مجلة الرسالة/العدد 209/من الأدب التحليلي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 209/من الأدب التحليلي

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 07 - 1937



أنا. . . والنجوم!

للأستاذ علي الطنطاوي

ما من كلمة هي أثقل على أذن السامع وأبغض إليه، من كلمة (أنا)، وما حديث أكره إلى الناس من حديث المرء عن نفسه. . . بيد إني متحدث الليلة عن نفسي، وقائل (أنا)، وجاعلها عنوان مقالتي، لأني منفرد بنفسي، لا أجد من أتحدث عنه إلا (أنا).

أنا حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفسي، وحين أصف شعور واحد وعواطفه، أصف شعور الناس كلهم وعواطفهم، كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعا ليعرف مكان القلب وصفته، ولكنه يشق الصدر والصدرين ثم يقعد القاعدة، ويؤصل الأصل، فلا يشذ عنه إنسان. . . سنة الله في الخلق، وقانونه المحكم، ونظامه العجيب الذي جعل الناس مختلفين وهم متشابهون - ومتشابهين وهم مختلفون، برأهم على الوحدة في الحقيقة، والتنوع في الجمال، فخلق العيون كلها خلقا واحدا، كل عين ككل عين، في تركيبها ووضعها، وصفتها، وما عين في شكلها ومعناها وجمالها، تلك حكمة الحكيم الخبير، وهذه صنعة المبدع القدير!

أنا منفرد على سطح دار في (الزبير) في هذه الليلة الساكنة المتلألئة النجوم، وأمامي الصحراء التي تمتد إلى عمان واليمن ونجد والحجاز، وورائي السواد الذي يصل إلى أرض فارس، وهي قريبة، حتى أني لأرى لهيب النفط المشتعل في (عبادان) وأنا في مكاني. . . أتأمل هذه الصحراء المجيدة المباركة، التي كتب على رمالها أروع سطور المجد، وأجل صحائف التاريخ، ونبت في رمالها دوح الحضارة الذي أوت إليه الإنسانية، وتفيأت ظلاله يوم لا ظل في الأرض إلا ظله؛ وأفكر فيطول بي التفكير، ويطل بي الفكر على آفاق واسعة ودنياوات عظيمة، وتنبلج في نفسي أصباح منيرة، فأجد في رأسي مئات من الأفكار الجديدة الكبيرة، وفي نفسي مئات من الصور الرائعة المبتكرة، ولكني لا أكاد أمسك واحدة منها لأقيدها بالألفاظ، وأغلها بالكلم حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم، ولا أنا سجلتها في مقالة وصنعت منها تحفة أدبية، ولو أني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكنت شيئ عظيما، ولكني لا أقدر. . . ولا أصب في مقالاتي إلا حثالة أفكاري؛ تنبت الأفكار في نفسي وتزهر وتثمر، ثم تذوي وتجف فآخذ الهشيم فأضعه في مقالتي!

ويتفجر الينبوع في نفسي، ويتدفق ويسيل، ثم ينضب وينقطع، فآخذ الوحل فأضعه في مقالتي!

وينبثق الفجر في نفسي، ويقوى ويشتد، ويكون الضحى والزوال، ثم يعود الليل، فآخذ قبضة من ظلام الليل، لأكتب منها مقالة، عنوانها. . . (ضياء الفجر)!

من أجل ذلك أكره أن أنظر في كل ما نظرت، وأستحي أن أعود إليه، وأحب كل جديد لم ينشر، وأرى أن الذي يمدحني بمقالاتي يحقرني لأنه لا يعلم أنها درهم من خزائن نفسي المفعمة بالذهب، فهو يقول لي: إن الدرهم كبير منك لأنك فقير، ولكن الذي ينقد مقالاتي وينقصها يقول لي: انك غني فالدرهم قليل منك، إن هذه المقالة حقيرة لأنك أنت عظيم. . .

لقد تعلمت هذه المسألة من عهد قريب، فصرت أحب النقد، وكنت أجهلها من قبل فأميل إلى الثناء والتقريظ

لبثت أعرض هذه المواكب من الأفكار، حتى تعبت ومللت، فألقيتها كلها في الصحراء، وجلست أفكر في الصحراء وحدها. . .

نظرت إليها وهي متمددة على سرير الجزيرة الواسعة - نائمة - فامتلأت إكباراً لها وإعظاماً، ثم فكرت أن لو فتحت الصحراء عينها - أكانت تبصرني - وتحس بوجودي؟ أأشعر أنا بوجود رملة حملتها الريح فطارت بها، فمست وجهي وهي طائرة، ثم مضت في سبيلها؟ ما أنا في وجود الصحراء الأرملة، وما حياتي إلا لحظة من حياتها، ولو تثاءبت الصحراء، أو حكت أنفها لتصرم قرن كامل قبل أن تنتهي من تثاؤبها وحكها أنفها. . . فما أعظم الصحراء وما أطول عمرها. . .

- بل ما أقل الصحراء. وما أقصر عمرها!

ما الصحراء؟ بل ما الأرض كلها؟ وما هذا المليار من القرون الذي عاشته؟ انه يوم من حياتي، إنها نقطة من بحري. . . إني نمت يوما فلما أفقت وجدت نقطة صغيرة هناك، فقلت: ما هذا؟ قالوا: مخلوق صغير يدعى الشمس. . . فعجبت من صغرها، ثم لم أحفل بها، فما أرضك هذا يا. . . يا. . . يا أيها العدم! هذا ما قاله لي كوكب قريب، كان ينظر إلي باسما. . . فذكرت ما قاله علماء الفلك عن الكواكب وعظمتها، فسكت ولم أنطق. . . وإذا بكوكب آخر يطل من هناك يقهقه ضاحكا يصرخ في وجه الأول: اسكت أيها النملة الحقيرة، من أنت؟ إن آلافاً مثلك لا تملأ وادياً واحداً من أوديتي، أنني أحمل مائة مثلك بين أصبعين من أصابعي. . .

وكان وراءه كوكب خافت لا يقول شيئا، لأنه لم يعلم بوجود هذا كله - لا يراه لبعده وصغره، وكان وراءه ستمائة مليون من الكواكب كل واحدا أكبر من الذي قبله، وأصغرها من هذا الكوكب كالفيل من البعوضة. . . فجلست أحدق في هذه الكواكب ذاهلا مشدوها، وانقطعت أفكاري عن الجريان وأحسست بضآلتي، حتى لقد خلتني عدما. . .

ثم صغرت هذه الكواكب في نظري لما رأيت شيئا أعظم منها، صغرت لما رأيت السماء (سقفا مرفوعا)؛ حتى غدت كلها (مصابيح تزين السماء الدنيا)، ورأيت السموات تطيف بها كلها. تحيط بهذا الفضاء (سبعاً طباقا) ورأيت الجنة من وراء ذلك (عرضها السموات والأرض) ورأيت العرش والكرسي. وملك الكائنات العظيمة، فأحسست أن عقلي ينهدم ويتحطم حين يحاول التفكير فيها وهي مخلوقة، فكيف به حين يحاول التفكير في الخالق؟

وذهبت أقابل بين هذه العظمة الهائلة التي لا يدنو من تصورها العقل، وتلك الدقة الهائلة دقة الجراثيم التي يمر الألف منها من ثقب إبرة، دقة الكهارب التي يكون منها في الذرة الواحدة مئات من الكواكب الصغيرة، يدور بعضها على بعض، كما تدور كواكب المجموعة الشمسية، ذهبت أقابل بين هذا وذاك فعجزت، وأنكن نفسي وجحدتها وامتلأت إيماناً بالخالق الأعظم، فصحت من أعماق قلبي:

لا اله إلا الله!

أنكرت نفسي. ولم أعد أراها شيئا. . . ونسيت يدي ورجلي، حتى لقد حسبتهما جزءا من الكرسي أو السرير الذي أجلس عليه، وأضعت ميولي كلها وشهواتي. حتى لم يبق لي (أنا) وإنما صرت (أنا) الكون كله، الكون الذي ردد معي قولي، لا اله إلا الله! فأحسست حينما أنكرت نفسي. بلذة الوجدان التي لا توصف:

لا يعرف العشق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها

وبدأت أفهم ما كنت قرأته من أقوال أهل التصوف، وتعلمت أن الإنسان لا يحس بعظمة إلا إذا نسي نفسه وعظمته. هنالك يجد هذا (الجرم الصغير) الذي هو رملة في الصحراء وعدم في وجود الكوكب، والذي لا يمتد عمره أكثر من لحظة في عمر السماء. . . يجده أكبر من الكواكب، وأخلد من السموات، لأنه عرف الله وأدرك حلاوة الإيمان. . . وقمت بعد ذلك أصلي، فلما قلت: الله أكبر، محي الكون كله من وجودي، ولم يبق إلا أنا العبد المؤمن الضعيف، والله الإله العظيم الجبار!

ليس في الدنيا شيء أجل ولا أجمل من الصلاة!

(البصرة)

علي الطنطاوي