مجلة الرسالة/العدد 198/هكذا قال زرادشت
مجلة الرسالة/العدد 198/هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الفضيلة الواهبة
- 1 -
وبعد أن ودع زارا مدينة (البقرة الملوَّنة) التي شغف قلبه بها، شيعه عدد غفير مما كانوا يدعون أنفسهم أتباعه حتى بلغوا إلى منعطف الطريق، فقال زارا إنه يريد متابعة سيره وحده. فودَّعه أتباعه وقدموا إليه عصا قبضتها من ذهب بشكل أفعى ملتفة حول الشمس، فسر زارا من هذه الهدية واتكأ عليها قائلاً لأتباعه:
- قولوا لي، لماذا أصبح الذهب ذا قيمة؟ أليس لأنه نادر ولا فائدة منه، ولأنه وديع في لمعانه، ويبذل نفسه في كل حين؟ لم يبلغ الذهب أسمى مراتب الأشياء القيمة إلا لأنه رمز لأسمى الفضائل، فعين الواهب برَّاقة كالذهب، ووهج الذهب رسول سلام بين النيرين.
إن أسمى الفضائل نادرة ولا نفع منها، فهي تتوهج بنورها الهادئ، وليس بين الفضائل من يطاول فضيلة السخاء.
والحق، إنني شاعر برغبتكم، أيها الصحاب، فإنكم تطمحون مثل طموحي إلى الفضيلة الواهبة، فأنتم تريدون أن تحولوا نفوسكم إلى هبات وعطايا، وإلا لكنتم أشبه بالهررة والذئاب. ولهذا تتعطشون إلى حشد جميع الكنوز في أنفسكم فهي لن ترتقي من جميع الجواهر والكنوز لأنها ظامئة أبداً إلى العطاء. تجتذبون كل ما حولكم ليتسرب إلى داخلكم فينفجر ينبوعكم بها كأنها هبة من محبتكم.
إن المحبة السخية الواهبة تستحيل إلى لص يمد يده إلى جمع الأشياء القيمة، وما أرى هذه الأنانية إلا عملاً صالحاً مقدساً.
غير أن هنالك أنانية أخرى تدهورت إلى أدنى درجات المسكنة في مجاعتها المتحكمة أبداً فيها، تلك هي الأنانية التي تطمح إلى السرقة في كل آن، فهي أنانية المرض بل هي الأنانية المريضة، تحدج كل شيء بنظرات اللص وبنهم الجائع، فتزن لقمات الآكلين من أبناء النعمة وتدبُّ أبداً حول موائد الواهبين. وما مثل هذه الشهوة إلا عرض الداء الدفين ودليل الانحطاط الخفي، وما الطموح إلى السرقة بمثل هذه الأنانية إلا نزعة من نزعات الجسوم العليلة.
أي شيء نراه أقبح الأشياء، أيها الأخوة، أفليس الانحطاط أقبحها؟ وهل يسعكم إلا أن تحكموا بانحطاط مجتمع لا أثر لروح السخاء والعطاء فيه.
إن سبيلنا يتجه إلى الأعالي، وما نقصده إنما هو الارتقاء من نوع إلى نوع، لذلك نرتعش عندما نسمع الانحطاط يهتف قائلاً: (لي كل شيء)
وهل روحنا إلا رمز لجسدنا وهي تطمح إلى الاعتلاء، وهل الصفات التي ندعوها فضيلة إلا عبارة عن هذه الرموز عينها؟
إن الجسد يقطع مسافات التاريخ بكفاحه، لكن ما تكون الروح من الجسد يا ترى إن لم تكن المزيع لكفاح الجسد وانتصاراته؟ وما الجسد إلا الصوت، وما الروح إلا الصدى الناجم عنه والتابع له. ليست الكلمات الموضوعة للدلالة على الخير والشر سوى رموز فهي تشير إلى الأمور ولا تعبر عنها ولا يطلب المعرفة فيها ومنها إلا المجانين.
انتبهوا، أيها الأخوة، إلى الزمن الذي يطمح فكركم فيه إلى البيان بالرموز لأن في هذا الحين تتكون الفضيلة فيكم، وفيه يبعث جسدكم ويتجه إلى الأعالي مجتذباً عقلكم من سكونه ليدفع به إلى مراحل الإبداع حتى إذا ما سار عليها عرف قيمة الأشياء وأحب فأجاد في كل أعماله.
في الزمن الذي يختلج فيه قلبكم تتكون فضيلتكم لأن هذا القلب يفيض باختلاجه كالنهر العظيم فيغمر القائمين على ضفافه بالبركة كما يهددهم بأشد الأخطار.
إنما تنشئ فضيلتكم عندما يعجز المدح والذم عن بلوغ شعوركم، فتطمح إرادة الرجولة فيكم إلى السيادة على كل شيء
إنما تنشئ فضيلتكم عندما تحتقرون النعم والفراش الوثير وعندما لا تجدون راحة إلا بعيدا عن مواطن الراحة
إنما تنشئ فضيلتكم عندما تنصب إرادتكم على مقصد واحد، وعندما يصبح هذا التحول في آلامكم ضرورة لا يسعكم التحول عنها أفليس هذا شكلاً جديداً للخير والشر؟ أفما تسمعون بهذا القول خرير الينبوع العميق الذي غربت مسالكه من قبل عنكم؟
إنها لفضيلة جديدة تمنح الإنسان قوة وتبعث فيه عزماً، هذه الفكرة المتحكمة في روح بلغت الحكمة لأنها شمس مذهبة التفت عليها أفعى الحكمة.
- 2 -
وصمت زارا مرسلا نظرات الحب إلى اتباعه، ثم ارتفع صوته بنبرات جديدة قائلا: - اخلصوا للأرض، يا اخوتي، بكل قوى فضيلتكم. ولتكن معرفتكم خادمتين لروح الارض، انني اطلب هذا متوسلا.
لا تدعوا فضيلتكم تنسلخ عن حقائق الأرض لتطير بأجنحتها ضاربة أسوار الأبدية، ولكم ضلت من فضيلة من قبل على هذا السبيل.
أرجعوا الفضيلة الضالة كما رجعت بها أنا إلى مرتعها في الأرض. عودوا بها إلى الجسد وإلى الحياة لتنفخ في الأرض روحها، روحا بشرية.
لقد تاه العقل وتاهت الفضيلة فخدعتها آلاف الأمور، ولما يزل هذا الجنون يتسلط على جسدنا حتى أصبح جزءاً منه فتحول فيه إلى إرادة.
لقد قام العقل وقامت الفضيلة معه بتجارب عديدة فضلاً على ألف سبيل؛ وهكذا اصبح الإنسان عبارة عن تجارب ومحاولات ألصقت بنا الجهل والضلال. وليس ما استقر فينا من تجارب حكمة الأجيال فحسب، بل جنونها أيضاً. ولكم يتعرض الوارثون إلى أخطار.
إننا لم نزل نصارع جبار الصدف، ولم يزل العته سائدا على الإنسانية حتى اليوم
ليكن عقلكم وفضيلتكم بمثابة روح للأرض وعقل لها.
أيها الأخوة فتتجدد بكم قيم الأشياء جميعها، من أجل هذا وجب عليكم أن تبدعوا.
إن الجسد يطهر بالمعرفة، فيرتفع بمرانه على العلم، لأن من يطلب الحكمة يطهر جميع غرائزه، ومن ارتقى فقد أدخل المسرة إلى نفسه.
أعن نفسك، أيها الطبيب، لتتمكن من إعانة مريضك. إن خير ما تبذله من معونة لهذا المريض هو أن يرى بعينه إنك قادر على شفاء نفسك.
إن في الأرض من السبل ما لم تطأها قدم بعد، فما أكثر مجاهلها وما أكثر خفاياها!! اسهروا وانتبهوا أيها المنفردون لأن من المستقبل تهب نسمات سرية حاملة بشائر لا تقرع إلا الآذان المرهفة.
إنكم في عزلة عن العالم، أيها المنفردون، ولكنكم ستصبحون شعباً في آتي الزمان، ومنكم سيقوم الشعب المختار لأنكم اخترتم نفسكم اليوم. ومن هذا الشعب سيولد الإنسان الكامل.
والحق أن الأرض ستصبح يوماً مستشفى للأعلاء، فإن في نشرها عبيراً جديداً هو عبير الإخلاص والأمل الجديد.
- 3 -
وسكت زارا كمن يقف عند كلمة تتلجلج في فمه، وبعد أن قلب عصاه طويلاً بين يديه، أطلق صوته وقد تغيرت نبراته فقال:
- سأذهب وحدي الآن، أيها الصحاب، وأنتم أيضاً ستذهبون بعدي وحدكم لأنني هكذا أريد.
هذه نصيحتي إليكم، ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم تجاهي، بل أذهبوا إلى أبعد من هذا، أخجلوا من انتسابكم إليَّ فلقد أكون لكم خادعاً.
على من يطلب الحكمة ألا يتعلَّم محبة أعدائه فحسب بل عليه أيضاً أن يتعلَّم بغض أصدقائه. وما يعترف التلميذ اعترافاً تاماً بفضل أستاذه إذا هو بقى أبداً له تلميذاً. لماذا لا تريدون أن تحطموا تاجي؟
إنكم تحوطونني بالأجلال، ولكن ما هي الكارثة التي تتوقعونها من إعراضكم عني، إن في رفع الأنصاب لخطراً فاحترسوا من أن بسقط عليكم التمثال المنصوب فيقضي عليكم
تقولون إنكم تؤمنون بزارا، ولكن أية أهمية له؟ تقولون إنكم مؤمنون، ولكن ما أهمية جميع المؤمنين؟ ما كان أحد منكم فتش عن نفسه قبل أن وجدتموني، وهكذا جميع المؤمنين، فليس الإيمان شيئا عظيماً. لذلك آمركم الآن أن تضيعوني لتجدوا أنفسكم، ولن أعود إليكم إلا عندما تكونون جحدتموني جميعكم.
والحق، يا إخوتي، إنني في ذلك الحين، سأفتش عن خرافي بعين أخرى فأبذل لكم حباً غير هذا الحب.
سيأتي يوماً تصيرون فيه أصحاباً لي إذا ما وحد بينكم الأمل الواحد، عندئذ سأرغب في الإقامة بينكم للمرة الثالثة للاحتفاء بأنوار الهاجرة العظمى.
وستبلغ الشمس الهاجرة عندما يصل الناس إلى منتصف طريقهم بين الحيوان والإنسان الكامل، وعندما يرون أملهم الأسمى على منتهى السبيل الذي يقودهم إلى الفجر الجديد
في ذلك الحين يتوارى من يسير إلى الجهة الثانية وهو يبارك نفسه إذ ترتفع شمس معرفته لتتكبد الهاجرة.
لقد مات جميع الآلهة، فلم يعد لنا من أمل إلا ظهور الإنسان الكامل. فلتكن هذه إرادتنا الأخيرة عندما تبلغ الشمس الهاجرة.
هكذا تكلم زارا. . .