مجلة الرسالة/العدد 192/الفنون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 192/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 03 - 1937



الفن المصري

1 - العمارة

للدكتور احمد موسى

دفع الدين والإخلاص له إلى الفن الذي بدأ به المصريون مبكرين. نظروا إلى السماء فقدسوها والى الشمس فعبدوها، والى النيل فعرفوا أنه مصدر حياتهم فجعلوا منه إلهاً للخير، ورأينا فيما سبق كيف كانت عبادة المصريين لمعبوداتهم، وكيف دفع بهم الدين إلى حضارة هي مثار الإعجاب للدارس الباحث على مر القرون

وإذا كانت قواعد تاريخ الفن تشير بتقسيم التراث المجيد إلى أقسام معينة؛ فذلك لكي نحسن الفهم فيتم التقدير الذي يؤدي بنا إلى الاستمتاع بجمال الوجود، فضلاً عما نستطيع وضعه من أصول نتمكن بها من ربط نهضتنا الحالية بالحضارة القديمة، في انسجام وبغير خروج على الذوق العام.

بنى المصريون المقابر والأهرامات لثقتهم بعودة الحياة إلى الجسد بعد الموت، وبعد حساب عسير، ولن تتمتع بقسط من النعيم إلا بقدر ما قدمت من عبادة وتقديس للآلهة، فدفعهم هذا إلى تشييد المعابد التي لم يكن مستطاعاً لهم في غيرها القيام بالواجب الأسمى

فكان بناء المقابر والمعابد أول أقسام الفن، وأجدرها بالدرس لمن يريد معرفة الفن المصري من بناء ونحت وتصوير، والوقوف على ما فيها جميعاً من جمال أدى إليه الشعور بالوجدان وسمو المشاعر ونبل العاطفة

استغرق تاريخ مصر عدة آلاف من السنين، وشمل أسرات بلغت الإحدى وثلاثين، ولذلك ينبغي بتقسيم عصر البناء (والفن من نحت وتصوير) إلى أقسام أولها عصر المملكة القديمة، حيث تم تشييد الأهرامات بالجيزة وغيرها. ثم عصر المملكة الوسطى وبعدها المملكة الحديثة

ويرى الدارس للأهرام سر العظمة البنائية متجلياً فيها، كما يلاحظ الأبهة في إخراجها والدقة المتناهية في تكوينها العام، بجانب ما يستطيع الوصول إليه بالفحص والتحليل م معرفة بعض ما بلغه المصريون في علمي الهندسة والرياضيات، ولا غرابة إذا اعتبر العلماء المعاصرون، الأهرام أعظم نموذج عملي لعلم الهندسة المعمارية إطلاقاً

ولم تدم مرحلة بناء الأهرام طويلاً، بل إنها لم تكن إلا في عهد الأسرات الأولى فقط، أما المعابد فإنها بدأت معها ولكنها ظلت تشيد طوال عصور الحضارة المصرية القديمة

وأهم الأهرام ثلاثة، أولها وأعظمها هرم خوفو البالغ ارتفاعه حالاً 137 متراً وطول ضلع قاعدته 227 متراً، كله من الأحجار الضخمة التي استحضرت من محاجر طرة والمقطم ومن محاجر أسوان أيضاً. وبلغ حجمه الهائل حوالي مليونين وثلث مليون من الأمتار المكعبة، له مسالك للسير في داخله والوصول إلى حجرات الدفن، كما أن له منافذ للهواء

أما هرما خفرع ومنقرع فهما أصغر قياساً وحجماً، كما أنهما نسبياً أقل أهمية من الهرم الأكبر. وتوجد بمصر أهرامات كثيرة في أبي رواش وأبي صير وسقارة ودهشور وميدوم وغير ذلك، لبعضها مميزات واضحة منها التدرج (كهرم سقارة المدرج) ومنها عدم استقامة أضلاع الزوايا (كهرم ميدوم) الذي كان في الأصل مكوناً من سبع طبقات بعضها فوق بعض لم يبق منها إلى الآن سوى ثلاث. كل هذه الأهرام كانت مقابر للملوك. ولعل ما تشعر به النفس من رهبة أثناء دخول الهرم الأكبر خير دليل على مبالغة الملوك في الحرص على أجسادهم بعد موتهم الذي نظروا إليه بكل اعتبار وبكل تقدير

أما المعابد فقد اختلفت عن الأهرام اختلافاً ظاهراً واختلافاً معنوياً، فبينما كانت الأهرام مقابر للملوك. كانت المعابد أماكن للعبادة. فضلاً عن اختلاف الوضع والتصميم

والناظر إلى المعابد المصرية إجمالاً يرى أنها تنقسم من ناحية طراز أعمدتها التي هي أبرز ما يلفت نظر الزائر لها إلى قسمين: أولهما المعابد ذات الأعمدة الشاملة لقنوات سارت مع طولها، من قاعدتها إلى نهايتها، حيث تحمل السقف مع تجردها من التيجان. وثانيهما ذات أعمدة لها حيناً قنوات وحيناً آخر خالية منها، علاوة على وجود التيجان في أعلاها. أما التيجان نفسها فكانت على هيئة زهرة اللوتس أو زهرة البردي أو على شكل نهاية النخل (العمود النخلي) أو كانت أحياناً عبارة عن مكعب على نهاية العمود الأسطواني حفرت على كل وجه من أوجهه الأربعة رؤوس نساء (ش 6) وبمقارنة المعابد المصرية المهمة بعضها ببعض، يمكن أن نعرف أن عصر نهضة فن بنائها انحصر في عهد المملكة الحديثة (1555 - 712 ق. م.) وأثناء حكم البطالسة وقياصرة الرومان (332 ق م. وما بعدها)

والدارس لتصميماتها يرى أنها شابهت إلى حد بعيد قصور الملوك والمساكن الخاصة؛ فالمدخل العام للمعبد أنشئ بحيث يؤدي دائماً إلى فناء فسيح غير مسقوف، وجوار ثلاثة جوانب منه وضعت أعمدة تشترك مع الجوانب في حمل السقف، الذي كان بعرض كاف لتظليل الممر أسفله. أما الهيكل حيث اجتمع المصلون حوله لتقديم قربانهم، فقد توسط المعبد. وكان الفناء ينتهي عادة بردهة ذات أعمدة وضعت بنظام يقسمها ثلاثة أقسام، الأيمن والأيسر متشابهين من حيث مساحة الفراغ المحصور بين الحائط والأعمدة، وأما الأوسط فكان عرضه مساوياً لفراغ الاثنين معاً نظراً لأنه طريق المرور. وفي النهاية ثلاث غرف، الوسطى منها خصصت للإله المعبود، وأما اليمنى واليسرى فكانت لزوجة الإله ولأولاده أحياناً. وكانت هناك غرفة لحفظ أدوات التقديس والأطعمة وما إليها

وأقام المصريون أمام المدخل العام لمعابدهم أعمدة شاهقة ذات أوضاع متناظرة، والى جوارها مسلات وتماثيل، ووضعوا على جانبي الطريق العمومي المؤدي إلى المدخل تماثيل لأبي الهول رابضاً أو تماثيل للكباش

وكثيراً ما أدخل الملوك المتعاقبون تحسينات أو تغييرات كثيرة على مباني المعابد التي شيدها من قبلهم. ولعل خير مثل لهذا معبد الكرنك، فأول من أمر ببنائه سيزوستريس الأول، أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، حوالي عام 1950 ق. م، خصيصاً لآمون إله طيبة، وكانت مساحته عندئذ ضئيلة، ولم يشمل سوى بعض ردهات وستة أعمدة، كانت خالية من الزخرفة، إلى أن جاء توتموزيس أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة فبنى غرفاً عدة أمام هذا المعبد. وحذا ملوك هذه الأسرة (1545 - 1350 ق. م.) حذوه فأدخلوا على معابد كثيرة شيئاً من التوسع جديراً بالذكر

ونهجت الأسرة التاسعة عشرة على منوال أدق (1350 - 1200 ق. م.)، فأضافت إلى معبد الكرنك الصالة الرائعة، التي بلغت مساحتها مائة متر في خمسين متراً، بأعمدة ارتفاعها اثني عشر متراً وربعاً، علاوة على بناء غرفتين صغيرتين، وفي عهد الأسرة الثانية والعشرين (945 - 745 ق. م) ثم عمل السور العظيم حول هذا المعبد الفذ وأهم وأجمل المعابد المصرية راجع إلى المملكة الحديثة (1580 - 1090 ق. م) تحت إشراف ملوك عظام، لا يزال التاريخ يذكرهم أمثال توتموزيس الثالث والرابع، وأمينوفيس الثاني والثالث والرابع ورمسيس الأول والثاني والثالث، وسيتي الأول. ممن شيدوا القصور والمعابد التي لا يزال بعضها رمزاً لأعظم حضارة وأقدمها.

فمعابد الكرنك ش 2 و3، وأبي دوس، والأقصر ش 4، والقرنة، ومدينة جالو، والدير البحري ش 5، وأبو سنبل ش 6، وفيلا ش 7، ودندرة ش 8، وجرف حسين، كل هذه مشيدات لم تغالب الدهر فحسب، بل تحدث كل ما جاء بعدها عن مظاهر الأبهة والمدنية، ولا تزال إلى اليوم رمزاً خالداً يوحي بالعظمة الجلال. لو كان لشعب غير الشعب المصري لواصل الليل بالنهار للعود بالمجد التالد إلى عالم الوجود

ومهما يكن من شيء، فأني لم أف الموضوع حقه من العناية في سطور ضئيلة قد لا تكفي إلا لإعطاء فكرة شاملة عن المعابد المصرية إجمالاً، غير أن هذا لا يمنع من التنويه بوجوب معرفتنا لآثار بلادنا، تمهيداً لإيصال الحاضر بالماضي، حتى نكون قد أدينا رسالتنا نحو أنفسنا ونحو الوطن، ونكون قد لمسنا بعض ما ببلادنا من نواحي ووجوه للتثقيف والاستمتاع، التفت إليها الأجانب قبل أبناء مصر

احمد موسى