مجلة الرسالة/العدد 198/على أطلال الماضي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 198/على أطلال الماضي

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1937



ساعة في. . . (سُرَّ مَنْ رَأَى)

(في السنة الآتية يكون قد مر على إنشاء سر من رأى ألف ومائة سنة)

ع

. . . الآن رجعت من التاريخ. إني أرى الدنيا صغيرة خابية لأني كنت في دنيا أكبر منها وأحفل بالنور والعطر: كنت في (سر من رأى)!

جلست أدون رحلتي إلى الحلة (دمشق العراق) ووقوفي على أنقاض بابل (أخت الدهر) وزيارتي السدة الهندية (القناطر الخيرية الثانية) وما أولاني الحليون من ألوان المنن وأنواع الكرم. . . فلم أكد أمضي في المقالة حتى عرضت لي رحلة جديدة إلى سر من رأى. . . ومنذا الذي لا تفتنه سر من رأى؛ ولا تهيج بلابل أشواقه؟ ومنذا الذي نظر في كتب التاريخ أو شدا بشيء من الأدب ثم لا يعرفها ولا يحس أن لها صلة بنفسه؟

رددوا هذا الاسم الجميل عشر مرات بصوت خافت كأنه مناجاة النفس، بطيء كأنه هجس الضمير، وأنتم تنظرون بعيونكم إلى بعيد، تحدقون في غير شيء، فعل من يتذكر أمراً، ثم انظروا كم يثير في نفوسكم من ذكر وحوادث، وفكر وعواطف، أقل ما توصف به، إنها لا توصف، وكيف تحتويها كلمات وهي عالم؟ وكيف تنتظمها لغة الأرض وهي من لغة السماء؟ ومتى كان الإنسان ناطقاً مبيناً؟ إن هذه اللغة رموز ضئيلة، كائنات عظيمة؛ إن العواطف مئات ومئات وما ثم إلا كلمة واحدة. . . وكذلك الجمال والحب والطبيعة. . . لا. إن الإنسان لا يزال طفلا لم يتعلم النطق ولم يحسن البيان!

سر من رأى، وما سر من رأى؟ هي التي نهضت لبغداد لما كانت بغداد عاصمة الأرض. ولما بلغت غاية المجد وابعد الأماني، وبذت كل مدينة، وكان فيها مليونان من السكان، وكان فيها العلم والفن والسلطان. . . نهضت لها تزاحمها وتنافسها، فلم تكن إلا ليال حتى غلبتها وبهرتها، وتربعت على دجلة من فوقها، وسلبتها خلفيتها وأبهتها وحلة أبنائها، وكانت اجل منها وأعظم.

سر من رأى، المدينة الملوكية، التي ولدت فجأة فإذا هي أجل المدن، وإذا في كل ناحية منها عرش، وفي كل بقعة منها عرش، وإذا هي تتشح بالنور وتتضمخ بالعطر، وتن الزهر، وإذا هي تبلغ ما لم تبلغه من بعد الزهراء المدهشة، ولا فرساي. . .

ثم ماتت فجأة، فإذا كل ذلك حلم سريع وبرق خاطف. لم تعش إلا نحو خمسين سنة، (838 - 883) وما خمسون سنة في عمر المدن، إلا خمسون دقيقة، أفرأيت الجميلة التي ولدت بأعجوبة، فإذا هي الغادة الفتانة، ثم إذا هي تقضى بعد ساعة؟

لم تكن تزدهر وتستقر حتى نودي فيها بالرحيل والرجوع إلى بغداد، فهب الناس مذعورين، يحملون ما خف حمله وغلا ثمنه وتركوا المدينة العظيمة للرياح والوحوش واللصوص. . .

قرأت ذلك من حديثها، ثم لم أعد أعرف عنها شيئا، لم أدر ما صنع الدهر بها. . . وأين من يسأل عن الآثار ويبحث عنها؟ ومن يعرف اليوم ماذا جرى بالكوفة ومسجدها؟ والبصرة ومربدها؟ أو يعلم صفة القادسية أو اليرموك؟ من يسأل عنها وهذا مسجد بغداد العظيم، مسجدها الجامع، قد أبتلعته الدور وطغت عليه فلم يبق منه إلا منارته التي تقوم منحنية تبكي هذا المجد العظيم وهذا الماضي الفخم، وتنادي لو وجدت سميعاً: وما كان ذنب هذا المسجد، وما كان ذنب هذه الآثار، إلا إننا نحن وارثوها لا الفرنسيس ولا الإنكليز، أولئك الذين لم يدعوا في بلادهم شبراً من الأرض فيه جمال من جمال الطبيعة، أو أثر من آثار الماضي، إلا كتب عنه مؤرخوهم، ووصفه أدبائهم، وصوره مصوروهم، ونحن الذين أضعنا آثارنا الجليلة، وهدمناها بأيدينا لنبني بأنقاضها دورنا الحقيرة!

أسمعتم بالمدرسة النظامية التي درس فيها حجة الإسلام الغزالي والتي كانت من أكبر جامعات القرون الوسطى؟ أتدرون ماذا بقي منها! منارة مهدمة طولها أربعة أمتار، في زقاق عرضه ثلاثة أمتار، عند جامع مرجان في بغداد، والمنارة مائلة قد انحنت تحت أثقال دار قد ركبتها، وربما هدمت المنارة لتقام عليها الدار، فمن يدري؟ وأين من يدرس الآثار ويعنى بها؟ وهذا قصر الخضراء في دمشق، ما بقي منه إلا اسمه تحمله مصبغة، في زقاق القباقيب. يا لعجائب الزمان! صار مثوى التاج ومحط العرش زقاق القباقيب. . . فمن سأل عنه؟ ومن وصفه؟ ومن حفر في أنقاضه؟ أما لو أن هذه الآثار كانت لغيرنا، إذن لحرقت هذه البقاع حرقاً ثم أخرجت كنوزها، ثم ملأت نفوس أهلها عزة، ثم كانت لهم أجنحة يطيرون بها في معارج العلاء. . . إن تحت هذه الأرض علماً ومجداً وجلالاً، ولكن ليس فوقها من يحفل العلم والمجد والجلال!

أو ليس من أعجب العجب، يا قومي، أن آثارنا لم يبحث عنها ولم يكشفها إلا هؤلاء الأوربيون؟ إن في دمشق قريتين هما معلولا وجبعدين تتكلمان السريانية منذ خلقتا، فما فكر أحد في درس هذه اللغة ومعرفتها، حتى جاء هذا المستشرق الشاب، رايخ النمسوي من أخر الدنيا ليدرسها. . . بل هذه هي سر من رأى، ما نقب فيها وكشفها للناس إلا هرسفلد الألماني، الذي حفر فيها سنة 1911 كلها وبعض سنة 1913 بإشارة من أستاذه ساره وبنفقة المصرف الألماني وبعض كبار الألمان. بدأ الحفر في قصر المتوكل ثم انتقل إلى الجوسق، وإلى القصر المعروف بقصر العاشق، واستخرج من هذه البقعة الصغيرة كراثم الآثار ونفائس الأعلاق، التي انتقلت إلى ألمانيا، وبقيت لدينا نسخ معدودة من هذا الكتاب الجليل الذي أخرجه هرسفلد في مجلدات كثيرة فيه صور هذه الآثار باهرة مدهشة حقاً؛ وهو يصف في المجلد الأول نقوش الجدران وزخارفها، ويقول أنه لم تكن تخلو دار من هذه النقوش الجصية البارزة الملونة أحياناً؛ وفي الثالث الرسوم والصور، وأكثر هذه الصور مما وجد في حمام الجوسق، وقد حلت هذه الصور مشكلة قصر المشتى الذي كشف سنة 1908، ويتحدث في جزء عن الأواني الزجاجية والخزفية، وقد ظهر أنه كان في سر من رأى معمل الزجاج، ومعمل للأقمشة وجدت بعض قطع ملونة من مصنوعاته.

ومن أهم ما تمتاز به المدينة شوارعها، التي لا تكاد تحوي مثلها (اليوم) مدينة في العالم، فقد كانت كلها مستقيمة متقاطعة بانتظام عجيب، والشارع الأعظم، (وآثاره باقية) يمتد بعرض مائة متر، ودورها التي كان أكثرها كبيراً في خمسون غرفة، وفيه مجار الماء وبرك، ومجار أخرى للماء القذر، وحمامات وسراديب للصيف على نظام يكفل لها حسن التهوية، وكان أكثر الدور على طراز واحد، فهي ذات ردهتين: ردهة حيال الباب تفضي إلى ردهة أخرى مستطيلة، عمودية عليها والغرف من حولهما.

وقد صحب هرسفلد رجل عسكري يدعى (لودلوف) متخصص

برسم المصورات، صنع خريطة للمدينة مفصلة بنسبة

250001 وصحبه رجلان مختصان بالنقوش هما (بارتوس وبيجر) على أن ما كشفه هرسفلد لا يعد شيئاً، والمتحف

العراقي عامل على موالاة التنقيب في الآثار، وجمعها في

متحف الآثار العربية، وينتظر ظهور أشياء هائلة.

سرنا إلى (سر من رأى) في قافلة مؤلفة من كبار طلاب (دار المعلمين العالية في بغداد) والدكتور كامل بك عياد (أستاذ التاريخ الإسلامي في الدار) و. . . أنا، فجزنا بالأعظمية، وعبرنا النهر إلى الكاظمية، ثم استقبلنا الفضاء.

ولم نقف في الطريق إلا على جسر حربي، وهو جسر قائم في الفلاة ذو ثلاث قناطر. عليه كتابة ظاهرة تدل على أنه بنى في أواخر العهد العباسي على نهر دجيل ليسقي مدينة حربي، فتلفتنا فإذا النهر قد جف والمدينة قد محيت والعهد العباسي قد انقضى، وإذا كل بلاد الله تتقدم وتزداد عمارة، وبلادنا تتأخر وتمعن في الخراب فوقفنا معتبرين. ومضينا مستعبرين.

ولم نسر من بعد إلا قليلاً حتى طلعت علينا (الملوية) وهي منارة جامع المتوكل، عالية تبدو من بعيد كالصرح الهائل، وقد شبهت مكانها من سر من رأى، ببرج إيفل من باريز، فهي علم البلد ورمزه. ثم بلغنا دجلة فعبرناه. ودخلنا (قرية) سامراء نستريح في مدرستها ساعة بعد مسيرة ثلاث ساعات في السيارة. ثم ولجنا حرم التاريخ، يصحبنا معلمو المدرسة الذين أولونا من أياديهم وأرونا من كرمهم وحسن أخلاقهم، ما نذكره لهم بالشكر، فلولاهم ما رأينا شيئاً، ولا عرفنا من أين ندخل أو نخرج في هذا العالم الواسع!

إي والله. هو عالم، وهو شيء عظيم جداً.

سرنا أكثر من خمسة وعشرين كيلاً، وما قطعنا إلا نصف البلد من المسجد الجامع إلى الدور العليا، وإن إلى الدور السفلي لمثلها، وإن هذا كله لنصف المدينة، وعلى الضفة الأخرى مثله.

أنا لا أستطيع أن أتصور كيف كانت هذه البرية الواسعة التي يضل فيها البصر، مدينة عامرة، وكيف كان الناس يقطعونها، وإن بين أولها وآخرها اليوم لمسيرة اثنتي عشرة ساعة على الراكب.

كان أول ما رأينا المسجد الجامع، وهو كبير جداً لو وضعت سامراء الحاضرة فيه لوسعها وفضل عنها، لم يبق منه إلا السور وهو مبني من اللبن مثل سائر الأبنية العراقية، تدعمه من ظاهره أبراج مستديرة، ووراء السور المنارة، وتعرف عند الناس بالملوية أي المستديرة، وهي حلزونية الشكل سلّمها من ظاهرها، مؤلفة من سبع طبقات، ارتفاعها (75) متراً، وتحتها قاعدة مربعة أقيمت حديثاً لتقويتها، طول الضلع من أضلاعها (40) متراً، فصار ارتفاع المنارة قريباً من (85) متراً وقد بنيت على غرارها منارة جامع ابن طولون في القاهرة، ثم تركت هذه الصفة في المآذن واتخذ لها سلم من جوفها.

تركنا المسجد وسرنا في وجهة واحدة، كيلا نضل في وسط هذه الأطلال، وكان حولنا تلال من التراب، كانت قبل ألف ومائة سنة، دوراً عامرة، وقصوراً فخمة، فجزنا بها حتى بلغنا أنقاضاً حولها سور كبير، أخبرنا بها معلم المدرسة أنها أنقاض قصر أُم عيسى ابنة الواثق، وعلا بنا على تل عال وقال: انظروا، فنظرت فلم أر إلا برية واسعة. لا شيء فيها. . . فقال: أمعن، أنظر، وحدق في الأرض، ففعلت فرأيت شيئاً أدهشتي، وخفق له قلبي، رأيت تلالاً صغيرة منتظمة، على شكل دوائر متقاطعة على نمط هندسي بديع، تمتد إلى ما لا يدرك البصر آخره. . . فقلت وأنا مشدوه: ويحك ما هذا؟ قال: حديقة!

وأي حديقة هي؟ حسبي أن أقول: إنها شيء هائل!

ومضينا. . . نمر على الأطلال. حتى بلغنا آثار سور كبير جداً كأنه سور مدينة. . . فقال دليلنا: هذا بلاط الخليفة، فترجلنا وسرنا في طريق مبلطة باقية آثارها، ونحن نتخيل كم مر في هذه الطرقات من خلفاء وأمراء، وكم شهدت من جلال وجمال، حتى بلغنا مصيف المتوكل، وهو أول ما استقبلنا من القصور، ونسيت أن أقول إن البلاط بلدة واسعة، فيها عشرات القصور تبدو أنقاضها ناطقة بعظمتها، وفيها مسجد كبير، وفيها البركة المتوكلية المشهورة، بركة البحتري، فولجنا المصيف، وهو قصر كبير تحت الأرض، به غرفة محفورة فيها حفراً، وهي متصلة يفضي بعضها إلى بعض، ولها نوافذ كثيرة، تضمن لها حسن التهوية، وفي وسط القصر بركة. . . وقد كدنا نهلك من حرارة الشمس ونحن فوق الأرض، فلما هبطنا إلى جوف القصر كدنا نهلك من البرد. . .

وكان الصديق الأستاذ كامل بك يسرد فلسفته العلمية ويقص علينا قصة القصر وبناءه، وفنه وقيمته التاريخية ولكن واحداً منا لم يكن يصغي شيئاً أو يفهم شيئاً مما يقول. . . فكف وعلم أن الكلام الآن للقلب وعواطفه الحية، لا للعقل ومقاييسه الجافة، وفلسفته الباردة. . .

كنا نتخيل هذا القصر، وقد كان يعج بالحياة، ويفيض بالحب؛ كنا نسمع الأصوات، ونبصر الألوان، ونشم عبق العطر ونحس كأنا نرى الخليفة ونشهد مجالس الأدب والغناء، وخلوات الحب.

كم عاش في هذا المكان من عواطف! كم خفقت فيه من قلوب! كم امتلأ بالحياة. . . أفيؤدي ذلك كله بمثل هذه السرعة وهذه السهولة، ويشمله العدم ولا يبقى له وجود قط؟

أي امرئ عرف الحب، وكابده وأدرك معناه، ثم يؤمن بأن العدم يقوى عليه! لا. إن ذلك كله موجود! موجود في زاوية من زوايا هذا الكون الفسيح، إنه خالد لا يفنى أبداً، إن في هذا القصر ذكريات جمة، تحتويها هذه الجدران الخرساء، وهذا اللبن البارد، إن فيه صدى تلك الهمسات التي كانت تتناجى بها الشفاه؛ إن فيه خفقات تلك القلوب؛ إن فيه رنات تلك القبل.

إن سؤال الديار، واستخبار الأطلال، أقدم فنون الشعر العربي، فهل ترى الشعراء كلهم مجانين؟ أتراهم كانوا عابثين؟

لا. إن في هذه الأطلال الحياة. . . إن كل شيء في الوجود حي يذكر ويأمل ويشعر ويحلم، ولكنه لا ينطق ولا يفكر. . .

آه. . . لو أن هذه الجدران كانت تنطق، وتتحدث وتصف ما تشعر به. . .

وخرجنا من القصر، ونحن نحس كأنا قد خرجنا من أنفسنا وانتقلنا إلى عالم آخر، عالم تمتزج فيه الأحلام بالحقيقة؛ عالم شعري ساحر. . . فمررنا على جب واسع للماء خبرنا دليلنا إن بعض الجاهلين من الإدلاء والتراجمة يدعون بأنه سجن، ويختلقون حوله الأكاذيب. . . وهؤلاء الإدلاء والتراجمة بلاء أزرق، وقد سمعت واحداً منهم يشرح لبعض الإفرنج تاريخ المسجد الأموي في دمشق، فقال لهم ما نصه: (هذه هي المنارة التي بناها الوليد بن هارون الرشيد لسيدنا عيسى، ولذلك سميت منارة عيسى) وهم يكتبون في دفاترهم ما يقول، فينشرونه على إنه كتاب علمي عن الشرق وأهله، وليس العهد ببعيد بتلك الكاتبة الفرنسية التي كتبت كتاباً عن دمشق قالت فيه: ويخرج أهل دمشق كل مساء لزيارة قبر النبي في مكة القريبة من دمشق!!

أقول إننا سرنا إلى مسجد القصر. وقد حفر فيه هرسفلد واستخرج منه آثاراً رخامية ومحراباً جميلاً حملها إلى ألمانيا ثم انتهينا إلى البركة، ولست أكتم القراء إني كنت أظن أن البحتري يبالغ قي وصفها، على طريقة الشعراء الخياليين وأقرر ذلك في دروسي، وأقول ما عسى أن تبلغ هذه البركة، حتى تظل دجلة كالغيرى منها تنافسها وتباهيها. وحتى تبدو في الليل كان سماء ركبت فيها، وحتى أن السمك المحصور لا يبلغ غايتها لبعد ما بين قاصيها ودانيها! فلما رأيت أنقاضها رأيت شيئاً عظيماً. رأيت بحراً، رأيت ميدان سباق، دائرة قطرها نحو مائتي متر، فأكبرتها وهي جافة فكيف لو رأيتها وهي ممتلئة بالماء، ومن حولها الغرف المفروشة المزخرفة، وقد عقد فيها مجلس الخليفة، إذن لرأيت أكثر مما قال البحتري، فرحم الله الشاعر وألهم شعراءنا تخليد ما يرون من جمال بلادهم، وعظمة مصانعهم، على نحو ما خلد البحتري البركة، والجعفري وطاق كسرى!

ثم سرنا إلى قصر الخليفة الرسمي ووقفنا في إيوانه الكبير، وهو بني على شكل إيوان كسرى، ولكنه أجمل وأصغر، وقفنا صامتين خاشعين تتقاذفنا عواطف وذكريات لا يدرى مداها، نتخيل هذا الإيوان وكم عقد فيه من مجالس، وكم وقف فيه من ملوك، وكم كتب فيه من تاريخ، نبصر المعتصم وقد أخذ كأسه ليشرب فأبلغوه إن امرأة مسلمة أسيرة في بلاد الروم صاحت: وا معتصماه.

امرأة أسيرة، وأمير المؤمنين يشرب كأسه هانئاً؟ امرأة تنادي: وامعتصماه، والمعتصم لا يجيب؟ إن هذا لن يكون

وأرى المعتصم يخرج في الجيش اللجب الذي تضطرب له سر من رأى، وتميد لثقله الأرض، وتصعق لهوله المردة، وترتجف الرواسي حتى يحط على عمورية، فيدكها دكاً ويعود مثقلاً بالمجد والظفر والغنائم.

وأسمع أبا تمام ينشد آيته الخالدة.

السيف اصدق إنباءً من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظم من الشعر أو نثر من الخطب

يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... منك المنى حفلاً معسولة الحلب أبقيت جد بني الإسلام في صعد ... والمشركين ودار الشرك في حبب

ثم انظر حولي فأرى كل شيء قد تبدل

تغير حسن (الجعفري) وأنسه ... وقوض بادي الجعفري وحاضره

تحمل عنه ساكنوه فجأة ... فعادت سواء دوره ومقابره

إذا نحن زرناه أجد لنا الأسى ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره

(غدا موحشاً قفراً) كأن لم يقم به ... أنيس ولم تحسن العين مناظره

كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة ... بشاشتها والملك يشرق زاهر

ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها ... وبهجتها والعيش غض مكاسره

فإن الحجاب الصعب حيث تمنعت ... بهيبتها أبوابه ومفاخره

وأين عميد الناس في كل نوبة ... تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره

لقد هجر الحياة. ونأى عن النعيم، وجفاه. . . حتى دجلة. . . دجلة أعرضت عن القصر، ونأت عنه وقد كانت تسيل على أعتابه. وجفته وكانت مع الدهر الدوار. . . والزمان الغدار، حتى دجلة التي أفاضوا عليها المجد، ووضعوا فيها الحياة، وأعطوها أكثر مما أخذوا منها. . . حتى دجلة التي تجري منذ ملايين السنين، فلم تجد اكرم ولا اعز ولا اعظم، من أصحاب هذا القصر وبناته. . .

حتى دجلة نسيت وكانت!!

ثم ودعنا البلاط وسرنا - وقد أودعناه قلوبنا وصببنا فيه نفوسنا ودموعنا. . . سرنا في الشارع الأعظم نصف ساعة في السيارة - وقد رأيناه بيناً، عرضه مائة متر والشوارع تتفرع عنه في نظام عجيب، وهندسة محكمة - والبيت قائمة على الجانبين وقد استحال أثرها إلى تلال من التراب كأنها القبور. . .

فمررنا على معسكر أشناس، وهو أشبه بميدان فسيح جداً حوله سور. حتى انتهينا إلى المسجد المعروف اليوم بجامع أبي دلف وهو أكبر من مسجد المتوكل وفي رواق قائم على خمس قناطر ومنارة كالملوية ولكنها أصغر منها. فوقفنا عليه.

وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فانتهت الرحلة هنا، وعدنا ونحن صامتون خاشعون. . .

ولقد علمنا لماذا يريدون منا أن نتجرد من ماضينا. لأننا لا نستطيع أن نبني المستقبل الفخم، إلا على أنقاض الماضي الفخم.

(بغداد)

علي الطنطاوي