسمة. قالت ليس إلى إرضائك اليوم من سبيل، لقد كنت تراني منذ حين مقصرة مسرفة في التقصير، وأنت تراني الآن محلقة مسرفة في التحليق. قال أنا معجب بك على كل حال، ولكن ارفقي بي فقد أعجز عن أن أرتقي معك في الجو إلى حيث تريدين، عيشي مع أصدقائك من سكان النجوم إذا خلوت إلى نفسك فإذا لقيتني، فاذكري قول باسكال واعلمي إني مهما أقوى فلن أستطيع إلا أن أكون إنسان يمشى على الأرض وينظر إلى السماء. قالت ما أبرعك في إفساد الحديث ها أنت ذا تعود بنا إلى عبثك الذي لا ينقضي، الست ترى أن خيراً منه أن ننظر فيما حولنا وان تتحدث نفوسنا إلى نفس هذه الربوة التي لقيتنا فأحسنت لقاءنا. وهيأت لنا ضيافة لم نكن نقدر أن نلقاها. قال لا أرى بذلك بأسا ولاسيما في يوم وداع فمن يدري لعلنا لا نلقاها بعد اليوم. قالت وما يمنعنا أن نعود إليها غدا وبعد غد فان الإجازات تمد، ورسالة برقية تستطيع أن تذهب إلى القاهرة مساء اليوم فتكفل لك الإذن بالبقاء هنا إلى آخر الصيف. قال وقد استأثرت بنفسه غبطة لا حد لها أو تأذنين؟