مجلة الرسالة/العدد 203/بمناسبة ذكرى المولد
مجلة الرسالة/العدد 203/بمناسبة ذكرى المولد
للأستاذ علي الطنطاوي
احتفل العالم الإسلامي كله أول أمس بذكرى مولد سيد العالم وخاتم النبيين محمد بن عبد الله ﷺ، وهذا الاحتفال يعد فرصة سانحة من فرص الدعوة إلى الإسلام، والسعي في سبيل الإصلاح، تفيدنا فائدة كبيرة إذا نحن عرفنا طريق الاستفادة منها ولم نجعلها قاصرة على إقامة السرادقات الفخمة، وإيقاد آلاف من المصابيح الكهربائية، وإطلاق البارود في الجو، والاجتماع على ترتيل قصة المولد والتطريب فيها، وتلاوة الأغاني والأناشيد، وأكل الحلويات والأنقال، والتسلي واللهو والطرب، وإضاعة الأموال بلا حساب.
وطريق الاستفادة منها، أن يبحث الخاصة من رجال وأولياء الأمر، في مجالسهم واحتفالاتهم أدواء المسلمين اليوم، ويصوروها ويفتشوا عن أدويتها، وأن يضعوا خططاً جديدة للدعوة، ومناهج للعمل المثمر، وأن تشرح السيرة النبوية للعامة في مجامعهم واحتفالاتهم، وينبهوا إلى مواطن العبرة فيها، لأن ذلك هو المراد من الاحتفال بالمولد، لا سرد الأخبار الموضوعة، والعجائب والخرافات، واللهو والطرب، وأن تبين لهم مزايا الإسلام وفوائده، وأصوله ومبادئه، لأن الكثيرين من المسلمين لا يعرفون من الإسلام إلا أسمه، ولا يفرقون بين طبيعة الإسلام وطبائع الأديان الأخرى، ولا يعلمون أن الأديان كلها أديان فقط، بمعنى أنها جاءت بعقائد وعبادات وأخلاق، أما الإسلام فهو دين، وهو تشريع، وهو سياسة، وهو أدب. وانظر في أي مسألة من مسائل الفكر الكبرى، أو أي أمر من أمور الحياة، تر للإسلام رأياً فيه وحكماً، فالتشريع الإسلامي أغزر أو من أغزر وأصفى المنابع التشريعية في العالم. والإسلام قد أقر الحرية الفكرية، ووضع أصول البحث العلمي، بما أمر به من دراسة الكون، والنظر في ملكوت السموات والأرض، والإسلام قد وضع أسس السياسة العامة، والشرع الدولي، والإسلام وحده هو الذي يحل المشكلة الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، وينقذ الإنسانية من استبداد المتمولين، وجحود الفرديين، ومن خيالات الاشتراكيين، وبلاء الشيوعيين، بما جاء به من قواعد حكيمة عادلة للزكاة والمساواة ونظام الحكم. وللإسلام بعد ذلك كله حكمه في كل عمل من أعمال الإنسان، فلا يخلو عمل ع الإطلاق من أن يكون له حكم في الدين وللدين دخل فيه، فيكون مباحاً أو مندوباً أو واجباً أو مكروهاً أو حراماً، ولا يستطيع المسلم أن ينسى الإسلام لحظة أو يمشي بدونه خطوة.
ثم إن هذه الأحكام كلها مساوقة للعقل - موافقة له - سائرة مع العلم. والإسلام يقدر العقل حق قدره، ويجعله الموجب الأول، ويربط المسؤولية والتكليف به، ويخاطبه دائماً ويعتمد عليه ولا يخالفه أبداً. ولم يستطع أحد إلى اليوم ولن يستطيع في الغد أن يجد قضية شرعية قطعية، تناقض قضية عقلية قطعية، فلا يثبت الشرع محالاً في العقل ولا يحل ثابتاً، ولا يخالف أصلاً من الأصول الثابتة في العلم. وأعني بالأصول الثابتة الحقائق والقوانين العلمية، لا الفروض والنظريات وأيسر نظرة يلقيها العاقل البصير على كتب الدين، وأقل إلمامة بعلومه، تثبت هذا الذي ذكرنا.
فإذا كان هذا هو الإسلام، وهذه منزلته من العلم والمدنية فلماذا ينصرف عنه أكثر الشباب؟ إنهم منصرفون عنه لأنهم لا يعرفونه. ومن أين يعرفون وهم لا يدرسون منه في المدارس إلا شيئاً تافهاً لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، ثم إنهم لا يجعلونه ولا يحلونه إلا دون الدروس كلها. وسبب ذلك أن الطلاب إنما يقرءون ويجدون ابتغاء النجاح في الامتحان والدين لا يدخل في امتحان رسمي أبداً لا في الشام ولا مصر ولا العراق. وهذه مناهج الكفاءة وما دونها، والبكالوريا وما فوقها، فيها كل علم إلا علوم الدين. وليس الغرض من حذفها والمانع من إثباتها وجود طلاب غير مسلمين في هذه الامتحانات، فإن ذلك يمكن تلافيه، بأن يمتحن كل طالب في دينه، وتدعى كل أمة إلى كتابها، ولكن ذلك شيء تعمده الأجانب يوم كانت سياسة البلاد وإدارتها ومناهجها في أيديهم وكان أمضى سلاح حاربونا به في ديننا وأبنائنا، فكيف نبقى عليه وقد انتقلت سياسة البلاد ومناهجها إلى أيد وطنية يريد أصحابها الخير لبلادهم والصلاح؟
ثم إن هؤلاء الطلاب إذا خرجوا من المدرسة، وبقي فريق منهم على شيء من التدين وأحبوا أن يطالعوا علوم الإسلام، لم يجدوا كتاباً سهلاً جامعاً بين دفتيه خلاصة ما يجب على الشاب المسلم أن يعرف من أصول الدين وفروعه، وإنما يجدون كتباً في علم الكلام مشحونة بالمجادلات الجوفاء. والرد على ملل قد بادت ونحل قد نسيت منذ مئات السنين، وعرض شبهها وضلالاتها؛ وكتباً في الأصول معقدة غامضة، لا يفهم الشاب شيئاً منها، وكتباً في الفقه مملوءة بالمناقشات اللفظية والفروض البعيدة والاحتمالات الغريبة، لا تكاد تخلو من اختصار مخل أو تطويل ممل، وكتباً في التفسير مطولة ومختصرة فيها كل شيء من نحو وصرف ولغة وبلاغة وتاريخ وفلسفة وإسرائيليات ولكن ليس فيها تفسير واحد يرضي الشاب وينفعه ويجد فيه المراد من الآية ويعينه على التدبر الذي أمر الله به، وكتباً في الحديث مرتبة على غير حاجة العصر مبوبة بحسب أبواب الفقه أو أسماء الرواة، ينصدع رأس الشاب ويفنى صبره قبل أن يصل إلى حديث واحد يفتش عنه ويطلبه، ورسائل في علم المصطلح غامضة فيها تعقيد، وقل مثل ذلك في سائر العلوم. . . وهذه الكتب مؤلفة على طريقة لا تخلو من غرابة وشذوذ، فالكتاب الواحد متن وشرح للمتن، ومختصر للشرح، وشرح للمختصر، وحاشية على شرح المتن، وتقرير على حاشية الشرح. . . . . . ولست أفهم لماذا ارتقت أساليب الكتابة في كافة العلوم وأخذت شكلاً جديداً، ولماذا يؤلف اليوم الكتاب في الأدب على غير ما كان يؤلف عليه قبل خمسين سنة ولا تزال هذه الكتب على ما كانت عليه منذ مئات السنين لم تصل إليها موجة الحياة؟ ولماذا نجد في علماء كل فرع مؤلفين مجددين ولا نكاد نجد في علماء الدين إلا مقلدين مرددين؟ فماذا يصنع الشاب الذي لم يدرس الإسلام في مدرسة ولم يفهم كتبه؟ أيسأل المشايخ؟ إنه إن فعل لم يجد أكثرهم إلا مجلدات تمشي، ليس في ثيابهم وتحت عمائمهم إلا أوراق الكتاب، فهم يسردون عليك ما حفظوا كأنهم يتناولونه من مستودعات أدمغتهم باليد؛ ومن كان منهم ذا فكر جوال، وعقل باحث كان في كثير من الأحيان ضعيفاً في مادته العلمية، فهو يخالف الأولين والآخرين، ويتنكب سبيل الدين. وقليل منهم من جمع إلى العلم، سرعة الفهم، وفهم روح العصر، وحسن مخاطبة الناس. ثم أكثر هؤلاء المشايخ بعيدون عن الأدب ليس لهم في صناعة البيان يد، قل أن ترى فيهم من يعد كاتباً مجيداً، أو لسناً مفوهاً. على أننا بعد هذا كله نخشى أن ينقرض هؤلاء المشايخ ولا نجد لهم خلفاً؛ وعلى أنني لا أحملهم الذنب وحدهم، فالذنب على المسلمين كلهم وليس في الإسلام (رجال دين) مسئولون عنه، وقائمون به، ووكلاء عليه، ولكن رجال الدين عندنا هم كافة أهله وأتباعه، لا فرق في ذلك بين شيخ الإسلام، وأخر مسلم في أفريقيا الوسطى، أو القطب الشمالي. ولو أن أكبر شيخ في حلقته، أو خطيب على منبره، أخطأ في حكم، أو حرف آية، لرد عليه من يحفظ الآية، ويعرف الحكم ولو كان طفلاً صغيراً، أو امرأة. . . وما هذه المرأة بأقل من تلك العجوز، ولا هذا الخطيب بأجل من عمر؟
ثم إن الشبان المسلمين كلهم يذكرون الإعجاز ويعتقدون به، ولكن من منهم يعرف أوجه الإعجاز على حقيقتها. وإذا أراد أن يفهمها ففي أي كتاب يجدها؟ بل من منهم يفهم القرآن فهماً صحيحاً يتجاوز التفسير العادي؟ بل كم من الناس يعرفون تفسيره العادي، وكم منهم يسمعه ليعتبر ويتدبر؟ ألا يسمع أكثر المسلمين القرآن ليطربوا بنغماته وأصوات تلاوته؟
وكلنا يعتقد بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن أي دولة بل أي جمعية إسلامية حاولت أن تستخلص من كتب الفقه ونظريات الفقهاء قانوناً مدنياً ينطبق على عصرنا الحاضر؛ ويكون تتمة العمل الكبير الذي بدأ بوضع (مجلة الأحكام الشرعية) وفي الفقه متسع لهذا العمل، وفي إنجازه إنقاذ البلاد الإسلامية من الحكم بغير ما أنزل الله، والتعرض لما ورد في ذلك من الوعيد الشديد، فضلاً عما فيه من المس بالكرامة الوطنية، والسيادة القومية؟
ومن حاول أن يؤلف في بيان رأي الإسلام في الاشتراكية وموقفه منها، وحكمه في الديمقراطية وأساليب الحكم المعروفة؟
أليس اغتنام فرصة ذكرى المولد الشريف للبحث في هذا وشبهه جزءاً من هذه الحفلات التي لا معنى لها، والمظاهر التي لا طائل تحتها؟
وإني لأرجو نمن الله - لما أرى من انصراف مصر علمائها وأدبائها وشبابها المثقف إلى الإسلام وإقبالها عليه - أن يكون يوم ذكرى المولد من هذا العام، فاتحة عهد جديد في تاريخ الإسلام، كما كان يوم المولد الشريف، فاتحة عهد جديد في تاريخ العالم.
(بغداد)
علي الطنطاوي