مجلة الرسالة/العدد 20/المعالي. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 20/المعالي. . .

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 11 - 1933



للدكتور محمد عوض محمد

الآن وقد بلغت ربوع الألب أيها الصديق!، فما أجدرك أن تلقي عصاك حينا، ثم تنعم النظر فيما حولك من خلق عجيب، ومن روعة آخذة بالألباب. . . . في هذا الجزء الصغير الجليل من العالم أرادت الأرض أن تسمو وتعلو. . أتراها كانت تريد أن تبلغ السماوات، ثم لم تلبث أن رأت هذا السمو قد أبلغها الزمهرير المهلك القارس، فجمد في صدرها الأمل والطموح، واكتفت من الارتقاء بشيء لعلها تراه قليلا، ونراه نحن جليلا؟. وأيا كان ذلك السر الغامض الذي جاش به صدر الأرض، وأياً كان مطمحها البعيد أو القريب، فحسبي الآن وحسبك ما نتأمله فيها من حسن وما ننعم به من جمال.

في هذه البقعة المباركة رفعت الأرض مناكبها، وأمعنت في الارتفاع، وصعدت أعلامها في الهواء وأسرفت في الصعود. واصطدمت السحب بهذه الأطواد الشامخة فسالت السحب غيثا مدراراً، وانحدر الغيث على جوانبها جداول وأنهارا. ثم اجتمع الماء من كل ناحية في هذه البطائح المطمئنة، ولم يزل يجتمع حتى استحال إلى هذه البحيرات البديعة، وقد نزلت اليوم على ضفاف واحدة منها. فراعك حسنها الهائل، وفتنتك عيونها الساحرة، واستهواك قوامها الرشيق، وخدها الأسيل. . . ولقد بهرك منها بنوع خاص هذا الجمال المتجدد في كل لحظة، إذ تبدو لك الصبح في لون، والأصيل في لون، وتبدل في كل آونة ثوبا. . . أرأيت يا صديقي، كيف حرت في أمرك وأمرها، فما تدري أي ألوانها أحب إلى قلبك، وأي أشكالها أشد امتلاكا لعقلك؟

أمنظرها وقت الشروق، وهي هادئة وادعة، وقد انطبعت في صفحتها البلورية الملساء صورة مبهمة قاتمة للجبال الشاهقة التي تحيط بها، وقد حالت الجبال دون وصول أشعة الشمس. فلم ينفذ إلى البحيرة من نورها سوى ضياء هادئ رقيق، يبدي لك من الكون ما حسن، ويخفى منه ما ليس بالحسن. ولولا أني أخشاك يا صديقي لقلت لك أن البحيرة في تلك اللحظة تشبه الحسناء حين تستيقظ من النعاس، ولكني أحسبك لا تعبأ بمثل هذا التشبيه. . .

أم منظرها وقت الظهيرة، حين تظلها سماء صافية زرقاء، وتبدو الجبال من حولها. وقد زهت بثوبها السندسي الأخضر. . فبدت لك البحيرة في رداء عجيب: في مزيج من فيروز السماء ومن زمرد المروج الخضراء؟

أم منظرها وقد مالت الشمس للمغيب، وقد اشتمل الكون برداء مصفر حزين، وامتدت الظلال وأمعنت في الامتداد؛ وآوت الطير إلى وكورها وخففت من غلوائها. ولاحت لك البحيرة وقد تمثل فيها كل هذا الهدوء الحزين، وعلى محياها ذلك الشحوب الفاتن. في هذه الساعة القصيرة تتبدل تلك الألوان والشكول بسرعة هائلة، فلا تكاد العين أن تقع على منظر حتى يحول ويتغير.

قل لي أيها الصديق! أما استهواك منظر هذه الأطوار التي أحدقت بالبحيرة من كل جانب، وقد اختفى تحت الماء منها شطر وحلق في السماء شطر. فأما شطرها البادي للعيون فقد اكتسى بغطاء محكم من النجم والشجر؛ وأما شطرها الذي غمره ماء البحيرة فانه عار، ومن عناية الأقدار أن غمرته المياه فسترته عن العيون.

ولكن حدثني يا صاح أي هذين الشطرين قد شاقك أمره، فتاقت نفسك إلى إدراك غامضة واجتلاء ما خفي منه؟ هل خطر لك أن تغوص إلى أعماق هذه البحيرة حتى تبلغ أقصى أصول تلك الجبال، فتطلع على ما خفي من سرها، وما أبهم من أمرها؟ أم شاقك منظر هذه القمم الصاعدة في السماء فأردت أن تبلغ ذراها؟ ني لا أظنك تحاول الأولى؛ فقليل من الناس من تستهويه الأعماق البعيدة، فيحاول أن يغوص إليها. ونحن ذوو أحلام ضحلة، لا نجد في البحث العميق إلا عناء ونصبا. وسنبقى مدى الدهر قانعين بالظواهر تخدعنا وتقنعنا.

أما هذه القمم العالية، فأنك تراها أمامك كل حين، تبصرها عندما تستيقظ وتشرف عليك من سمائها النهار كله، وتبدو لعينيك في الليل البهيم مظلمة قاتمة، غامضة رهيبة، لكنها على هذا كله جذابة أبدا. . . . وأحسبك قد استهواك أمرها، وحدثتك نفسك بالصعود إليها. وفي كل نفس دافع ملح يدفعها أبدا إلى المعالي، ويجشمها في سبيلها الصعاب.

وكأني بك، أيها الصديق، وقد جلست فوق صخرة مشرفة على البحيرة وجعلت تتأمل هذه القمم، فتحس شوقا قد تملك قلبك، وضراما متوقدا يستثير همتك إلى صعود هذه الجبال، وبلوغ تلك المعالي. . . أنك تريد أن تسمو حيث يحلق العقاب، ويسبح السحاب، حيث تنشق ذلك الهواء النقي الزكي، الذي تنشقه البزاة والنسور؛ لا هذا الهواء الأسفل الذي امتلأ بالأدران والأكدار، حيث تنظر من تلك القمم مطلا على هذه الأجساد التي تتحرك على أديم الثرى، فتراها من ذلك الارتفاع الشاهق على حقيقتها، فإذا هي في عينيك دود يزحف، أو حشرات تحبو.

إن بلوغ تلك القمم لخليق حقاً بأن يكون مطمح العين، ومنية النفس. ولا حرج عليك إن كنت قد شغفك حب تلك المعالي وأهمك التفكير فيها. فطوراً يحملك الأمل على جناحيه، ويحلق بك في جو السماء، فتحُال المرام قريبا، وأنه منك قاب قوسين؛ وطورا يثوب إليك الرشد، فتفكر وتقدر، وتقارن بين همتك وقدرتك. . فلا تزال بين ارتفاع وهبوط، وإقدام وإحجام.

ثم كأني أراك بعد ذلك وقد قطبت جبينك، وعضضت على نواجذك؟ فهل صح عزمك على أن تجشم النفس هذا العناء الثقيل وهذا الجهاد الطويل؟ لئن كانت تلك عزمتك التي عزمت، فهل تعلم أي الطرق تسلك كي تبلغ مأربك؟

إن لهذه القمم التي تراها حديثاً شيقاً طليا، سأحاول الآن أن أسر إليك خبره. فلعلك واجد فيه عونا على النجاح أو سلوانا عن الإخفاق. . . .

إن الناس أيها الصديق يبلغون تلك المعالي من طرق ثلاثة، ليس لها رابع: فأما الطريق الأول فسبيل معبد ممهد، تحف به الرياحين، وتجري حوله الآنهار، وقد نبت فيه العشب الندي، وأحاط به الثمر الجني، وأعجب ما في هذا الطريق أن سالكه لا يكاد أن يسير فيه خطوات قلائل، حتى يبلغ مأربه، كأنما الغاية تسعى إليه ولا يسعى إليها، أو كأن الطريق يحمله حملا يبلغه مرامه. فما هو إلا أن يغمض طرفه ثم يفتحه، فإذا الأماني قد تحققت، والمعالي قد دنت ودانت.

وأظنك تعلم يا صديقي أن ليس لأمثالك وأمثالي أن يسلكوا هذا الطريق؛ وأحسبك تعلم أنه مما اختص به أولئك المجدودون، الذين ولدوا في حجر النعيم، ورعتهم نجوم السعد، وحرستهم عين المشتري، وهزت أرجوحتهم يد الزهرة: وفي وسعهم إن شاءوا أن ينزلوا إلى القمة نزولا، حين يحاول الناس أن يصعدوا إليها صعودا. ما من سبيل إلى مجاراتهم أو اللحاق بهم، فلندعهم ولننظر هل لدينا من طريق سواه.

أما الطريق الثاني فلعله أعجب من الأول وأغرب، فهو طريق خفي، شديد الخفاء. غامض كل الغموض، لا ترى له بدءا ولا تعلم له اتجاها. . ملتو غاية الالتواء، معوج شديد الاعوجاج وسالكوه قوم قد رزقوا البراعة والمهارة. فهم تارة يثبون ويقفزون، وتارة يزحفون أو يحبون ويركعون ويسجدون، وطورا يسلكون طرقا مظلمة حالكة، وأحياناً يخوضون في الرجس والدنس. لا تثنيهم رداءة الطريق ولا وعورته، ولا اعوجاجه والتواؤه، وما أنت يا صاح من هذه الشرذمة التي تصل إلى القمة من أقذر السبل. فما أجدرك أن تدع هذا الطريق وتبحث عن سواه.

لم يبق غير سبيل واحد لا مندوحة لك عنه: وذاك هو الطريق الذي يدعوه أهل تلك النواحي (طريق البغال): أسم ستنبو عنه أذنك، وتشمئز منه نفسك. وسترفع رأسك إلى السماء كبرا وأنفة أن تنزل إلى هذا الدرك. أو تنحط إلى هذا المستوى. . . لكن رويدا فليس في الأمر نزول ولا انحطاط، وإنما هو صعود وارتفاع وارتقاء، وقد ينتهي بك إلى القمة التي تنشدها. فلتخفف إذن من غلوائك، واذكر انهم يدعون هذا الطريق بالفرنسية ويسميه الإنجليز - والألمان وأظنك بعد أن تردد هذا الاسم في هذه اللغات جميعا. سيصبح في أذنيك عذبا لذيذا سائغا.

ولئن كان في الاسم ما ينفر السمع، فليس في المسمى ما يبعث على النفور. ولعمري (بل ولعمرك أنت أيضا) انه لأشرف السبل وأمثلها، وأصفاها وأطهرها، وان كان طويلا مضنيا مجهداً. فإذا كنت تريد المضي فيما عزمت عليه، وتحاول الصعود إلى تلك المعالي، فمحال على مثلك أن يسلك الطريق الأول، وأنت أعف قلبا وأنبل نفسا من أن تسلك الطريق الثاني. إذن لا رأى إلا أن تسلك ثالث الطرق، أو تنثني عن مرامك، وتقنع بالإقامة في السفح، مكتفياً من القمة بالتطلع إليها والتحديق فيها. . .

طريق البغال هذا سكة اختطوها على جوانب الجبال، كي يستطيع الرعاة والزراع أن يسيروا فيها ببغالهم وماشيتهم، وكثيرا ما تصعد فيها البغال منفردة، وهي تحمل للناس أثقالهم من موضع إلى موضع. وقد علمها إلف هذا الطريق كيف تسلكه من غير مرشد يرشدها، أو سائق يسوقها.

في هذا الطريق إذن فليسر من ينشد القمة، وأنا زعيم أنه إذا أوتي القوة والجلد، ورزق الجد والدأب، واستطاع أن يصبر على ما يلقاه من عنت وجهد، وأن يثبت للشدائد التي تنتابه، وللعقبات التي تعترضه، ولم يدع لليأس سبيلا إلى قلبه، وأمدته العناية بشيء قليل من المساعدة، فانه واصل إلى الغاية مهما طال به المسير.

إن هذا الطريق واضح بين المنهج، من سار فيه فلن يضل السبيل. . لكنه على وضوحه وبيانه، ليس سهلاً هيناً، ومتى كان الطريق إلى القمة سهلا يا صديقي؟ فالسائر في هذا الطريق سيجد فيه غلظة وخشونة، فان الأيدي لم تتناوله بالرصف والتمهيد، وحصباؤه خشنة مدببة، لا ترتاح لمسها الأقدام، وقد يصادفك فيه الحين بعد الحين، صخر ناتئ أو شجرة مائلة تعترضك، فلابد لك أن تطأطئ الرأس قليلاً، أو تدور من حول تلك العقبات، أو تحتمل الجرح الذي يصيبك حين يصدمك الصخر الناتئ، أو الجذع المائل، وكثيراً ما يحف بك الشوك ذات اليمين وذات الشمال، فيخدش ساقيك خدشاً ربما أسال منهما الدم قليلا أو كثيرا. . ولا غرابة في هذا كله مادمت تسلك هذا الطريق: طريق البغال!

ولقد تقطع في سيرك الأميال العديدة. فلا تصيب فيه قوتاً ولا شراباً، فتجتزئ بالقليل من خشن الزاد الذي احتقبته، وتصبر على الظمأ والجوع، وفي قلبك من الجلد والإيمان ما يعين على كل هذا الحرمان. . وقد يسعدك الجد بعد طول السير والعناء فتصادف وسط الصخور نبعاً ضئيلاً هزيلاً، فتهش له وتبش وتراه كأنه دجلة أو الفرات، أو الكوثر المقدس. فتبسط إليه كفيك، تتخذ منهما قدحاً تملؤه كي تبرد به لهاتك. ثم ترى أن هذه الوسيلة لا تغني فتنحني نحو الينبوع، ثم لا تزال تنحني حتى ترتمي على يديك ورجليك، وتمد نحو الماء فماً قد جمده طول الظمأ، فلا تزال تعب الماء عبا، وتصبه في جوفك صبا، وتشرب وأنت على أربع حتى تروي غلتك، ولا تسل عن منظرك البديع في تلك اللحظة، ولكن أي غرابة في هذا وأنت تمشي في طريق البغال؟

وقد تكون الطريق في بعض نواحيها سهلة ممهدة يحف بها شجر عال فيه للطير وكور. وكأني بك وقد أطلت عليك من فرع غصينها المياد قبرة صغيرة حديثة عهد بالعالم، ولم تشاهد قبلك إنسانا يمشي على رجلين، فتدهش لرؤية هذا الكائن الغريب في طريق ما رأت به من قبل إلا الدواب، فتسرع إلى أمها وتهيب بها: (أماه! إن بالطريق بغلا جديداً ما رأيت من قبل له شبيها، يمشي على رجليه الخلفيتين، رافعاً رأسه إلى أعلى!. .) فعند ذلك تقول لها أمها العجوز: (ليس هذا يا ابنتي بغلا بل هو من أبناء آدم، فان أبصرته فابتعدي عنه، واختفى عن عينيه، فانه ليس بالمأمون جانبه.).

هذا بعض ما يقال عنك أيها الصديق وأنت بذلك الطريق. ولو كشف عنك الغطاء فأفهمت ما تتحدث به عنك الأرانب في جحورها والوزغ بين صخورها. إذن لتبسمت ضاحكا من قولها كما فعل سليمان، ولأدركت أن مسيرك هذا لا يخلو من عبث ولهو وتسلية.

ولكن حذار يا صديقي مما قد تلقاه من حشرات فتاكة. فان بالطريق أفاعي وعقارب، قد فاضت صدورها حقداً وضغينة، وهي تعشق الأذى حبا في الأذى , فان مسك منها ضر ذهبت جهودك كلها عبثا، أو تخلفت بالطريق زمنا طويلا. فامش إذن في تؤدة واحتراس، لعلك تسلم من حممها وسمومها.

والآن قد وصفت لك الطريق إلى القمة فسر فيه على اليمن والبركة. . . بيد أني لا أريد أن أكتمك أن سالك هذا السبيل قد لا يبلغ من مرامه أو ينال من بغيته إلا قدرا زهيدا. فقد يدركه الإعياء حين يعجز الجسد عن مراد الروح، وتخور القوى والأمل في عنفوانه. أو قد تعترضه عقبة كؤود أو هوة ليس إلى اجتيازها سبيل. أو قد تناله تلك الحشرات الفتاكة بسوء، فإذا أصابك هذا (بعضه أو كله) فلا تذهب نفسك حسرات على ما لم تبلغ ولم تنل، وحسبك أنك لم تزل برغم الإخفاق موفور الشرف عزيز الجانب، لم ترتكب في سبيل تلك القمة إثما ولم يدنس لك ثوب. . .

وإلا فهل تؤثر البقاء في السفح؟