مجلة الرسالة/العدد 2/مسارح الأذهان
مجلة الرسالة/العدد 2/مسارح الأذهان
مشروع القرش - دلالته على مبدأ التضامن القوي
للدكتور محمد حسين هيكل بك
أذاعت جماعة مشروع القرش في العام الماضي أكثر من نشرة كتب فيها كبار الكتاب وذوي الرأي حتى لقد أصبح الإنسان يشعر حين يفكر في كتابة شيء جديد للمشروع وأصحابه بشيء من المشقة غير قليل. ذلك شأني على الأقل لأنني لا أريد أن أتناول موضوعا إلا أن يكون له مساس أو اتصال بالقرش ومشروعه. وقد طلبت إلى جماعة القرش منذ اعتزمت إصدار هذا العدد من (الرسالة) أن أكتب ففكرت وفكرت وفكرت حتى انتهيت أخيرا إلى ما اكتب اليوم عن دلالة هذا المشروع من ناحية الاتجاه الاقتصادي وتأييده لمبدأ التضامن الاقتصادي على غيره من المبادئ وتأييده لهذا المبدأ في حدود الاقتصاد القومي اكثر من تأييده إياه في المدى الواسع الذي يعتبر العالم كله وحدة اقتصادية يجب أن تعمها روح التضامن من غير تقيد بالتفكير القومي ومن غير خضوع للمبادئ الاشتراكية المتطرفة.
أنا لا أظن أن الذين بدءوا التفكير في مشروع القرش بدءوه متأثرين بهذا المبدأ الاقتصادي أو ذاك. بل أغلب الظن أنهم بدءوه متأثرين بخضوع مصر الاقتصادي لغيرها من الأمم خضوعا تستطيع بشيء من المثابرة أن تتخلص من نيره. وإذن فهي فكرة الاستقلال الاقتصادي تدفع إليها عاطفة وطنية كالعاطفة التي دفعت إلى النهضة في سبيل الاقتصاد السياسي هي التي حركت في نفوس السابقين إلى فكرة مشروع القرش الدعوة إلى مشروعهم وإبرازه من حيز الفكرة إلى حيز العمل. لكن ذلك لا يغير شيئا من دلالة المشروع على نحو ما قدمنا بل هو يزيده تأييدا. فلو أن فكرة الاستقلال الاقتصادي وحدها هي التي كانت الدافع والمحرك ولم تخلطها فكرة التضامن القومي لرأينا الدعوة إلى هذا الاستقلال تلبس ثوبا آخر وتظهر في صورة أخرى. ومن قبل دعا الداعون إلى تأليف شركة لإنشاء بنك مصر تحقيقا لفكرة الاستقلال الاقتصادي ونجحت الدعوة نجاحها الب ومن قبل فكر بنك مصر وألف الشركات المختلفة التي يساهم فيها ويشرف عليها وكان لها من التوفيق الحظ الأكبر. وفي هذه الظروف جميعا كانت فكرة الاستقلال الاقتصادي هي الحافز الأول، وكانت العاطفة الوطنية التي تطمح إلى هذا الاستقلال طموحا صادقا هي اكبر عون على الاكتتاب ثم على النجاح.
وكان ممكناً إنشاء مصنع للطرابيش على الطريقة التي أنشئت بها شركة غزل ونسج القطن، وشركة مصايد الأسماك، وكان ممكناً إنشاء مصنع للأصواف بالطريقة ذاتها. لكن مشروع القرش تأثر بالفكرة التي قدمنا فوجهته في سبيل الاستقلال الاقتصادي وجهة جديدة! وجهة تضامن عام في حدود الاقتصاد القومي لا يطبعها الطابع الفردي الذي يطبع الشركات المختلفة التي تصبو أولا وبالذات إلى الربح، بل يطبعها طابع الإيثار من جامعي القرش ومؤلفيه ومنظمي استثماره الإيثار الذي يجعل المرء يحب لغيره ما يحب لنفسه ويعمل لخير غيره بمقدار ما يعمل لخير نفسه، وان كان إيثارا محدودا بالحدود القومية. ولهذا الإيثار القومي عذره وفضله. له عذره في أنه رد فعل طبيعي لثائرة الغرب وحرصه في أن يستأثر بخيرات العالم كله وأرزاقه تاركا للشرق ما يكفي لإقامة حياته كي يجد ويشتغل أجيراً لحساب الغرب الذي يؤيد أثرته هذه بالمدفع والغواصة والطيارة وله فضله في أنه إنهاض قومي لمصر كي تشعر بما تقدر عليه من غير كبير مشقة أو تضحية. وإنهاض يقوم به شبابها فتيات وشبابا لخير الوطن غير ناظرين جزاء ألا أنهم أدوا للوطن خدمة شعروا بأن أداءها واجب عليهم.
والشعور بالتضامن الاقتصادي على الوجه الذي يلقى شباب القرش على الناس درسه مقدمة لحيوية قوية تربط الأمة بروابط التضامن الأكيدة فيما سوى الميدان الاقتصادي من مرافق حياتها. فالرجل الذي يدفع القرش ويلبس طربوشاً
مصرياً بثمن معتدل يشعر بأنه يؤدي خدمة وطنية تعود عليه هو في الوقت نفسه بفائدة سريعة. وهذه إحدى فضائل التضامن في كل شيء. وهذا الشعور يجعل كل مصري يقدر أن كل خدمة يؤديها الإنسان لوطنه وكل قرش يدفعه له يعود عليه وعلى أمثاله بفائدة مضاعفة لما دفع. فكما أن قرشك الذي دفعته في العام الماضي سيجعلك تلبس الطربوش تدفع ثمنه خمسة عشر قرشا بدلا من خمسين كذلك يجب أن تسأل عن كل قرش تدفعه ماذا يعود عليك أو على الوطن من نفعه؟ فإذا لم يعد بمثل هذه الفائدة المضاعفة فاعلم أن الذين ائتمنوا عليه يغتالونه وأنهم لذلك غير أمناء، وانهم لا يقدرون معنى التضامن القومي وواجبهم إزاءه بل يقدرون فائدتهم الشخصية ناسين فائدة مواطنيهم، ناسين بذلك فائدة الوطن، مضحين بمصالحه في سبيل منافعهم الذاتية، وفي سبيل وصولهم السريع إلى الثروة على حساب غيرهم.
إذا صدقت رسالة مشروع القرش التي قدمنا وكانت بشيرا بتقدير المصريين لمبدأ التضامن ولو في الحدود القومية فقد آن للمصريين أن يستبشروا حقا بمستقبل قريب تتطور فيه النظرة إلى الحياة من مختلف نواحيها تطوراً محسوساً. فنظرية التضامن لا تقف عند الميدان الاقتصادي بل تمتد به إلى ميادين النشاط جميعا، وفي مقدمتها ميدان الإنتاج الفكري والفني. ونظرية التضامن لا يحدها زمن، بل هي تقوم على أساس أن الثروة المادية والثروة المعنوية لأمة من الأمم هما جميعا ثمرة مجهود الأجيال المتعاقبة، وأن لأهل القبور فيها نصيبا اكثر مما لأهل الدور، وأننا جميعا وحدة متماسكة في السعي والعمل بدأت من أول الزمن إن كان للزمن أول وتستمر على الزمن ما بقى الزمن. فإذا وقر الشعور بهذا الرأي في النفوس كان من آثاره أن يحس كل بأنه مدين للمجموع اكثر مما هو دائن له، وان تضامنه مع المجموع في المجهود العائد على المجموع وعليه بالفائدة من خضوعه لسلطان الأنانية الغرور. وهنالك يشعر حقا بان واجباً عليه أن يبني لا أن يهدم، وأن يكون منتجا اكثر منه مستهلكا؛ وأن يعمل لخير غيره عمله لخير نفسه. وهنالك تزول البغضاء من النفوس فتحل محلها المحبة وتتلاشى فكرة التنافس لتقوم مقامها فكرة التعاون ويقضي في النفوس على شهوات الحقد والغيرة والغرور الكاذب لتقوم مقامها فضائل العطف والحنو والتواضع الجميل. وأنت قدير متى صورت هذا التطور كله لنفسك أن تصور الشجاعة الجديدة التي تغمر وادينا الخصب الجميل وان تقدر سعة الخطوات التي تخطو في سبيل الحق والخير والسعادة.
لعل شبان القرش وفتيانه يوافقونني على أن هذه النوازع النفسية الجميلة تجول بخواطرهم مبهمة عند البعض أقل إبهاما عند الآخرين ولعلهم إذا خلوا إلى أنفسهم وفكروا في الأمر يرون أنهم لم يفتحوا عهد مصنع الطرابيش أو مصنع الصوف وكفى، وإنما هم يفتحون السبيل إلى طور جديد يريدون أن يطبعوا به حياة وطنهم. ولعلهم يقدرون عظمة هذا التطور الجديد وعظمة ما يجب على الشباب من مجهود تنهض بعدته أجيال الشباب المتعاقبة لتزيده قوة وإثماراً. ثم لعلهم يحسون أن في الحياة قرشاً غير القرش المادي الذي أدفعه من جيبي. فيها القرش المعنوي والقرش الروحي الذي يعاون على إذكاء معنى التضامن الروحي في النفوس بمقدار ما يعاون القرش المادي على تحقيق معنى التضامن الوطني في الحياة الاقتصادية. هذا القرش المعنوي، وهذا القرش الروحي، الذي يستطيع كل مصري أن يؤديه استطاعته أداء القرش المادي.
- في أي ناحية يجب أن ينفق وأي مصنع يجب أن يقدم كأثر من آثاره؟! هذا ما أترك للشباب البحث فيه ويقيني أنهم مهتدون إلى خير ما يثمر البحث في هذه الناحية كما اهتدوا إلى خير ما أثمر البحث في ناحية القرش. وهم اقدر على تصوير التضامن المعنوي والتضامن الروحي وما يثمران!. .