مجلة الرسالة/العدد 207/كثرة البطولة أو ندرتها؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 207/كثرة البطولة أو ندرتها؟

مجلة الرسالة - العدد 207 المؤلف عباس العقاد
كثرة البطولة أو ندرتها؟
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 06 - 1937


للأستاذ عباس محمود العقاد

لخص العالم الفاضل الأستاذ أحمد أمين ما بيننا من خلاف على مسألة النبوغ والبطولة في ختام مقاله فقال:

(عصرنا الحاضر طابعه طابع المألوف والمعتاد لا طابع النابغة والبطل، وإن كان مألوفنا ومعتادنا أرقى من نابغة القرون الماضية وبطل القرون الماضية

(أن كان هذا - يا أخي - هو الذي أردتُ فأظن أنه لا يرد علي بمزايا العصر الحاضر، وعلم العصر الحاضر، وفن العصر الحاضر. وإذا كان النبوغ في السبق وكانت المقارنة بين عصرين بقياس مسافتي البعد، فأرجو أن نكون على وفاق فيما ذكرتَ وذكرتُ)

وموضع الوفاق بين ما قال الأستاذ وما قلت أننا لا ينبغي أن نقيس علم السابقين إلى علم المحدثين، فليست المقارنة بين مقدار ما نعلم ومقدار ما يعلمون، وإنما المقارنة بين الملكات في الزمن الماضي، والملكات في الزمن الحاضر، وهذا ما نختلف عليه؛ إذ لا موجب عندي لأن تكون ملكات النابغين في عصرنا أقل مما كانت في عصر الأقدمين

إن النبوغ صفة في أصحابها وليست صفة في غيرهم، فإذا تعلم غير النابغين أو لم يتعلموا فصفة النبوغ باقية في أصحابها سواء ظهروا بين المتعلمين أو ظهروا بين الجهلاء. وكل ما هنالك من فرق أن النابغة الذي يظهر بين المتعلمين أنبغ من زميله الذي يظهر بين الجهلاء، وتلك شهادة للنابغين في العصر الحديث تضاف إلى ميزان الحسنات والمرجحات

ومسافة البعد بين النابغ القديم ومعاصريه، هي مسافة البعد بين نابغينا وأبناء عصرنا إذا نحن تجاوزنا مسألة التعليم ووفرة المتعلمين، لأن النبوغ ملكة مطبوعة، والمسافة بين المطبوعين وغير المطبوعين اليوم هي هي المسافة بين الفريقين قبل مائة عام أو ألف عام. فليس فضل إديسون في زماننا أنه يعرف في علم الضوء وعلم الصوت ما ليس يعرفه أبناء عصره، ولكنما فضله أنه نابغ وهم غير نابغين، فأفاد بالعلم اليسير ما لم يفده الآخرون بالعلم الغزير، وظلت المسافة بينهم وبينه في النبوغ كالمسافة بين أرخميد ومن عاصروه من غير النابغين، وإن أختلف العصران في شيوع العلم وكثرة المتعلمين

يقول الأستاذ الفاضل: (مقياس النابغة في نظري أن يفوق أهل زمانه ويسبقهم في ف علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان، وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ. فسيبويه نابغة في النحو، لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه).

وأنا أقول كما يقول الأستاذ: إن النابغة يفوق أهل زمانه في معرض من معارض العلوم والفنون، ولكني لا أقول إن عصرنا لم ينجب أمثال سيبويه، بل أقول إن سيبويه لو عاش في عصرنا لما فاق نوابغه الأحياء. وإن نوابغنا الأحياء لو عاشوا في عصره لما قصروا عن شأوه، لأن الملكات التي تعرف وحدة الأسماء والأفعال بين لغات أوربا ولغات آسيا لا تقل عن الملكات التي تعرف الوحدة أو الاختلاف بين قبيلة وقبيلة من أبناء البادية، لا لأن الأمر يرجع إلى كثرة المتعلمين عندنا وقلة المتعلمين قبل نيف وعشرة قرون.

وعندي أن المعاصرين ينظرون إلى نوابغهم وأبطالهم كما كان الأقدمين ينظرون إلى النوابغ والأبطال في عصورهم إلا من كان منهم موسوماً بسمة الدين أو محوطاً بهالة الإيمان.

فالأستاذ يقول أن نابليون ظهر (فاستعبد الناس وأجرى الدماء أنهاراً وقلب الممالك رأساً على عقب ودوخ الدنيا فكان نابغة حقاً في ناحية. وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب ومن هم أقوى منه إرادة وأبعد نظراً، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ، لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون. ولأنه وحده هو القاهر المريد ومن حوله كانوا المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا، ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل).

فليت الأمر كما يبشرنا الأستاذ من هذه الناحية: إنما الواقع أن أحداً من أبناء القرن الثاني عشر لم يناد بأن الإمبراطور معصوم كما ينادي الفاشيون من أبناء القرن العشرين بعصمة (ألد وتشي) وطاعته بغير تفكير ولا امتعاض.

والواقع أن نابليون لم يجسر يوماً على صنيع كالذي صنعه (الفوهرر) قبل ثلاث سنوات من (تطهير) البلاد بلا محاكمة ولا سؤال.

وقد كان (لفين) ينحي على القديسين، ولا يعترف للعظماء بأثر في توجيه التاريخ إلى الأثر الذي يعترف به الشيوعيون، فلما مات أقاموا له ضريحاً لم يحلم به كاهن ولا راهب في عهد القياصرة أو عهد الكنائس والقديسين.

وإننا لنسمع كل يوم عن الألوف التي تندفع حول نوابغ الصور المتحركة للظفر بتوقيع بطاقة أو صورة شمسية، كما نسمع بالألوف التي تتدفع من أجل هذا حول أبطال الألعاب الرياضية وأبطال السياحة والطيران وأشباههم من أصحاب الشهرة في كل ميدان يتصل بالجماهير. أما العلماء والأدباء فمن نبغ منهم وأشتهر فليس نصيبه من الإعجاب والجزاء بأقل من نصيب أمثاله قبل أجيال وأحقاب، ومن لم ينبغ ولم يشتهر فله قرناء يماثلونه بؤساً وغبناً وشظفاً في أقرب العصور وأبعد العصور.

لا، بل نحن لا نستثني أصحاب المكانة الدينية على إطلاق الاستثناء، فما يربحه الدعاة باسم الدين اليوم لا يقل عما كانوا يربحونه في الأيام الخالية؛ والثقة بأغاخان اليوم وهو يعيش في أوربا عيشة المترفين والمتطلقين لا تقل عن الثقة بإمام زاهد عاكف على العبادة كان يعيش في صومعته قبل عصر الكشف والاختراع.

ولم ننفرد نحن بإكبار البعيد في الزمان أو المكان وترجيحه على أنداده وقرنائه الذين نراهم رأى العين ونعرفهم بالمصاحبة واللقاء، فقديماً كانوا يقولون إن زامر الحي لا يحظى بإطراب، وقديماً كان الجاحظ يكتب الرسائل وينحلها الكتاب الأسبقين ليحظى بالإصغاء والتقريظ.

وأحسب أن إيثار الماضي على هذا النمط له علة شائعة بل علل شائعات لا تنحصر في وقت ولا يخلو منها قبيل.

فالماضي يشبه المثل الأعلى لأنه غائب عن الأنظار كالمثل الأعلى في هالاته وخيالاته، أما الحاضر فهو كالواقع المحسوس الذي نحب أبداً أن نتجاوزه ونطمح إلى ما وراءه.

ولقد كان المشركون ينكرون النبي عليه السلام ولا ينكرون منه إلا أنه (يأكل الطعام ويمشى في الأسواق). ترى هل كان الأنبياء فيما مضى لا يأكلون طعاماً ولا يمشون في سوق؟ كلا بل كانوا يأكلون ويمشون، ولكنهم بعدوا واحتجبوا فخيل إلى غير معاصريهم أنهم مختلفون.

ومن العلل التي تجنح ببعضهم إلى تهيب (السلف الصالح) أننا ننظر إليهم كما ننظر إلى الآباء والأجداد، كأنهم كبار ونحن صغار، لأنهم ولدوا قبلنا بمائة عام أو مئات من الأعوام، وينسى المتهيبون أن السابقين كانوا أطفالا في سن الطفولة وأننا سنصبح شيوخا مع السنين أو نربى في الشيخوخة على أولئك الآباء والأجداد ومن تلك العلل ما أومأنا إليه في مقالنا الأول عن سهو الذين يقارنون بين الماضي والحاضر فيجعلونها كفتين تتساويان في نطاق الزمان والمكان، مع أن الحاضر زمن واحد والماضي حاضر قد تتكرر عشرات ومئات

وعندنا نحن الوارثين للثقافة العربية سببان آخران لا يلحظان بهذه القوة في جميع الشعوب: أحدهما أن العربي يعتز بالأنساب وينوط الفخر كله بماضيه، لأنه سلالة من القبائل التي تغلب فيها العصبية وترسخ فيها الأصول.

والثاني أن الماضي أقرب إلى منشأ الدين، فيخيل إلينا أن الأقدم فالأقدم هو الأصلح فالأصلح والأعلم فالأعلم، وإن لم تدلنا الدلائل على اطراد هذا القياس

تلك الأسباب كلها خليقة أن تضعف احتراسنا كلما عمدنا إلى الموازنة بين حاضر وغائب وقريب وبعيد. فهي صنجة تؤخذ من كفة الأقدمين وتضاف إلى كفة المحدثين في ميزان الأنصاف. ومما لاشك فيه أن ملكات النبوغ لا تقل في عصرنا بل هي أحجى أن تزيد وتنشط، بل هي قد زادت ونشطت فعلا باتساع مجال السعي والمنافسة والتفكير والاستنباط؛ ومما لا شك فيه أن الأقدمين لم ينظروا إلى معاصريهم إلا كما ننظر نحن إلى معاصرينا، وأنهم لم يشعروا قط بتلك المهابة التي نضفيها عليهم الآن ولا بذلك الترجيح الذي نمحضهم إياه. أما أنهم كانوا يرون نوابغهم وأبطالهم كما نراهم الآن فذلك ما نخالف فيه الأستاذ لأنه خلاف المعهود والمروي والمسطور. وهبهم أكبروا معاصريهم لأنهم قلائل، وأصغرنا معاصرينا لأنهم كثيرون لا نادرون كما يقول الأستاذ الفاضل، فإنما يكون ذلك كالذهب الذي يكثر تداوله فيرخص سعره وهو ذهب لا شك فيه. وإنما يكون النبوغ نبوغاً ولا يكون شيئاً آخر مهما يكن حظ الناس من التعليم، لأنه ملكة في الطباع لا يختلف كنهها وإن اختلفت أنظار الناس إليها، ولا تزال الإنسانية بحاجة إلى الكثير منهم والقليل

وخلاصة القول إننا نستطيع أن نقول مع الأستاذ الكبير إن النبوغ في عصرنا كثرة لا ندرة، ولا نستطيع أن نقول معه أن المسافة بين النابغ وسواد الناس تقترب في العصر الحديث، لأن ازدياد التعليم يزيد نصيب المتعلم من المعرفة ولا يخوله فطرة أخرى ولا ملكة مطبوعة كتلك التي يخلق بها النابغون الممتازون

عباس محمود العقاد