مجلة الرسالة/العدد 202/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 202/رسالة الفن
ليوناردو دافينشي
الرجل الكامل
للدكتور أحمد موسى
- 1 -
من أزهى عصور الفن في أوربا عصر الرفعة الإيطالية الذي اتجه فيه الفن منذ بدء القرن السادس عشر اتجاهاً مثلياً سواء في التحت أو التصوير.
وكان الميل كله منصبا على التعبير عن المثل الأعلى في النحت، وكان العطش نحو الكمال الفني بالغاً أشده، الأمر الذي ترتب عليه اتجاه الفنانين إلى الجمع بين الجمال السامي وبين المشاهد الحية:
فعمل الفنانون العارفون على دراسة الفن الإغريقي والتبحر فيه والغوص إلى أعماقه، مستلهمين منه الوحي، ساعين وراء درره الفذة، التي لولاها لما أمكن وصول الفن في عصر الأحياء إلى ما وصل إليه، مما يحار المشاهد في تعليل المقدرة الهائلة التي ذهبت به إلى هذه الناحية العالية، التي كانت ولا تزال رمزاً يتجه إليه الفنانون والعاشقون بكليتهم وبوجدانهم.
وعلى ذلك لا مناص من اعتبار عصر الرفعة عصر إحياء للفن الكلاسيكي في جوهره، واقتباس منه في مظهره، ورجوع إليه في أساسه، واستلهام منه في خياله.
ويرى المشاهد لما تركه أساطين الفن في القرن السادس عشر بإيطاليا، أن الغاية كانت الوصول إلى أسمى واكمل تكوين كلي، وأرفع وأجمل مجموع إنشائي، كما يلاحظ أن التصوير الزيتي أصبح تصويراً تاريخيا أكثر منه اجتماعيا أو منظرياً.
ولم يفز بدرجة الوصول في القرن السادس عشر إلا ثلاثة هم: ليوناردو، وميكيلانجلو، ورفائيل.
وإذا كنا قد تخيرنا اليوم ليوناردو دافينشي، فإن ذلك راجع إلى أنه المؤسس لهذا الاتجاه العظيم. فكان بذلك النابغة الفذ، الذي لم يماثله في نبوغه أحد من معاصريه، فقد جمع إلى القدرة الفنية، الإحاطة بالهندسة والرياضة والعلوم الطبيعية والميكانيكا التطبيقية والموسيقى والشعر، كما كان مهندساً معمارياً قديراً ومثالا ومصوراً.
وعرف عنه أنه كان جميل الخلق جميل الطلعة نبيل الأصل، فلا غرابة إذا أطلق عليه المؤرخون (الرجل الكامل. كتب في كثير من الأبحاث، وله فيها آثار جليلة، من أهمها لتاريخ الفن كتاباه البديعان (قواعد علم التصوير)، و (الصناعة والجمال). ولكن جوهر حياته، وأعظم ما أنتج ووصل إلى الذروة فيه كان التصوير الذي اتخذه مهنة له عاش من أجله لتأدية رسالته فيه.
أما مميزاته الفنية فكانت المعرفة والمقدرة والخلق إلى أبعد حدود معانيها كلها. أما المعرفة فقد وصل فيها إلى حدود الدهشة فأحاط بالطبيعة إحاطة غريبة، لاسيما إلمامه بطبيعة الإنسان من الناحية التشريحية والفسيوجنومية، أعن ما يفهم من إشارات الأيدي وأوضاعها، وما تعبر عنه كل إشارة وما يقصد بكل وضع لها، ودرس حياة الحيوان وحياة النبات، وأخيرا المناظر الطبيعية الشاملة لكليهما، فضلا عن محبته العظيمة للحيوانات، ورغبته البالغة في مراقبتها ودراستها.
كان له الفضل في تأسيس منهج جديد في التصوير فجعله نابضا بالحياة، كما خلق فيه الظل والنور الممزوجين كالدخان فخلا كلاهما من خطوط التحديد، وأصبح النور مندمجاً في الظل متداخلا فيه لا يستطيع الناظر إليه أن يحدد موضع الفصل بينهما.
ووصل بتسجيله للواقع إلى أبدع ما يمكن الوصول إليه وهو المثل الأعلى في الجمال، وكان التكوين الكلاسيكي مذهبه، كما كان الانسجام روح هذا المذهب.
وتوفر معنى الأستاذية في الإنشاء الموضوعي لكل لوحاته، لعمق بحثه، ورقة تأثره، وبعده عن العنف التكويني إلا في بعض لوحاته التي أصدرها في المرحلة الأخيرة من حياته، فخلق بريشته شعراً منثوراً، يذهب بالمشاهد إلى استماع العاشق بالقرب عن معشوقه، كما لا يحرم المعشوق من كل معاني المديح والإطراء، فتراه يظهر أجسام النساء جميلة صحيحة منسجمة التكوين بعيدة عن التكلف أو التعمد.
ولد ليوناردو سنة 1452 في فيلا فينشي في حدود مقاطعة فيرنزا (فلورنسا)، جاء صغيرا مع أبيه بيرو دافينشي إلى فلورنسا العاصمة، وتربى تربية علمية إلى أن التحق بالعمل عند اندريا فيروتشيو، واستمر لديه حتى سافر إلى روما في مارس سنة 1480، وأقام فيها إلى يوليو سنة 1481 ثم عاد إلى فلورنسا.
على أن لوحات ليوناردو الأولى ليست معروفة كلها، وقد أحاط بها شيء من الغموض لا يمكننا من تناولها جميعها بالفحص الوصف. ولكن هذا لا يمنع من أن نذكر أهم لوحتين له في مرحلته الفنية الأولى، وكلتاهما تمثل (التبشير)، توجد الأولى باللوفر ومؤرخة سنة 1470، والثانية بالجاليري أو في فيتزي بفلورنسا مؤرخة سنة 1472، وفيها ترى العذراء جالسة إلى مدخل بيتها وعلى يسار اللوحة ركع ملاك يبشرها بالمسيح، وفي مؤخر المنظر مجموعة أشجار ذات لون طبيعي جميل.
وله أيضاً جزء من لوحة معلمه فيروتشيو (تعميد المسيح)، قام ليوناردو بتصوير الملاك عليها، وهي محفوظة بأكاديمي فلورنسا وصورة العذراء مع الطفل (متحف ميونيخ) 1478، وقيامة المسيح مع القديس ليوناردو والقديسة لوتشيا (جاليري برلين) وصلاة الملوك الثلاثة للمسيح، وهي صورة لهيكل كنيسة عملت لوضع الفكرة والتصميم باللون الأسمر (جاليري الفاتيكان). ولعل آخر صورتين للمرحلة الأولى في خلقه الفني هما الصورتان المتشابهتان اسما وموضوعا (الماذونا في المغامرة)، الأولى من ناسيونال جاليري بلندن والثانية ش1 - باللوفر. والناظر إلى هذه اللوحة تأخذه لأول وهلة روعة القوة الإنسانية، وإحاطة ليوناردو بالمظاهر الطبيعية والتأثر بها؛ فالمغامرة الجميلة مجسمة صادقة المحاكاة، وأوراق الشجر حية دقيقة التفاصيل، هذا إلى جانب تصويره لطبقات الأرض على شاطئ الغدير فجعلها تحاكي النظرية الجيولوجية محاكاة علمية.
انظر إلى ركعة العذراء، وإلى الطهارة المتجلية في ملامح وجهها، ثم تأمل قوة الإخراج الرائعة لملابسها، وشاهد الظل والنور الذي تخلل انكسار هذه الملابس، ولاحظ الطريقة الفذة التي أخرج بها اليد اليسرى للعذراء وهي تشير للملاك، ثم تأمل إلى جانب هذا، الحنان الفائق الذي يتمثل في الكيفية التي أمسكت العذراء بها الطفل الجالس إلى يمينها.
وقف الملاك راكعا خلف المسيح الطفل يشير بيمناه إلى طفل آخر يصلي أمامه، والمتأمل لوجه الملاك لا يستطيع إلا أن يرى فيه سحرا يبعث في النفس كل معاني التقديس للملائكة، ولعلك إذا قارنت بين نظرة العذراء إلى اسفل، ونظرة الملاك إلى المشاهد ترى أنك لا تعرف أيهما أروع، فأنت تحار في هذه القوة الخارقة التي وهبها ليوناردو والتي لم تكن لغيره من معاصريه.
انظر إلى اللوحة نظرة محيطة، واجتهد أن تتذوق ما فيها من تفاصيل، وارجع بفكرك إلى علم النبات، تر أن الفنان قد أعطانا فكرة رائعة عن جمال الأشجار من كبيرة وصغيرة، تأمل أوراق الشجر تر أنها كلها مع صدقها في محاكاة الطبيعة مختلفة التكوين والشكل، وهذا دليل على التفوق والإحاطة
(له بقية)
أحمد موسى