مجلة الرسالة/العدد 204/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 204/رسالة العلم
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي بك مدير مصلحة الكيمياء
وزادت أوامر إرليش وكبر مقدارها، وتزايدت السجائر الحامية التي عكف على تدخينها يوماً فيوماً. وما لبث أن دخلت طوائف كبيرة من الأرانب الذكور بيت جورج اسباير كأنها ألوية الجيش تتابعاً وكثرة، ودخل في زمرتها إلى هذا البيت رجل صغير قصير ياباني صياد مكروب لا يألو في بحثه جهداً. وكان اسمه هاتا. وكان قديراً وكان دقيقاً. وكان له جَلد واسع وصبر على التجريب طويل، فهو يحتمل التجربة الواحدة يعيدها عشر مرات ولا يكلّ. وكان خفيف الحركة جمّ النشاط متزنه، فهو يقوم بعشر تجارب في آن واحد. فوافق هوى إرليش، وهو كما تعلم دقيق يحب كل دقيق
فبدأ هاتا يجرب مركب رقم 606، لا على مكروب الزهري نفسه. بل على مكروب من نوعه ولكن أقل منه امتقاعاً في اللون وشرة في الأثر، ذلك اسبيروشيتة الدجاج وكانت تقتل الدجاج قتلاً. فماذا كانت نتيجة هذه التجارب العديدة الطويلة؟ صاح إرليش: (باهرة!. . . خارقة!. . . لا تكاد تصدق!) فهذه الدجاجات الكبيرة والأفراخ الصغيرة امتلأت دماؤها بهذا المكروب امتلاء، فما هي إلا أن حقنت برقم 606 وأصبح عليها الصباح حتى كانت تسير مرفوعة الرأس تقوّق وتتخطر ناعمة بالصحة والحياة. فهذه نتيجة لاشك مجيدة. ولكن ما الذي كان من أمر نسيبه المكروب الآخر مكروب الداء الإنساني الذميم؟
في اليوم الحادي والثلاثين من أغسطس عام 1909 وقف إرليش وهاتا أمام قفص به أرنب ذكر جميل سليم من أية وجهة نظرته، إلا صفنه، فقد كان شوهه قرحتان فظيعتان كلتاهما أكبر من ربع الريال سببهما دبيب هذا المكروب اللعين الذي يأتي الإنسان جزاء الخطيئة الكبرى.
وكان هاتا وضع هذا المكروب تحت جلد هذا الأرنب من شهر مضى. ووضع هاتا قطرة صغيرة من ماء هاتين القرحتين الكريهتين تحت مكرسكوب صنع خصيصاً لرؤية أمثال هذه المكروبات الخبيثة الرفيعة الشاحبة. وضعها ونظر فرأى في ظلام المجال لهذا المكرسكوب الخاص، رأى تلك المكروبات ألوفاً تتلألأ في شعاع نور قوي سلط من الجانب عمداً عليها. وتراءت له كأنها ألوف من خرامات الحدادين ومثاقيب النجارين تطير في المجال رائحة غادية. منظر جميل يستوقفك الساعات، ولكنه مروع، فأي المكروبات يجر على البشر من البلاء والويلات ما تجر هذه؟!
ومال هاتا عن المكرسكوب يمنة لينال إرليش من هذا المنظر نظرة. فلما رآه نظر إلى هاتا، ثم نظر إلى الأرنب ثم قال: (دونك فاحقنه) وجرت الحقنة في وريد أذن الأرنب، ودخل المركب 606 في محلوله الأصفر إلى دم الأرنب يلقى مكروب الزهري ويقاتله لأول مرة في تاريخ هذه الدنيا.
وفي الغد لم يبق في صفن الأرنب من لوالب هذا المكروب لولبة واحدة. والقرحتان؟ سبق إليهما الجفاف وأخذت جلبة تتكون عليهما. ولم يكد يمضي على هذا شهران حتى لم يبق من الجُلبة غير جليبة صغيرة. شفاء هو السحر أو كشفاء المسيح بن مريم. واستطاع إرليش أن يكتب بعد ذلك بقليل:
(ويتضح من هذه التجارب أن هذا المكروب يفنى عن آخره تواً إذا حقن الحيوان حقنة كبيرة كافية)
وإذن جاء يومه الكبير المنظور؛ فهذه رصاصته المسحورة، فما أسرع قتلها للمكروب! وهي مع هذا سليمة مأمونة على الحيوان. وإن شككت في سلامتها فانظر إلى هذا العدد العديد من الأرانب البارئة، فهل نالها مثقال ذرة من سوء لما ضرب هاتا محقنه في آذانها بجرعة هذا الداء، برغم أنها جرعة كبيرة كانت ثلاثة أضعاف الجرعة اللازمة الكافية لمحو الداء محواً محققاً سريعاً؟ لقد نال إرليش بهذا الكشف فوق بغيته، وأطلق من هذا المحقن على الداء رصاصة أروع من رصاصته. وضحك بُحاث ألمانيا بالأمس من أحلامه، فجاء دوره اليوم في الضحك فضحك وُسع فيه. صاح إرليش: (إنها رصاصة مأمونة. إنها سم للداء، وللحي فيها البرء والشفاء) وتستطيع أن تتصور أي الأطياف كانت تطوف بخيال هذا الرجل المستوثق بنفسه استيثاقاً لا يقصر منه حد. وصاح في وجه كل أحد: (إنها مأمونة! إنها سليمة!) ولكن في ليلته ولياليه جلس في مكتبه وقد تعبأ جوه بدخان السجائر حتى ضاقت به الأنفاس؛ جلس بين أكوام الكتب وركام المجلات وقد ارتمت ظلالها حوله متراكبة غريبة؛ جلس وحده وبين يديه تلك الكراسات الزرقاء الخضراء البرتقالية الصفراء التي كان ينقش عليها كل ليلة في انبهام كل ما يخطر بباله مما سيصدره إلى رجاله وعبّاده من الأوامر في الصباح الطالع. ففي هذه الحجرة خلا إرليش لنفسه فسألها في خفوت: (أحقاً أنها سليمة مأونة؟)
إن الزرنيخ سم محبب إلى السمامين. . .؟! قال إرليش محتجاً،: (ولكنا تناولنا طبيعته بالعجب العجاب فغيرناها)
وهذا الذي شفا الفئران والأرانب قد يقتل الرجال. .؟! قال إرليش مجيباً: (إن النقلة من الأرانب والفئران نُقلة خطيرة، ولكنها خطوة لابد منها)
وطوى الليل رداءه الأسود، وانبلج الصباح وبعث شعاعه الأبيض إلى المعمل ينشر فيه مع النور الأمل والثقة والإقدام. ودخله إرليش فنظر فوجد الأرانب التي برئت، ولقي عونه برتهايم، هذا الرجل الساحر الذي لوى الزرنيخ الفاتك ثم لواه ستاً وستمائة مرة حتى عاد حربه سلاماً. وتشمم إرليش فسطعت في أنفسه رائحات مائة مخلطات طيبات لمائة من حيوانات تجريبية، ورائحات ألف مختلطات طيبات لألف من مواد كيماوية، وتلفت إرليش يمنة ويسرة فوجد كل هذا الجمع من أعوانه رجالاً ونساء يؤمن به ويثق فيه. إذن فما التشكك وما التردد؟ وهيا أيها الأعوان إلى هذه الخطوة الأخيرة نخطوها ولو خطيرة فقد والله خاب من أحجم
كان إرليش في قراءة نفسه مقامراً، ومَن من كبار صادة المكروب لم يكن مقامراً؟!
وقبل أن يزول تقرّح صَفَن الأرنب بتمامه، وقبل أن تسقط عنه أخيرة جلباته، كتب إرليش إلى صديقه الدكتور كنراد ألْت يقول: (فهل لك أن تتكرم فتجرب هذا المركب الجديد رقم 606 في مرضى الزهري من بني الإنسان؟)
فأجابه الدكتور ألت: (بالطبع نعم). وأي ألماني لا يجيب بهذا وهم قوم غلبِ صعاب؟
وجاءت سنة 1910 فكانت سنة إرليش الكبرى. ففي يوم من أيام هذه السنة انعقد المؤتمر العلمي في مدينة كونجزبرج
فلما دخله إرليش دوى المكان بالتصفيق الشديد وزاد وحمي حتى خيل أن الناس أصابتهم الحمى، وطال حتى خيل أن إرليش لن يقوم فيُلقي في القوم مقالته. وقام أخيراً فحكى لهم كيف تمهدت السبيل بعد لأي إلى وجدان الرصاصة المسحورة، ووصف لهم داء الزهري اللعين، وقص لهم قصة الرجال الذين انتهى بهم المآل إلى تشوه قطيع ثم موت قبيح، أو انتهى بهم الحال إلى ما هو شر من هذا - إلى مستشفى المجاذيب. لم ينفعهم الزئبق، الزئبق الذي أطعِموه والزئبق الذي دلكوا به والزئبق الذي حُقنوه حتى كادت أسنانهم أن تسقط من لثاهم. حكى لهم حكاية هؤلاء المناحيس وقد انقطع الرجاء منهم، ثم ما هي إلا أن دخلت فيهم إبرة المِحقن واندفع فيهم محلول رقم 606 وانتشر في دمهم حتى نهض المريض وانتصب الراقد. وزادوا في الوزن ثلاثين رطلاً وتطهروا من نجسهم فلم يتحاشاهم الأصدقاء. . . . . .
وقص عليهم قصة رجل جاءه الشفاء كالمعجزة جاء بها بعض الأنبياء: قصة رجل منكود قرض المكروب بلعومه قرضاً وأكل منه أكلاً حتى لم يعد مدخلاً صالحاً للطعام فأطعموه بأنبوبة أطعمة سائلة كي تجري فيها. ومرت به أشهر على هذه الحال. ثم ما هي إلا حقنة واحدة من مركب رقم 606 حقنها في الساعة الثانية بعد الظهر حتى استطاع في العشاء أن يأكل ويزدرد سندتشاية من (السجؤ). ولم تكن الحال قاصرة على الرجال، فمن النساء المساكين زوجات بريئات أصابهن الداء من أزواج ولغوا في الخطيئة. فمن هؤلاء امرأة ألحت عليها الآلام، وبلغت منها العظام، ولازمتها سنين لم تنم لياليها بعض النوم إلا بالمرفين. فهذه عولجت بحقنة واحدة من هذا الدواء فنامت في ليلة ذلك اليوم نوماً هانئاً عميقاً من غير مرفين. معجزة والله وأي معجزة! أي عقار وأي عشب وأي وصفة وصفها العجائز والكنائس وأطباء الدهور منذ الأزل بلغت من الشفاء ما بلغه هذا الدواء! وأي مصل وأي لقاح مما ابتدعه المحدثون من صادة المكروب يبلغ ما بلغه هذا المركب في قتل الجراثيم، أو يقارب في الفتك بها بعض ما فعلته هذه الرصاصة المسحورة الساحرة من القضاء عليها قضاء كأنه تنزل من السماء؟
وهتف الناس لإرليش هتافاً لم يهتفوه لأحد. وهتفوا له هتافاً لم يستحقه استحقاقه أحد. دع عنك ما أثاره في الناس من قبل من آمال كواذب، وتناس ما تلا ذلك من متاعب ومصاعب، واذكر الساعة أنه بكشفه هذا مشى بجماعة البحاث في طريق جديد لفتح مجيد.
تقول علوم الجوامد: لكل فعل رد فعل يساويه ويذهب في ضد اتجاهه. وما يصدق في عالم الجوامد يصدق في عالم الأحياء، وهو يصدق في حياة الرجال من أمثال إرليش. فما كاد يشيع في الناس ما جرى، حتى تجاوبت أرجاء المعمورة تصرخ في طلب هذا الدواء: في طلب المركب رقم 606. فهكذا أسماه إرليش اسماً ضخماً يملأ السمع ويبهر الحساب فلنغفر له طلب الضخامة وحب الفخامة. فقام برتهايم ومساعدوه العشرة في بيت إسباير يصنعون مئات الألوف من جرعات هذه المادة البديعة، ولم يقعدهم أنهم كانوا متعبين منهوكين من طول ما كدوا وجهدوا. وقاموا في هذا البيت الصغير بصناعة مقادير لا ينهض بها إلا المصنع الكبير. وصنعوها في جو مخطر ملئ بالأثير. وصنعوها في خشية من زلة قليلة تحدث في التركيب فتقضي على العدد الكثير الوفير من الرجال والنساء. فالسلفرسان سيف له حدان: حد لقتل الجراثيم، وحد لقتل الإنسان. وإرليش، فما الذي كان من أمره؟ أصبح جلدة على عظمة، وزاده داء السكر سوء. ولم ينقطع عن شرب سجائره الكبيرة وليته لم يفعل. فهذا ما كان من أمره: بالأمس أحرق شمعته من طرفيها، واليوم هو حارقها من وسطها أيضاً
(يتبع)
احمد زكي