انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 2/في الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 2/في الأدب العَرَبيّ

​حلقات الأدب في الفسطاط​ المؤلف محمد عبد الله عنان
في الأدب العَرَبيّ
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 02 - 1933



حلقات الأدب في الفسطاط

للأستاذ محمد عبد الله عنان

(2)

لبثت الفسطاط عاصمة الإسلام في مصر منذ قيامها سنة 21 هـ (641م) حتى سنة 358هـ (969م). وفي ذلك العام كان الفتح الفاطمي، وكان قيام القاهرة المعزية التي وضعت خططها الأولى في شعبان سنة 358، ونشأت القاهرة بادئ بدء مدينة ملكية فقط لتكون قاعدة للدولة الجديدة ومنزلا للخلافة الفاطمية، ونشأ جامعها الأزهر الذي أسس بعد قيامها بأشهر قلائل (جمادى الأولى سنة 359هـ) مسجدا للإمامة الجديدة فقط. ومضى زهاء نصف قرن قبل أن تبدو العاصمة الجديدة في شيء مما تميزت به بعد ذلك بين الأمصار الإسلامية من عظمة وروعة وبهاء، وقبل أن يبدأ الجامع الأزهر تاريخه الأدبي الباهر. ولكن ظلت الفسطاط بعد ذلك عصورا تحتفظ بمكانتها الأدبية، ولبثت حلقاتها ولياليها الأدبية شهيرة بين أدباء المشرق والمغرب. وبدأ الجامع الأزهر ينافس المسجد الجامع في حلقاته ومجالسه الأدبية منذ عهد الخليفة العزيز بالله، إذ استأذن وزيره الشهير يعقوب بن كلس سنة 378 هـ أن ينظم بالأزهر على نفقته بعض مجالس القراءة والفقه. وفي خاتمة القرن الرابع، في عهد الحاكم بأمر الله، أنشئت دار الحكمة بالقاهرة ونظمت مجالسها، فكانت مثوى للمجالس العلمية الكلامية والفلسفية.

ولسنا نتحدث عن القاهرة ومكانتها العلمية والأدبية بين الأمصار الإسلامية في العصور الوسطى، ولا عن أزهرها الذي غدا فيما بعد أعظم جامعة إسلامية، كذلك لسنا نتحدث عن دار الحكمة ومجالسها الشهيرة التي كانت تتخذها الخلافة الفاطمية أداة لتحقيق دعوات دينية فلسفية غامضة، فذلك ليس موضوعنا. وإنما نتتبع تاريخ الفسطاط الأدبي، بعد قيام القاهرة، منافستها العظيمة الفتية.

فقدت الفسطاط أهميتها السياسية والرسمية، ولكنها احتفظت عصورا أخرى بأهميتها الاجتماعية والأدبية وفي فترات كثيرة كانت تتفوق على القاهرة بطابعها الأدبي. وهذا ما يشيد به أدباء المشرق والأندلس الوافدين على مصر في عصور مختلفة. ومن هؤلاء أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي الذي وفد على مصر في أوائل القرن السادس الهجري في عهد الأفضل شاهنشاه. ودرس الحركة الفكرية والأدبية في مصر يومئذ كتب عنها رسالة لم يصلنا سوى شذور قليلة منها. وفي هذه الشذور يتحدث أبن أبي الصلت عن بعض أدباء مصر وعلمائها، ومجالسهم واجتماعاتهم بما يدل على أن الفسطاط كانت ما تزال مركزا هاما للحركة العلمية والأدبية. ووفد ابن سعيد الأندلسي إلى مصر بعد ذلك بنحو قرن، نحو سنة 637هـ (1240م)، ولبث بها أعواماً طويلة يدرس شئونها وأحوالها، فإذا بالفسطاط ما تزال تحتفظ بأهميتها الأدبية، وإذا بها ما تزال مثوى للأدباء ومركزاً لأبهاء الأدب، وإذا لياليها الأدبية ما تزال شهيرة. ويفرد أبن سعيد في كتابه (المغرب في حلى المغرب) فصلا كبيراً للفسطاط عنوانه: (كتاب الاغتباط في حلى الفسطاط) يتحدث فيه عن المدينة، وزياراته لها واجتماعاته بأدبائها، ولا سيما شاعرها الكبير جمال الدين أبي الحسن الجزار، أشهر شعراء مصر في هذا العصر، وما لقيه من كرم وفادته وشهده من رائع أدبه، وقد كان الشاعر الكبير يومئذ، على ما يظهر شاباً في عنفوان شاعريته لأنه توفي بعد ذلك بنحو أربعين سنة في (679هـ1282م) وهو صاحب الأرجوزة التاريخية الشهيرة المسماة (بالعقود الدرية في الأمراء المصرية) وفيها يستعرض ذكر أمراء مصر وملوكها منذ عمرو بن العاص إلى الملك الظاهر بيبرس، وكانت الفسطاط قد عادت يومئذ فاستعادت كثيراً من بهائها السالف، وأهميتها الاجتماعية القديمة بسبب قيام المدينة الملكية الجديدة التي أنشأها الملك الصالح في جزيرة الروضة المقابلة للفسطاط (638هـ) واتخاذها قاعدة للسلطنة، وانتقال البلاط والحاشية إليها، وسكن كثير من الأمراء والكبراء بالفسطاط في الضفة المقابلة لنهر النيل، وهو ما يشير إليه أبن سعيد في قوله، (وقد نفخ روع الاعتناء والنمو في مدينة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية (جزيرة الروضة)، وكثير من الجند قد أنتقل إليها للقرب من الخدمة، وبني على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر).

ويشير ابن سعيد في كتابه السالف الذكر إلى ليالي الفسطاط واجتماعاتها الشائعة في الليالي القمرية وأشهرها ما كان يعقد في القرافة مما يلي المقطم في قبة الإمام الشافعي التي كانت قد أنشئت على قبره. وكان المسجد الجامع قد عفت أهميته شيئاً فشيئاً مذ قام منافسه القوي، الجامع الأزهر وغيره من المساجد والمدارس الجامعة بمدينة القاهرة، ولكننا نراه ما يزال حتى القرن السابع مثوى للأدب واجتماعاته، وبرغم عفائه وقدمه ونسيان أمره، كانت تعقد في عرصاته حلقات للقراءة والدرس، وهو ما يشير إليه ابن سعيد أيضاً خلال وصفه للمسجد الجامع في منتصف القرن السابع، بيد أن هذه الحلقات لم تكن من الأهمية والرونق والانتظام مثلما كانت عليه في القرون الأولى يوم كان المسجد الجامع مجتمع الأمراء وأقطاب التفكير والأدب. وكانت يومئذ أقرب إلى الصبغة المدرسية. ومع ذلك فقد بقي للمسجد الجامع حتى ذلك العصر كثير من ذكرياته الأدبية المجيدة. وهي كعبة الأدباء والشعراء. يجتمعون فيه كلما سنحت فرص الاجتماع لعقد الأسمار والمطارحات الأدبية. وإليك نموذجاً لهذه الاجتماعات الشهيرة أورده ابن فضل العمري في موسوعته الكبيرة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) في حديثه عن المسجد الجامع.

(حكي على بن ظافر الازدي. قال: روى لي أن الأعز أبا الفتوح ابن قلاقس وابن المنجم اجتمعا في منار الجامع في ليلة فطر ظهر بها الهلال للعيون. وبرز في صفحة بحر النيل كالنون. ومعهما جماعة من غواة الأدب الذين ينسلون إليه من كل حدب. فحين رأوا الشمس فوق الليل غاربة. وإلى مستقرها جارية ذاهبة. وقد شمرت للمغرب الذيل. واصفرت خوفاً من هجمة الليل. والهلال في حمرة الشفق. كحاجب الشائب أو زورق الورق. فاقترحوا عليهما أن يصنعا في ذلك الوقت الزيه. على البديه. فصنع ابن قلاقس:

انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة ... وانظر لما بعدها من حمرة الشفق

غابت وأبقت شعاعاً منه يخلفها ... كأنما احترقت بالماء في الغرق

وللهلال، فهل وافى لينقذها ... في إثرها زورق قد صيغ من ورق؟

وصنع ابن المنجم:

يا رب سامية في الجو فمت بها ... أمد طرفي في أرض من الأفق

حيث العشية في التمثيل معركة ... إذا رآها جبان مات للفرق

شمس نهارية للغرب زاهية ... بالنيل مصفرة من هجمة الغسق

وللهلال إنعطافة كالسنان بدا ... من سورة الطعن ملقى في دم الشفق

(وحكي على بن ظافر أيضاً، قال: أخبرني ابن المنجم الصواف بما معناه: قال، صعدت إلى سطح الجامع بمصر في آخر رمضان مع جماعة فصادفت به الأديب الأعز أبا الفتوح بن قلاقس ونشو الملك علي بن مفرج بن المنجم وشجاعا المغربي في جماعة من الأدباء. فانضمت إليهم. فلما غابت الشمس وفاتت، اقترح الجماعة على ابن قلاقس وابن المنجم أن يعملا في صفة الحال. فكان ما صنعه نشو الملك:

وعشى كأنما الأفق فيه ... لازورد مرصع بنضار

قلت لما دنت لمغربها الشم ... س ولاح الهلال للنظار

اقرض الشرق صنوه الغرب دين ... ارا فأعطى الرهين نصف سوار

وكان الذي صنعه ابن قلاقس:

لا تظن الظلام قد أخذ الشم ... س وأعطى النهار هذا الهلالا

إنما الشرق اقرض الغرب دي ... نارا فأعطاه رهنه خلخالا

ونحن نعرف أن الشاعر المصري الإسكندري الأشهر ابن قلاقس كان من شعراء النصف الأخير من القرن السادس الهجري (532 - 607 هـ) وكذلك ابن المنجم من شعراء هذا العصر. وإذن فقد كان المسجد الجامع، حتى أوائل القرن السابع منتدى لأكابر الأدباء والشعراء، وكانت الفسطاط لا تزال شهيرة بلياليها وحلقاتها الأدبية، حتى بعد ذلك بنحو نصف قرن على نحو ما يشير إليه ابن سعيد الأندلسي.

ومنذ أواخر القرن السابع الهجري نرى الفسطاط تفقد أهميتها الاجتماعية والأدبية شيئاً فشيئاً ونرى المسجد الجامع وقد غمره النسيان والعفاء. وقلما نظفر في سير القرن الثامن بما ينبئ عن مكانة الفسطاط أو أهميتها الاجتماعية أو الأدبية. بل نرى الفسطاط في هذا العصر تنتهي إلى ضاحية متواضعة لمدينة القاهرة. ونرى القاهرة تغمر بعظمتها وبهائها وأهميتها العلمية والأدبية عاصمة الإسلام الأولى في مصر. ونراها مثوى كل حركة فكرية أو أدبية. ونرى الجامع الأزهر كعبة العلماء والأدباء لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله، على أن مؤرخ الآداب في مصر الإسلامية لا يسعه - حين يعالج تاريخ الآداب في عصور الإسلام الأولى - إلا أن يلاحظ أهمية الدور الكبير الذي أدته الفسطاط وحلقاتها ولياليها الأدبية، وأداه مسجدها الجامع في تطور الحركة الفكرية والأدبية في مصر.