مجلة الرسالة/العدد 191/في الأدب المقارن
مجلة الرسالة/العدد 191/في الأدب المقارن
موضوعات الأدب
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
يعبر الأدب عن شتى خوالج النفس وخواطر الذهن، ويصف تأثر النفس بمختلف صور الحياة وظواهر الكون وصروف الدهر، وكلها أمور لا يحد مداها ولا تحصى مذاهبها، ومن ثم لا تحد ولا تحصى أشتات الموضوعات التي يعالجها أدب أمة من الأمم في مختلف عصوره، فأدب الأمة الحي يشمل أطراف حياتها المترامية، مما يوحي به التدين والورع إلى ما يمليه التبذل والاستهتار، وما يمليه الحزن والألم إلى ما توحي به الغبطة والسرور، وما يدعو إليه التفكير والتأمل الرزين أو يحمل عليه التفكه والتندر، ومن كل ما يبعث إعجاب الإنسان ورهبته وخشوعه أو يثير احتقاره أو نفوره، ومن كل ما يوقظ حب الاستطلاع والدرس والمعرفة المركب في طبع الإنسان، ويمتد مجال الأدب حتى يختلط بشتى فروع العلم في بعض أطرافها
على أن موضوعات الأدب وإن تعذر استقصاؤها يتجمع أكبرها وأخطرها شأنا حول مواضيع رئيسية يكثر طرقها ويعزى إلى واحد منها كل أثر من آثار رجال الأدب، كالنسيب والرثاء مثلا؛ كما أن أدبا قد يختلف عن أدب في فن يحتفي به ولا يكاد يوجد في غيره، أو فنون يدمن طرقها دون غيرها، بل يختلف الأدب الواحد في عصر من عصوره عنه في عصر آخر من حيث فنون القول التي يحتفي بها ويقدمها على غيرها. فالبيئة والعصر يتركان أثرهما في فنون الأدب التي تحظى بالرواج والإقبال: ففي عصور الجهاد والصراع مثلا تسود أشعار الحماسة وتمجيد الحمى والأبطال؛ وفي عصور النزاع بين المادية والترف وبين الدين والتقاليد، تكثر آثار المجون والزيغ من جهة، وآثار الوعظ والزهد من جهة أخرى؛ وعصور البداوة تتسم آثارها بالسذاجة والعاطفة المتدفقة، وعصور الثقافة تمتلئ آدابها بآثار التأمل والأزمات النفسية؛ وكلما ارتقى المجتمع وصدق أدبه في التعبير عن حياته كثرت فنونه التي يطرقها، وطال طرقه للفنون الرئيسية التي تمت إلى النفس الحية والفكر المهذب بأوثق الأسباب، واختلف أدباؤه كل منهم يخص فنا أو فنونا منها باحتفائه. أما في عصور التدهور والركود فتضيق دائرة تلك الفنون ويتعلق كثير منها بالسطحي والتقليدي من الأقوال، ويتفق أكثر الأدباء في طريقة تناول تلك الفنون المحصورة
والأدبان العربي والإنجليزي قد تناولا أشتاتا من فنون القول، وعبرا عما لا يحصى من أفكار الإنسان ومشاعره، واتفقا في كثير من ذلك لاتفاق الطبيعة الإنسانية في كل مكان، واختلفا في مدى الاحتفال ببعض الفنون والأعراض عن بعضها لاختلاف بيئات الإنسان من إقليم إلى آخر، وظهرت في كل منهما على تعاقب العصور مواضيع لم تكن معروفة من قبل، وحظيت مواضيع دون أخرى بالحفاوة والصدارة؛ فالشعر الحماسي كان في العصر الجاهلي هو الفن الرئيسي، لما كانت تتطلبه الحياة القبلية من التعبير عن صفات القوة والغلب، ثم حلت الخطابة السياسية في صدر الإسلام محل الشعر، ثم احتل الصدارة في العصر الأموي النسيب والمهاجاة، وهلم جرا. وفي الأدب الإنجليزي بلغت الخطابة الدينية الوعظية شأوها في عهد المظهرين، وملكت الطبيعة جل اهتمام الشعراء في العصر الرومانسي، وفاز التحليل القصصي النفسي والاجتماعي بالصدارة في العصر الحديث
ولعل النسيب أحظى فنون الأدب باحتفال الأدباء في شتى الأمم، لما يصدر عنه من عواطف وغرائز متأصلة في النفس الإنسانية على اختلاف البيئات. وقد بلغ من احتفاء العرب به أنهم لم يقتصروا على الحديث عنه في مكانه، بل استهلوا به منذ عهد الجاهلية قصيدهم. ولم تخل من حديث الحب أكثر روايات شكسبير في القديم وقصص هاردي في العصر الحديث. فوسع الأدبان شتى الأوصاف لحالات الحب الراضية وأطواره الغاضبة. وإلى الحب يرجع الفضل في كثير من الآثار الأدبية وفي تكوين نفوس كثير من الأدباء، وحول حديثه يدور جانب عظيم من كل أدب؛ وقد غلا قوم فعدوه مصدر كل أدب وفن
والرثاء فن معدود من فنون الأدب في العربية والإنجليزية، يمتاز كثير من آثاره بالصدق وحرارة العاطفة وعمق التأمل. وذاك لأن حلول الموت ينقض الشمل وينغص المسرة ويذهب بالإلف، فيبعث في نفس الأديب ثورة، ويدفعها إلى مراجعة التأمل في الحياة، ويستخرج خير ما في النفس من صفات الوفاء والمودة وعذب الذكريات وخلجات الحنين.
ومن غرر المراثي في العربية رثاء مهلهل لأخيه، ودالية المعري ورثاء البحتري للمتوكل ورثاء ابن الرومي لأوسط صبيته ورثاء التهامي لولده. ومن روائع المراثي في الإنجليزية مرثية ملتون المسماة ليسيداس ومرثية شلي المسماة ادونيس ومرثية تنيسون المسماة الذكرى. وقد نظم منهم قصيدته في رثاء صديق له رفيق لصباه مات معتبطا ومن بدائع المراثي الإنجليزية أيضاً خطبة مارك انطوني على جسد قيصر في رواية شكسبير الذائعة الصيت، ومرثية جراي التي نظمها في مقبرة قرية
والتدين والوعظ فن يشترك فيه الأدبان، يتمثل في العربية في خطب الرسول الكريم وكثير من خلفائه، وكثير من أشعار أبي العتاهية وأبي نواس وابن عبد القدوس وابن الفارض وأصحاب المدائح النبوية؛ وفي الإنجليزية في كثير من شعر ملتون ودن ونثر هوكروبنيان ونيومان، وأكثر ما كتب من ذلك في الإنجليزية إنما كان بأقلام رجال الدين المنتمين إلى الكنيسة. أما العربية حيث لم تكن للدين هيئة رسمية ذات نفوذ كالكنيسة فجاء أدب التدين متفرقا يستوي في معالجته رجال الدين المتفقهون فيه ورجال الدنيا غير المتوفرين عليه. ومن أنبغ رجال الدين في الأدب العربي الإمام الشافعي الذي يمتاز شعره برصانة ونقاء رائعين، ومن آثاره قوله:
ثلاث هن مهلكة الأنام ... ودعاية الصحيح إلى السقام:
دوام مدامة ودوام وطء ... وإدخال الطعام على الطعام
وقوله:
ومن لم يذق ذل التعلم ساعة ... تجرع ذل الجهل طول حياته
حياة الفتى والله بالعلم والتقى ... إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
والميل إلى الصداقة طبع في الإنسان لا يكاد يقل عن الحب تمكنا وقوة، فما يزال الإنسان في حنين إلى الأليف الروحي الذي يبادله الفهم والشعور، ويقاسمه الحزن والسرور؛ ومن ثم تشغل الرسائل والقصائد الإخوانية في الأدبين العربي والإنجليزي مكانا معدودا، بين تخاطب في شتى الأمور وبين تعارف وتقاطع، وبين تعاتب وتقريع. ومن آثار الصداقة في الإنجليزية كثير من مقطوعات شكسبير، وما كان بين بوب وكوبر وليدي منتاجيو وبعض معاصريهم من تراسل، وما كان بين جونسون وجولد سمث وبوزويل وجماعتهم من أحاديث دونها الأخير في كتابه عن الأول، وما كان بين جراي وشلي وبيرون وكثيرين غيرهم وبين أصدقائهم في الوطن من مراسلات، حين كان أولئك الشعراء يطوفون في ربوع أوربا. وللجاحظ والبديع والصابي وابن العميد رسائل إلى أصدقائهم بارعة تعد في صميم الأدب العربي. ولم تكن رسالة الغفران إلا رسالة بين صديقين. ومن قصائد التعاتب المشهورة لامية معن ابن اوس التي مطلعها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول
وهمزية ابن الرومي الطويلة التي مطلعها:
يا أخي أين عهد ذاك الإخاء؟ ... أين ما كان بيننا من صفاء؟
ونقد الأدب موضوع مهم من مواضيع الأدب، تلذ قراءته كما تلذ قراءة آثار الأدب الأخرى، لما يحوي من عام النظرات وخاصها في مختلف الأدباء وعصور الأدب. ومما يزيد أكثر كتب الأدب في العربية ككتاب الصناعتين وكتاب الوساطة إمتاعاً حفولها بالكثير من بدائع المختارات والمقتبسات. وفي الإنجليزية يحتفي بعض النقاد أمثال ماكولي وماثيو أرنولد وإديسون بأسلوبهم الأدبي في نقدهم لآثار غيرهم، حتى ترى آثارهم النقدية مضاهية لما ينقدونه لذة وإمتاعاً. ويمتزج بنقد الأدب في الإنجليزية نقد الفنون الجميلة عامة، والإشارة إلى القواعد التي تشملها هي والأدب؛ ففي مقاله عن بيرون مثلا يوضح ماكولي آراءه بأمثلة من الفنون الأخرى من موضع إلى آخر.
وأحوال المجتمع وأحداث السياسة ليست مما يمر بالأديب المثقف دون أن يكرثه، بل لابد أن يترك ذلك أثره الواضح في أدبه. وقد كان شعر الجاهليين سجلا موجزاً لكبريات أحداثهم، فلما خضع العرب للملكية بعد الإسلام كفكفت تلك النزعة كثيراً؛ وقل نقد الأنظمة الاجتماعية والسياسة في الأدب والتعليق على الحوادث إلى حد كبير، إلا أن يكون في ذلك مجاراة ومظاهرة لأصحاب السلطان. وقد قتل المنصور ابن المقفع الذي رفع إليه رسالة في شؤون الحكم وإن عزي مقتله إلى سبب آخر وأحيط بالغموض. إنما أثر السياسة والحوادث في الأدب بعد الإسلام باد في الرسائل الديوانية التي كان يتأنق الوزراء الكاتبون أمثال سهل بن هرون والقاضي الفاضل وابن زيدون في كتابتها إلى عمال الأمير وأنصاره وأعدائه والخارجين عليه، كما أن في كتابات الجاحظ ومقامات البديع تصويراً واضحاً لكثير من أحوال مجتمعهم وأنبائه. ومن أشعار الأحداث السياسية قصيدة يزيد المهلبي في رثاء المتوكل وقصيدة ابن الرومي في ثورة الزنج التي منها يقول:
بينما أهلها بأحسن حال ... إذ رماهم عبيدهم باصطلام
صبحوهم فكابد الناس منهم ... طول يوم كأنه ألف عام
وهذا الفن أوسع محيطاً واحفل بالآثار في الإنجليزية، حيث مهدت الحكومة الديمقراطية السبيل للنظرات الحرة والنقدات الصادقة. وكان استقلال الأمة الإنجليزية عن غيرها واعتزالها سواها إلى حد بعيد داعياً إلى اشتداد الشعور القومي والإحساس بوحدة المجتمع والاهتمام لشؤونه كأنها شؤون كل فرد الخاصة. وقد قال الإمام علي: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. وما أسماه مبدأ إنسانياً ومذهباً ديمقراطياً وحكمة عمرانية؛ بيد أنه كان شعار المجتمع الإنجليزي أكثر منه شعاراً للمجتمع العربي، ومن ثم كانت لأكثر أدباء الإنجليزية نظراتهم الإصلاحية الخاصة، التي تتراوح بين الخطرات العارضة وبين الرغبة في الانقلاب الكلي، وظهرت القصة نتيجة هذا الاندماج الاجتماعي تصور المجتمع تصويراً دقيقاً لا يغادر منحى ولا مذهباً.
ولكن الحياة ليست كلها جداً مرا، ولا النفس الإنسانية تحتمل الجد المواصل، وإنما يميل الإنسان بطبعه إلى الترفيه عن نفسه بالتفكه والنظر إلى الجانب الهزلي من الحياة. والأدباء لدقة إحساسهم ونفاذ نظراتهم سريعون إلى ملاحظة مواطن التناقض ومواضع الفكاهة في أخلاق الناس وأعمالهم؛ ومن ثم يحفل الأدبان العربي والإنجليزي بصور عديدة من صور الفكاهة، تتراوح درجاتها بين العبث البريء في أيدي شكسبير وجولد سمث واديسون والجاحظ، وبين السخر المرير في أيدي سويفت وبوب وابن الرومي والمعري، ويتناول بها الأدباء منافسيهم ومعاصريهم ويفندون حماقات المجتمع
وهناك مواضيع احتفى بها الأدب العربي حفاوة بالغة تفوق ما نالته في الإنجليزية، وأولها الحكمة: فأدباء العربية كانوا منذ الجاهلية يعشقون الحكمة ويحبون نظمها والاستماع إلى أشعارها، بل كانوا كما قيل لا يعترفون لشاعر بالفحولة حتى يوفق إلى شيء منها. وظل الأعشى مزوياً عن مصاف الفحول حتى قال في مدحه سلامة ذا فائش: (والشيء حيثما جعلا)، فجمع صدق النظرة إلى إيجاز اللفظ وهما سمتا الحكمة عند العرب. ولما اطلع العرب على ثقافات الأمم كان أهم ما احتفوا بنقله من آدابهم الحكمة. ومن كتب الحكمة مؤلفات ابن المقفع ومقصورة ابن دريد والخطب المنسوبة إلى قس ابن ساعدة والإمام علي، والجم الغفير من أشعار المتنبي التي سارت مسير الشمس؛ وليس من محض الصدفة أن كان أكبر شعراء العربية وأسيرهم ذكراً حكيما مكثراً لصوغ الحكم وضرب الأمثال. وبالحكمة الصادقة البليغة الموجزة كان الأديب العربي يستغني عن فنون وأشكال من الأدب ازدهرت في الإنجليزية، كالقصة والرواية التمثيلية والملحمة، فالعبرة التي تنطوي عليها إحدى هذه يجمعها الشاعر العربي في بيت واحد يلقيه إليك وخلاه ذم
واقتباس الحكمة والمثل والاستشهاد بأقوال السلف أقل حدوثا في الإنجليزية منه في العربية، لأن الحكم الموجزة التي تغزر في الأخيرة قليلة في الأولى. وكثيراً ما يلجأ المقتبس في الإنجليزية إلى الأدبين الإغريقي واللاتيني، وحتى هذا يبطل تدريجياً في العصور الحديثة. واكثر أدباء الإنجليزية حظوة لدى المقتبسين والمستشهدين شكسبير، وليس ذلك لأنه كان يتعمد صوغ الحكمة أو يحرص على التكثر منها، بل لأن رواياته من جهة قد أحاطت بشتى أحوال الحياة والنفس الإنسانية، بحيث يجد فيها كل كاتب شيئاً مقاربا لما هو بصدده، ولأن مقدرته اللغوية العظيمة من جهة أخرى كانت تهديه إلى صوغ أفكاره صياغة موجزة ممتنعة؛ ويليه سيرورة أقوال بوب، زعيم الأسلوب المحكم الرصين الذي كان شعاره في الأدب التعبير (عما قيل من قبل كثيرا، ولكن لم يقل أبدا بهذا الإحكام)، فسار كثير من أبياته المحكمة الموجزة على الأقلام والأفواه
ومما يتصل بالحكمة في الأدب العربي ويمتاز هذا الأدب به التمدح بحميد الخصال كالجود والشجاعة وحمي الذمار وحسن الجوار وحفظ السر وكظم الغيظ ومداراة السفيه، إلى غير ذلك من الدساتير الخلقية التي كان كثير من أشراف العرب الأدباء يسنونها لأنفسهم، وامتداح تلك الصفات في الغير والحث عليها، وهذا من أنبل مواضيع الأدب العربي، ولحاتم الطائي ومسكين الدارمي والمقنع الكندي والشريف الرضي والإمام الشافعي آثار في ذلك، تروع برصانة أسلوبها ومتانة أسرها وعظمة خلقها؛ فلما غلب التقليد على الأدب، ودخل الشعر في طور التقهقر انقلب مثل هذا التمدح المحبوب الصادق المقرون بالفعال فخرا عاجزا أجوف، بمآثر وهمية وعزائم مزعومة، وتيها على النجوم ودلا على الزمان، كقول السري الرفا:
وإنك عبدي يا زمان وإنني ... على الرغم مني أن أرى لك سيدا:
والغريب أن أحد أولئك الشعراء المتشدقين بالفخر ربما قرنه في القصيدة الواحدة بشكوى سوء الحال وقعود الجدود وخيبة الآمال. والشكوى موضوع من مواضيع الأدب العربي كانت أقرب إلى متناول أدبائه منها إلى أدباء الإنجليزية؛ وقد فشت خاصة في آثار المتأخرين. والأدب العربي من جهة أخرى أحفل بوصف آثار الترف ومظاهره: من القصور والمحافل ومجالس الشراب وآلات الطرب ودواعي المجون. وللخمر خاصة منزلة في الأدب العربي لا نظير لها في الإنجليزية، وقد حظيت من جزالة أسلوب الأخطل وأبي نواس وابن الرومي بما خلد أوصافها وأعلى ذكرها، وقلما يرد ذكر الخمر في الأدب الإنجليزي إلا تظرفا وتشبها بالإغريق الأقدمين وإشارة إلى باخوس إله الخمر عندهم
وراج في الأدب العربي فنان ليسا من صميم الأدب في شيء، ومازالا يرقيان حتى احتلا مكان الصدارة من الأدب، وموضع الحفاوة من الأدباء، وهما المدح والهجاء اللذان استفحل أمرهما من عهد الأمويين فنازلا، حتى استبدا بأجزاء كبيرة من دواوين بشار وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي، وكادا يشغلان كل دواوين آخرين غير هؤلاء. وما كان ارتفاع شأنهما هكذا إلا نتيجة فساد تقاليد قديمة، كانت في الجاهلية تقاليد محمودة لا ضير فيها، ثم استمرت بعد ذهاب عصرها واندثار بيئتها بظهور الإسلام وقيام الدولة المتحضرة المركزية ففسدت تلك التقاليد وصارت بلاء على الأدب الصحيح
كان العرب الجاهليون يحرصون على حسن الأحدوثة، ويتمدحون بكريم الصفات، وينافحون خصومهم بالشعر، ويجزون من فعل ذلك عنهم، وكان ذلك كله وليد بيئتهم البدوية، فلما كان الإسلام والدولة والحضارة لم يعد لمثل ذلك التفاخر والتهاجي موضع، ولكن الشعراء استبقوا ذلك التقليد طلباً للنوال، والأمراء قبلوا منهم ذلك الأحياء المفتعل لتقليد غبر عصره طلباً للمجد الزائف. ومن العسير أن تحصى المساوئ التي جرها هذان الفنان من القول على الأدب العربي: مواضيعه ومعانيه وأساليبه
ولم يكن في الإنجليزية شيء من هذين الفنين يقاس بما كان في العربية، وحتى القليل من المدح الذي كان في بعض الفترات يستفز الأدباء الأباة إلى مثل قول بوب: (فلأعبر عن رأيي في الأمر في كلمة: إن وصف الرجل بأكثر مما نعلم فيه عمل بعيد عن الأمانة إذا قصد من ورائه الربح، وعمل أخرق إذا لم يقصد، وكل من نجح في مثل هذا العمل لابد أن يعتقد في قرارة نفسه أنه هو نفسه دجال لأنه فعل ذلك، وأن ممدوحه أحمق لأنه صدق ما قيل فيه)
وعلى حين احتفى شعراء العربية بهذين الفنين الزائفين من فنون القول، أهملوا إلى حد بعيد فناً هو من صميم الأدب والحياة، وهو والوصف الطبيعي: فديوان المتنبي الذي يعج بمعاني المدح والهجاء المخترعة لا يضم إلا أبياتاً معدودة منثورة في التغني بمباهج الطبيعة. أما في الإنجليزية فالطبيعة وحي ما لا يعد من قصائد بين مقطوعات ومطولات، ووصفها يتخلل أشتات المنظوم والمنثور في مختلف الأغراض، وهي المنظر الخلفي لكثير من روايات العصر الأليزابيثي وملاحم ملتون وسبنسر ومطولات تنسيون وقصص هاردي، بل بلغ من دقة دراسة تنيسون إياها أن اصبح شعره يقتبس في كتب الجيولوجيا والجغرافيا أحياناً، وبلغ من معرفة هاردي بطبيعة الإقليم الذي أجرى فيه حوادث قصصه، أن كان يخصص الصحائف الطوال لوصف المنظر الواحد في قصصه بدقة العالم لا القصصي
وهناك مواضيع أدمن أدباء الإنجليزية ورود مناهلها وغزرت آثارها في أدبهم، فكانت فيه مادة فن وإمتاع وغبطة: كالتحدث عن المغامرات وروائع القصص وعجائب الرحلات، وجسام حوادث الماضي وعظائم أبطال الأمم، وممتع خرافات الأجيال وأغنيات طبقات الشعب وأقاصيصهم، كل هاتيك وجد فيها أدباء الإنجليزية منادح للفن والخيال ومعارض لميول النفس الإنسانية وطباعها وسجاياها المرسلة؛ أما الأدب العربي فيمتاز بكفكفة غلواء الخيال والتجافي عن البعيد من الأمكنة والأزمنة والازورار عن الأمم الأخرى والترفع عن العامة وثقافتهم المتواضعة، واحتقار الخرافة وأساطير الماضين.
واتخذ الأدب الإنجليزي التاريخ الواقعي مادة لموضوعاته: منه اتخذ الأليزابثيون مواضيع بعض رواياتهم، وفيه جال جيبون وسوذي وماكولي وكارليل، يدرسون كبريات الوقائع وعظماء الرجال وإليه رجع الشعراء والقصصيون، وقد صور سكوت في قصصه حوادث التاريخ تصويراً يفوق كتب التاريخ أحياناً دقة ووضوحاً، ولم يكد يلتفت إلى التاريخ من أدباء العربية ويتناوله في أسلوب أدبي جزل سوى الجاحظ.
فالأدبان العربي والإنجليزي قد تناولا مواضيع مشتركة بينهما، وطرق كل منهما مواضيع لم يحتف بها الآخر. على أن الأدب الإنجليزي أغزر موضوعات وأكثر شغلا بأسباب الحياة؛ والأدب العربي لم يظل دائماً ترجماناً لكل عواطف المجتمع العربي، وكانت روح المحافظة التي سببت عدم تطور أشكاله سبباً في قلة تطور مواضيعه أيضاً، فأهمل مواضيع شتى تمت إلى الطبع الإنساني بأوثق الأسباب وتدخل في حظيرة الأدب أول داخل، وتناول غيرها لا تمت إلى الفن بسبب، ومرجع ذلك ما خالطه من نزعة تقليد جامدة، وما اعتمد عليه من رعاية الأمراء، على حين كان الأدب الإنجليزي دائماً حر النزعة حر الحركة والنمو
فخري أبو السعود