مجلة الرسالة/العدد 208/في الأدب المقارن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 208/في الأدب المقارن

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 06 - 1937



التشابه والاختلاف في الأدبين العربي والإنجليزي

خاتمة

للأستاذ فخري أبو السعود

يروع الناظر في الأدبين العربي والإنجليزي شدة ما بينهما من تباعد، وكثرة ما هناك من وجوه الاختلاف، وقلة ما فيها من وجوه التشابه والاتفاق، ولا غرو فان الظرف الجغرافية والتاريخية التي أحاطت بنشأة كل منهما ونموه وازدهاره، وكانت متباينة أي تباين، والعوامل الاجتماعية والسياسية التي تترك آثارها في الأدب كانت متضادة أي تضاد، فجاء الأدبان اللذان هما وليدا تلك الظروف والعوامل مختلفين أعظم اختلاف، في الموضوعات والأساليب والأشكال والأغراض، ولم يتفقا إلا في كل عام من الوجوه التي يستوي فيها جميع الآداب لشيوعها بين جميع شعوب الإنسانية

فالأمة العربية أمة سامية ضربت في فيافي الجزيرة أحقاباً، وترعرع أدبها تحت سماء البادية، ثم خرجت من جزيرتها فورثت حضارات الأمم الشرقية، وأخضعت لسلطانها أغنى بلاد الشرق وسيرت تحت لوائها شعوباً أرقى منها مدنية وأعرق في العلم والصناعة ودانت لحكومة ملكية مطلقة، وكان الدين أساس دولتها وشارة مجتمعها؛ والأمة الإنجليزية أمة آرية خرجت من جزيرتها المنعزلة فجولت في البحار، وشاركت في تراث الإغريق والرومان، واعتنقت المسيحية، وساهمت في الحضارة الأوربية، وتمسكت بنظام الحكم الديمقراطي؛ فهما أمتان مختلفتان في الجبلة ونوع المجتمع ومتجه التفكير، فاختلفت أدباهما تبعاً لذلك، ولم يتفقا كما تقدم إلا في وجوه عامة ومناح عارضة:

فعصر الجاهلية في تاريخ الأدب العربي شبيه بعصر ما قبل اليزابث في التاريخ والأدب الإنجليزيين: ففي ذينك العصرين كان كل من الشعبين يعيش داخل جزيرته في عزلة كبيرة عن العالم. على حال شبيه بعصر الأبطال في بلاد اليونان الذي أنتج ملاحم هوميروس، وكان الأدبان تبعاً لذلك جافين، وعرى اللفظ والأسلوب، ساذجي المعنى، بعيدين عن الصناعة الفنية، وكانا أقل رقياً من الأدب الفني الذي جاء في العصر التالي، وإن يك الأدب العربي بلغ في عهد الجاهلية والبداوة والعزلة مبلغاً من الرقي أعلى كثيراً من مبلغ الأدب الإنجليزي قبل أن يتصل اتصالاً وثيقاً بثقافات الأمم الأخرى وآدابها

ونهضة العرب بظهور الإسلام تماثل نهضة الإنجليز في عصر اليزابيث، بوصول النهضة الأوربية إلى إنجلترا، واتجاه نظر الإنجليز إلى ما وراء البحر، ففي كل من هذين العصرين بدأت الأمة تخرج من محيط جزيرتها وتشب عن طوق عزلتها، وتتصل بالعالم وتصطنع حضارته، وتبني لنفسها إمبراطورية مترامية الأطراف، وارتقى أدبها من جراء ذلك ارتقاء عظيماً، ورقت ديباجته ودخل في طوره الفني، طور الإنشاء المحكّم والمجهود الأدبي المتصل، وانتشرت كلتا اللغتين في بقاع الأرض وافتتحت آدابها كثيراً من الأمم: فاللسان العربي الذي لم يكن يتجاوز حدود الجزيرة في الجاهلية، صار يتكلم من تخوم الصين إلى المحيط الأطلسي، وأثر في لغات وأزال غيرها وحل محلها، واللغة الإنجليزية التي لم يكن يتكلمها إلا ملايين معدودة في عهد شكسبير أصبحت تتكلم وتدرس في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح أدبها عالمياً كما كان أدب العرب عالمياً على عهد عظمتهم

ولم تكن كل من الأمتين توطد أركان إمبراطوريتها حتى انسلخ عنها جانب من أملاكها ونما مستقلاً حتى طاولها في النفوذ والسلطان، وداناها في ازدهار العلوم والآداب: فكما انفصلت الأندلس عن الخلافة العربية، استقلت الولايات الأمريكية عن الإمبراطورية البريطانية، بيد أن البلاد الأصلية احتفظت بالزعامة الأدبية على طول المدى: فلم تنجب الأندلس من الأدباء من بذوا فحول العباسيين، ولا ظهر في أمريكا ولا غيرها من أنحاء الإمبراطورية البريطانية من دانى شكسبير وملتون، فلعل التراث الثقافي الحافل، والماضي التاريخي المؤثل من ضروريات ازدهار الأدب الأساسية، وذلك ما كان يعوز الأندلس الإسلامية، وما يعوز أمريكا الحديثة، فظلت كلتاهما تلتفتان إلى الوطن الأول في طلب النموذج والمنهاج والوحي

وكلا الأدبين العربي والإنجليزي تأثر إلى حد بعيد بالكتاب السماوي الذي تدين به أمته: فأثر القرآن في المجتمع العربي وتاريخ اللغة العربية وآدابها وثقافة آدابها وأساليبهم جسيم شامل، فقد كان منذ جاء مثلاً أعلى في البلاغة وثقافة قائمة بذاتها، والإنجيل منذ ترجم إلى الإنجليزية في عهد صلاح الديني كانت له اليد الطولى في تثبيت الأسلوب النثري الإنجليزي، وتثبيت مفردات اللغة وإدخال مفردات جديدة، واشتقاق غيرها، واختراع طرق للاشتقاق أدت إلى توسيع جوانب اللغة، وكان دائماً قدوة للأدباء يحتذونها في إسلاس الأسلوب، وله أثر مباشر جلي في كتابين هما من ذخائر الأدب الإنجليزي، أحدهما (رجلة الحاج) لبنيان والثاني (الفردوس المفقود) لملتون، ففي كليهما يقوم أساس القصة على ما ورد في الإنجيل من أنباء الخلق والبعث والحساب، بل أن دراسة الإنجيل كانت هي الثقافة الوحيدة التي نالها بنيان، الذي كان قساً ضئيل الحظ من العلم، ومع ذلك يعد أسلوبه المبني على أسلوب الإنجيل في الذروة في أدب اللغة.

تلك أمثلة من وجوه التشابه في الأدبين، وظاهر أنه تشابه عام عارض محدود، أما وجوه التناقض فعديدة تشمل نواحي الأدب وتضرب جذورها في صميمه: فالأدب العربي ازدهر في كل دولة إسلامية فهو أشد تأثراً واصطباغاً بالنزعة الدينية من الأدب الإنجليزي، ومع ذلك قد جرى العرب إلى غايات من الترف واجتناء اللذات لم يبلغ بعضها الإنجليز، وبدأ أثر ذلك الترف المغرق بجانب ذلك الروح الديني في أدبهم؛ وقضت التقاليد التي نمت في المجتمع الإسلامي بإسدال الحجاب على المرأة، فتقلص ظلها من المجتمع وضؤل أثرها في الأدب، وازداد ضآلة بمرور الأيام بدل أن يزداد جسامة بتوطد الحضارة وذيوع التعليم واتساع جوانب الأدب، فكانت المرأة الإنجليزية أبين أثراً في أدبها - كاتبة ومكتوبا عنها - من المرأة العربية.

وعرف الإنجليز فنونا لم يحفل بها العرب كثيرا كالتصوير والنحت، وأغرموا بما اطلعوا عليه من آثار تلك الفنون من مخلفات الأمم القديمة، وامتلأ أدبهم بوصف كل ذلك وتقديره والأدب العربي يكاد يكون خلوا من ذلك؛ وانكب أدباء الإنجليزية على دراسة الآداب الأوربية المعاصرة وأفادوا منها كثيراً، وتوفروا خاصة على دراسة الأدب الإغريقي القديم، فكان لهذا الأدب أبعد الآثار وأشملها في الأدب الإنجليزي: رحب آفاقه وبسط أساليبه وأشكاله، ومد أمامه منادح القول ووجه نظره إلى جمال الحياة الذي تصويره غرض الأدب والفن جميعاً واكتسب الأدب الإنجليزي صبغة إغريقية ظل الأدب العربي بعيداً عنها، فأن هذا الأخير لشديد اعتداده بنفسه لم يحاول أن يطلع على آداب غيره، أو يستفيد من تراث اليونان الأدبي الحافل فكان ذلك الإقبال على الأدب الإغريقي من جانب الإنجليز، وذلك الأعراض عنه من جانب العرب من أكبر دواعي اختلاف الأدبين وتباعدهما.

وفي عهد الدولة والحضارة والثقافة، عهد الطور الفني للأدب حين يبلغ أوج رقيه، رضخ العرب للملكية المطلقة، والملكية تكف الشعب عن الحكم وتكف الأدب عن النقد والإصلاح وتلحق الأدباء بحاشيتها، فجاء الأدب العربي بلاطياً في جملته، يمتدح بمآثر الملوك ويصف مواكبهم ومظاهر عظمتهم، ويغفل الشعب وأحواله وآماله إلى حد بعيد، على حين اعتمد الأدب الإنجليزي في اكثر عصوره على استجلاب رضا الشعب، وتصوير أحواله ونشدان آماله، فامتلاء الأدب الإنجليزي بالنظرات النقدية والقصص الاجتماعية والبحوث السياسية، وحفل بتمجيد الحرية والديمقراطية واحترام الفردية والرأي العام، على حين امتلاء الأدب العربي بالمدائح والرسائل الديوانية، فمن أكبر مظاهر اختلاف الأدبين العربي والإنجليزي، صبغة الأخير الشعبية الفردية وصبغة الأول البلاطية الرسمية.

وهذا الانضواء تحت لواء الملكية أكسب الأدب العربي صفات وخصائص ظل الأدب الإنجليزي خلوا منها: فغلبت على الأدب العربي - الذي تعود الإغضاء والرضا بالكائن وعدم محاولة الإصلاح - نزعة المحافظة والتقليد، على حين سادت الأدب الإنجليزي روح التجديد، وتجدد على طول العصور لفظا وأسلوبا وموضوعا؛ وكان من دواعي تلك المحافظة أيضا اشتغال غير العرب بالأدب العربي، بل ظهورهم على العرب في جمال الصناعة الأدبية، وقدم من جراء ذلك كله الأسلوب على المعنى، وكان يعد أديباً من تمكن من أصول اللغة وأحكم إنشاء الجمل البليغة، لا من لطف حسه وأرهف شعوره، واتسعت نظرته وسمت فكرته في الحياة؛ وكان من أثر نزعة المحافظة والجمود التي سادت الأدب العربي أن جمدت أشكاله وموضوعاته، فلم تتطور أشكاله وتتميز وتتعدد، ولم تتجدد موضوعاته وتتكاثر وتتوالد، على حين كان تاريخ الأدب الإنجليزي تاريخ تجدد مستمر وإخصاب متزايد في هذه النواحي جميعا.

ولسير الأدب العربي في ركاب الأمراء، واعتماده على عطفهم دون عطف الجمهور، أهمل الأدب موضوعات كثيرة هي من صميم الفن ولباب الحياة، وهي هم الأديب المفكر المحس، كعبادة مفاتن الطبيعة والتفنن في عرضها، واستلهام حكم التاريخ والتأنق في وصفها، واستيحاء جلائل البطولة وتصوير روائعها، واستخلاص مواضع الفتنة والمتعة والجمال من خرافات الأقدمين، وإرضاء الفن بنظمها وتجديد شبابها، وعرض آثار الرحلات التي يقوم بها الأديب ووقعها في نفسه، والسبح في عوالم الخيال البعيدة الساحرة، والضرب في أعماق الماضي وآماد المستقبل وآفاق الإنسانية الواسعة، كان الأدب العربي - لاعتماده على صلات الأمراء - في شغل شاغل بحاضر العيش وقريب المطلب عن كل تلك العوالم الزاخرة بالفن والحياة والشعور والمتعة، فأهمل بعضها ولم يمس بعضها إلا مساً رفيقاً، وبكل هاتيك العوالم وذخائرها وأصدائها يحفل الأدب الإنجليزي

هذا الاختلاف المطرد الشامل في البيئة والمجتمع والموضوع والأسلوب، مرجع ذلك الاختلاف الرائع الملحوظ بين كتب الأدبي العرب وكتب الأدب الإنجليزي، وفحول هذا وأقطاب ذاك، وسيرهم وآثارهم وعقليا تهم وشخصياتهم، حتى ما نكاد نرى في الأدبين شاعرين متماثلين أو كاتبين يذكرنا إحداهما بالآخر، من جهة العقلية والأسلوب أو الموضوعات، أو يتشابه موضوع كتاب هنا وموضوع كتاب هناك، أو تخال فكرة قصيدة في هذا الأدب صادرة عن نفس الحالة النفسية الصادرة عنها أخرى في الأدب الآخر، ليس هناك شيء من ذلك، وليس بين الأدبين إلا التباعد والتناكر، كما يتباعد ويتناكر شخصان غريبان مختلفا الموطن والنشأة والتربية، والعقيدة الدينية والثقافة، والنزعة في الحياة والمتجه في التفكير

فإذا وازنا بين كبيري شعراء الأدبين، المتنبي وشكسبير، بدا لنا الاختلاف والبون العظيم: فجانب كبير من شعر المتنبي موقوف على المدح والهجاء، ولم يقل فيهما شكسبير حرفاً، وشعر المتنبي مليء بالحكم البليغة الموجزة المتجاورة يزاحم بعضها بعضاً وشعر شكسبير حافل بوصف الشخصيات وتحليل النفوس تحليلاً مسهباً لا يتوخى بلاغة الإيجاز في شيء؛ وبجانب المدح والهجاء والحكمة وما يتصل بذلك لم يكد المتنبي يطرق موضوعاً آخر بعيداً عن دائرة حياته الشخصية، بينما روايات شكسبير وقصائده تعج بوصف الطبيعة وتقديس الفنون كالموسيقى وتمجيد الأبطال، وتضرب في شعاب الخرافة وأرجاء التاريخ؛ وشكسبير يراوح في نظمه بين أشكال الشعر المختلفة، بين الشعر المرسل والدوبيت والسونيت، والفقرات المتراوحة طولاً، المتداخلة القوافي، وقد دعي ضرب من السونيت باسمه لما أكسبه بعبقريته من مرونة، على حين ظل المتنبي - وهو الشاعر العظيم المتمكن من اللغة والأدب المطلع على حقائق الحياة - متمسكاً بالشكل الشعري الوحيد الذي وصل إليه من المتقدمين، وهو القصيدة المصرعة الموحدة الوزن والقافية غير الموحدة الفكرة، فلم يمنح الأدب العربي شكلاً ولا موضوعاً لم يكن من قبله؛ وعاش المتنبي ومات طامحاً إلى الملك وتضريب الأعناق، ساخطا على تبريزه في مضمار الأدب الذي كان يحسد عليه ويكاد له من أجله، ولم يكن شيء من ذلك مما يخطر لشكسبير على بال

وجلى واضح أن هذه الفروق بين الشاعرين العظيمين إنما ترجع إلى العوامل الاجتماعية والسياسية، التي كانت تحيط بكل منهما وتكون نفسيته وعقليته، وإلى هذه العوامل ذاتها يرجع التباين الشديد بين أبي نؤاس وأبي تمام والبحتري وأبن العميد وبديع الزمان من جهة، وبين ملتون وبيرون وشلي وكيتس وجيبون وكارليل وماكولي من جهة أخرى، وهو تباين يجعل من المحال تشبيه واحد من الفريق الأول بواحد من الفريق الثاني، في سيرته في الحياة أو فلسفته الفكرية أو مذهبه الأدبي، وإن كان من أسهل الأمور استخراج العديد من أوجه الاختلاف والتضاد.

هذا الاختلاف في البيئتين الجغرافية والظروف التاريخية، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية، والجبلة والتقاليد والمنازع، وهذا التباين بين الأدبين في المشرب والأسلوب والموضوع وشخصيات الأدباء وسيرهم، كل ذلك يجعل الموازنة بين الأدبين من أمتع الدراسات الأدبية وأحفلها بالدروس والعبر، وادعاها إلى استخلاص المبادئ والنظريات الأدبية، وإلى التفطن إلى العوامل المؤثرة في الآداب ونتائجها، وقديماً قيل: وبضدها تتميز الأشياء، ولو كان الأدبان شديدي التشابه وليدي ظروف متقاربة وعوامل مؤثرة متماثلة، لما كان في الموازنة بينهما كبير طائل، ولا كان تتبع ظواهرهما يستحق طويل عناء، ولأشبها أن يكونا أدبا واحدا مشتركا بين أمتين، موزعا بين لسانين.

فخري أبو السعود