مجلة الرسالة/العدد 19/بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 19/بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام

مجلة الرسالة - العدد 19
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1933



- 8 -

ويقول السير إدوارد كريزي: (إن النصر العظيم الذي ناله كارل مارتل على العرب سنة 732 وضع حداً حاسماً لفتوح العرب في غرب أوربا، وأنقذ النصرانية من الإسلام، وحفظ بقايا الحضارة القديمة وبذور الحضارة الحديثة، ورد التفوق القديم للأمم الهندية الأوربية على الأمم السامية) ويقول فون شليجل في كلامه عن الإسلام والإمبراطورية العربية: (ما كاد العرب يتمنون فتح أسبانيا حتى تطلعوا إلى فتح غاليا وبورجونيا. ولكن النصر الساحق الذي غنمه بطل الفرنج كارل مارتل بين تور وبواتيه وضع لتقدمهم حدا، وسقط قائدهم عبد الرحمن في الميدان مع زهرة جنده، وبذا أنقذ كارل مارتل بسيفه أمم الغرب النصرانية من قبضة الإسلام الفاتكة الهدامة إلى الذروة) ويقول رانكه: (إن فاتحة القرن الثامن من أهم عصور التاريخ، ففيها كان دين محمد ينذر بامتلاك إيطاليا وغاليا، وقد وثبت الوثنية كرة أخرى إلى ما وراء الرين، فنهض إزاء ذلك الخطر فتى من عشيرة جرمانية هو كارل مارتل، وأيد هيبة النظم النصرانية المشرفة على الفناء بكل ما تقتضيه غريزة البقاء من عزم، ودفعها إلى بلاد حديثة). ويقول زيلر (كان هذا الانتصار بالأخص انتصار الفرنج والنصرانية، وقد عاون هذا النصر زعيم الفرنج على توطيد سلطانه لا في غاليا وحدها ولكن في جرمانيا التي أشركها في نصره): (على أن هناك فريقاً من مؤرخي الغرب لا يذهب إلى هذا الحد في تقدير نتائج الموقعة وآثارها، ومن هذا الفريق المؤرخان الكبيران سسموندى وميشليه. فهما لا يعلقان كبير أهمية على ظفر كارل مارتل. ويقول جورج فنلى: (إن أثرة الكتاب الغاليين قد عظمت من شأن تغلب كارل مارتل على حملة ناهبة من عرب أسبانيا، وصَّورته كانتصار باهر ونسبت خلاص أوربا من نير العرب إلى شجاعة الفرنج في حين أن حجابا ألقي على عبقرية ليون الثالث إمبراطور (قسطنطينية) وعزمه مع أنه نشأ جنديا يبحث وراء طالعه ولم يكد يجلس على العرش حتى احبط خطط الفتح التي أنفق الوليد سليمان طويلاً في تدبيرها) ونحن مع الفريق الأول نكبر شأن بلاط الشهداء أيما إكبار، ونرى أنها كانت أعظم لقاء حاسم بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب، ففي سهول تور وبواتيه فقد العرب سيادة العالم بأسره وتغيرت مصائر العالم القديم كله وارتد تيار الفتح الإسلامي أمام الأمم الشمالية كما ارتد قبل ذلك بأعوام أمام أسوار قسطنطينية وأخفقت بذلك آخر محاولة بذلتها الخلافة لافتتاح أمم الغرب وإخضاع النصرانية لصولة الإسلام، ولم تتح للإسلام المتحد فرصة أخرى لينفذ إلى قلب أوربا في مثل كثرته وعزمه واعتزازه يوم مسيره إلى بلاط الشهداء. ولكنه أصيب قبل وبعد بتفرق الكلمة، وبينما شغلت إسبانيا المسلمة بمنازعاتها الداخلية، إذ قامت فيما وراء البرنيه إمبراطورية فرنجية عظيمة موحدة الكلمة تهدد الإسلام في الغرب وتنازعه السيادة والنفوذ.

محمد عبد الله عنان

المستشرق برجستريسر 5 أبريل سنة 1886 - 18

أغسطس سنة 1933

للدكتور إسرائيل ولفنسون. مدرس اللغة العبرية بكلية الآداب

وقع نظري أثناء مطالعتي في الجرائد اليومية التي وصلتني من ألمانيا على خبر لم يوضع في مكان بارز كأنه ليس من الأهمية في شيء، ورد فيه نعي جوتهلف برجستريسر أستاذ اللغات السامية بجامعة ميونيخ، سقط أثناء رحلة رياضية في جبال الألب من قمة جبل جلوكنر إلى هاوية توفى فيها على الفور، لو وقع هذا الحادث منذ سنوات قليلة لكان قد وضع في مكان أبرز، وعلى حالة تلفت القراء أكثر مما هو في جرائد هذه الأيام، لأن ألمانيا الحالية ليس فيها من يعبأ كثيراً بمن توفي من العلماء المستشرقين، ولكني روعت لهذا الخبر الذي أدمى قلبي وملأه حزناً وأسى.

كان علم الاستشراق قد قطع شوطاً بعيداً في أواخر القرن الماضي في جامعات أوربا على العموم، وفي ألمانيا خاصة حتى وصل ببحوث نولدكه وجولدسيهرويت ويستنفلد وليتش وغيرهم إلى أوج مجده ثم أخذ بعد انتهاء الحرب العظمى ينحدر من قمة الجبال إلى بطون الوهاد ويتضاءل شيئا فشيئا.

ويجب أن يلاحظ أن الحرب العالمية قد أدت إلى انحطاط العلم على العموم في أوربا، لأن التفكير الجدي والقراءة الدقيقة انقطع عنهما الشباب الذي أخذ يميل إلى البحوث السطحية وإلى اكتساب العلم عن طريق الراديو والسينما، كما انتشر في الجامعات توغل جمهرة الطلبة في الشؤون السياسية والحزبية اكثر من توغلهم في البحوث العلمية.

وقد توفي من خيرة الأساتذة المستشرقين (جولدسهر ونولدكه شبيجلبرج وبيجر وهورديتس) دون أن يأتي غيرهم فيملأ الفراغ الذي تركوه في شتى العلوم التي كانوا يضحون حياتهم في سبيلها. وأما الآن فنجد عدداً غير قليل من الأساتذة يملئون أروقة الجامعات في ألمانيا وهم من الذين يناصرون الحزب الذي يقبض الآن على ناصية الحكم في البلاد. . . هذه الأفكار أخذت تقلق بالي في تلك اللحظات التي قرأت في الجرائد الألمانية عن وفاة العالم برجستريسر.

نشأ الأستاذ برجستريسر في أسرة ألمانية مسيحية بروتستانتية وكان أبوه وجده قسيسين في مدينة بلون

من أعمال زكسن بألمانية، ومن هنا يسهل فهم سبب عناية والديه بتربيته الدينية في المدرسة الابتدائية والثانوية، إذ أراد أن يحقق أمنيتهما حتى يكبر تقياً ويصبح صالحاً لرداء الكهنوت ويكون خير خلف لخير سلف، ولكن جوتهلف برجستريسر مال عن هذه الرغبة إلى البحث في اللغات السامية والعلوم الإسلامية حين دخل في جامعة ليبزيج في سنة 1904 وقد درس آداب اللغة العربية عند العالم أوجست فيشر الذي يعتبر إلى يومنا الحالي من قادة النقاد لدى جمهرة المستشرقين، وقد أثرت روح النقد في جستريسر حتى أضحت على كر الزمن من مميزاته البارزة لا في الكتابة وإلقاء المحاظرات فحسب، بل أثناء محادثاته العادية مع محدثيه، كانت لا تفوته كبيرة أو صغيرة دون أن يتعرض لها إذا وجد مجالا للمعارضة أو الانتقاد.

ونذكر بهذه المناسبة إن فيشر، شيخ النقاد، كان على الدوام ينتقد بكل شدة مؤلفات المستشرقين حتى هابه عظماء العلماء في العصر الحاضر، على إن فيشر لم يؤلف المؤلفات الكبيرة كما فعل العلماء الذين انتقد مصنفاتهم بل كان يكتفي بوضع المقالات، وأخذ بعض العلماء يهزءون به ويقولون أن فيشر لا يحب أن ينشر كتبا خوفا من شبح النقد وانتقام النقاد، ومن أكبر عيوب أوجست فيشر أنه بدأ يدون جملة كتب في موضوعات شتى منذ سنين كثيرة ولم ينته منها، إذ من المعلوم انه يعمل منذ ثلاثين سنة في تأليف قاموس عربي علمي دقيق للشعر العربي القديم لم يطبع إلى الآن، وكذلك بدأ في مراجعة جملة مخطوطات لكتاب المغازي للواقدي منذ أمد بعيد وإلى الآن لم ينته منه أيضاً. وكان كاتب هذه السطور قد التقى بالأستاذ فيشر في مدينة فينا في مؤتمر المستشرقين في سنة 1930 فعرض عليه أن يتم مراجعة بقية الأجزاء من كتاب المغازي للواقدي، فلما سمع فيشر اقتراحه بدا اضطراب على وجهه وسكت طويلا كأنه لم يتمكن من أن يبوح بكلمة، ثم أجاب بعد تفكير طويل: أمهلني حتى أفكر ملياً في هل أكمل الكتاب أم أقدمه إليك مع جميع المخطوطات والصفحات التي بدأت بمراجعتها. . . فلما قصصت حكاية المقابلة مع فيشر للأستاذ يرجستريسر ابتسم ابتسامته الحلوة قال: فيشر لن يرسل إليك الصفحات التي راجعها أبداً كما لن يخبر أنه عزم على أن لا يتم الكتاب. . .

على أن فيشر كان قد درب في جامعة ليبزيج تحت أشرافه عددا لا يستهان به من العلماء حتى أصبحوا من فحول المستشرقين فيما بعد، وكان بينهم الأستاذ جوتهلف برجستريسر.

وبعد أن أتم برجستريسر دراسته الجامعية وقدم رسالة عن حروف النفي وأسماء الاستفهام في القرآن الكريم في سنة 1911 قام برحلة إلى الأقطار الشرقية في سنة 1913 فزار الأناضول وسورية وفلسطين ومصر وما كاد يصل إلى ألمانيا من هذه الرحلة المباركة حتى بدأت الحرب العظمى فدعي إلى ساحة القتال، وظل متنقلا مع الجيش الألماني في أرض بلجيكا وفرنسا إلى أن دعته الحكومة التركية في سنة 1915 لإلقاء محاضرات في جامعة الأستانة، وكان أول عهده يلقب أستاذ، وقد بلغ حينئذ العام الثلاثين من حياته، ولما ذاع صيته دعي لإلقاء محاضرات في جامعات ألمانيا في العلوم الإسلامية واللغات السامية كانت أولها جامعة كونسبرج في سنة 1919 وفي عام 1922 انتقل إلى جامعة برسلو ومنها إلى جامعة هيدلبرج في سنة 1924 ثم دعي إلى مدينة ميونيخ، سنة 1926 التي ظل يدرس بها إلى أن أدركته المنية.

تنقسم مؤلفات برجستريسر إلى أربعة أنواع أصلية، نوع يشتمل كتبه عن اللغة العربية وعلم اللغات السامية، ونوع آخر يبحث في الآرامية ولهجاتها، ونوع ثالث يحتوي على مصنفاته ومطبوعاته في الآداب العربية والعلوم الاسلامية، وأما النوع الرابع فيشمل مقالاته عن علوم اللغة التركية.

على العموم تمتاز كتابة برجستريسر بدقة الجمل القليلة في ألفاظها، الكثيرة في معناها، يعبر عما يجول في خاطره بعد تفكير طويل، وبعد إحاطة بالموضوع من جميع نواحيه، وإلمام شاق بجميع المراجع الكبيرة والصغيرة مع استعمال الأدلة العلمية الدقيقة، مما يجعل القارئ يحتاج إلى قراءة الكتاب بأناة حتى يقف على النظريات الغزيرة.

ومن أهم ما دون برحستريسر في حياته: كتابه عن قواعد اللغة العبرية، ومما لا شك عندنا أنه اخطر كتاب في موضوعه منذ بدأ البحث في علوم الأمم الشرقية على الطريقة العلمية المألوفة عند الإفرنج، وقد أظهر المؤلف في هذا المصنف أنه وقف على جميع النظريات التي الفت في هذه المادة في جميع العصور بين كتب ومقالات معروفة ومهجورة، وهذا المام يندر أن يوجد بين علماء اليهود أنفسهم.

ومع أن كتابه هذا وضع لجمهرة الطلبة في الجامعات فانه لم يستعمل كثيراً بين هؤلاء لأنهم لم يتمكنوا من فهمه وإدراكه حق الإدراك، لذلك اصبح كتاباً للأساتذة والمدرسين في المعاهد العليا كما هو شأن جميع كتب برحستريسر التي انحصر تداولها بين أيدي الذين نضجت عقولهم وتمرنوا على مطالعة الموضوعات العويصة والكتب الفنية الدقيقة.

وله كتاب آخر سمى المدخل إلى اللغات السامية ويجب أن يلاحظ أنه بعد أن نشر مصنف نولدكه عن اللغات السامية، وكتاب بروكلمان الكبير عن الموازنة بين قواعد اللغات السامية جاء برجستريسر وأضاف كتاباً جديداً في هذه المادة، وكان الناس يتوقعون أنه لا يأتي بجديد، ولكن ظهور الكتاب أزال كل أثر لتلك المخاوف، إذ جاء جديداً في اسلوبه، فياضاً في نظرياته، ثائراً على القديم، يلقي أحكامه الجديدة ويهدم قضايا مألوفة ومعروفة.

وله كذلك كتاب في جغرافية اللغة في سورية وفلسطين وضعه لاغراض عملية لرجال الجيش الألماني في البلدان العربية أثناء الحرب العظمى.

وقد ذكرنا رحلة الأستاذ برجستريسر إلى البلدان الشرقية، وكان قد أقام مدة من الزمن في دمشق بحث فيها بحثاً علمياً دقيقاً عن اللهجة العامية في دمشق، كما وجه عناية شديدة إلى البقية الباقية من الأرهاط السريانية التي تقطن في المعلولة وهي ضاحية من ضواحي دمشق. وصنف رسالتين إحداهما عن اللهجة السريانية عند أهل معلولة والأخرى عن الروايات الخرافية الجديدة عند الآراميين.

على أن الأستاذ برجستريسر وجه جل عنايته إلى البحث في العلوم الإسلامية والعربية، وكانت باكورة مصنفاته في هذه المواد رسالته عن حنين بن اسحق ومدرسته، ومما لا شك فيه أن اللذين يكتبون عن الفلسفة اليونانية وأثرها في الفلسفة الإسلامية وعن حركة الترجمة والنقل من اليونانية إلى العربية بواسطة السريان، يجدون في هذا السفر مادة غزيرة لا يمكنهم أن يستغنوا عنها مطلقاً.

وله كتاب آخر وهو عظيم الخطر في العلوم الإسلامية أعني به ما كتبه عن مصاحف القرآن الكريم. كان الأستاذ نولدكه قد ألف في أواسط النصف الثاني من القرن التاسع عشر كتاباً عن تاريخ القرآن كان له الدوي العظيم والأثر البعيد في أندية العلماء في أوربا، ولما احتاج الكتاب إلى تنقيح وزيادات وكان الأستاذ نولدكه قد توغل في بحوث أخرى تناوله الأستاذ شوللى واخرج الطبعة الثانية من كتاب تاريخ القرآن الكريم مع زيادات وملاحظات كثيرة، ولم يكن الكتاب كمل بعد، لذلك أتم برجستريسر ما بدأ به نولدكه وشوللي فدون الجزء الثالث من تاريخ القرآن الكريم وهو كتابه عن المصاحف، وقد رأى الأستاذ برجستريسر أن يبحث في قراءات القرآن وهي مادة لم يكن ليشتغل فيها غيره من كبار المستشرقين، فقضى سنين طويلة يراجع بصبر وأناة كل ما دون في أمهات المصنفات الإسلامية في هذه المادة من كتب مطبوعة ومخطوطة، وكانت نتيجة هذه الأبحاث الطويلة أنه طبع (1) كتاب غاية النهاية في طبقات القراء لشمس الدين أبي الخير محمد الجزري المتوفى سنة 832 هـ (2) كتاب شواذ القراءات لابن خالويه (3) رسالة باللغة الألمانية عن القراءات القرآنية الشاذة في كتاب المحتسب لابن وهو آخر مصنف وضعه الأستاذ برجستريسر في حياته، ومما يلفت الأنظار أن هذا الكتاب مقدم إلى الدكتور طه حسين.

ويجب ألا يغيب عن البال إن الأستاذ برجستريسر قد أتقن ما عدا اللغات السامية: الفارسية والتركية أيضاً، وقد وضع جملة مقالات عن آداب هاتين اللغتين نشرت في مجلات المستشرقين في مناسبات شتى كان الأستاذ أنوليتمان

المستشرق الشهير صاحب المدونات عن الكتابات العربية قبل الإسلام، المعروفة بالخطوط الثمودية واللحيانية (راجع كتاب تاريخ اللغات السامية لكاتب هذه السطور ص 175 - 188) بعد أن ألقى محاضرات في الجامعة المصرية في السنة الدراسية 1928 - 1929 ولم يستطع الرجوع إلى الجامعة بعد ذلك الحين أشار على الهيئات الرسمية بالجامعة المصرية بأن يدعو الأستاذ برجستريسر لإلقاء محاضرات في الجامعة المصرية.

وقد قوبل الاقتراح ولبى الأستاذ برجستريسر دعوة الجامعة وحضر إلى القطر المصري وكان مجيء برجستريسر حادثاً خطيراً في حياة الجامعة المصرية إذ كان الأساتذة والمدرسون يقبلون عليه ويحضرون مع الطلاب محاضراته النفسية، وكان يلقي في ذلك العام (1930) محاضرات عن التطور النحوي للغة العربية. وكان في محاضراته الأولى كثير العجمة والإبهام في لغته العربية، وكان يقرأ المحاضرة من الورقة المكتوبة التي كانت أمامه، ثم أخذ بعد جملة أسابيع يتحرر شيئاً فشيئاً من الكراس، وأخذ يرتجل الجمل ارتجالاً ويفصح في الكلام افصاحاً، ثم رجع في سنة 1932 إلى مصر وألقى محاضراته عن اللهجات العامية في الموصل. كان يفيض كالبحر الزاخر بلغة عربية فصيحة كانت مفهومة واضحة لجمهرة الطلبة ويجب أن يقال بكل صراحة إن عدد الحاضرين عند برحستريسر كان في بادئ الأمر كبيراً، ثم أخذ ينقص على كر الزمان إلى أن انحصر الحاضرون في طلبة قسم اللغات السامية فقط، والسبب في ذلك يرجع إلى أن محاضرات برجستريسر كانت فنية قبل كل شيء أي إن الذين لم يدرسوا اللغات السامية لم يفهموا كثيراً مما كان يلقي الأستاذ، وفوق ذلك فأن عقلية برجستريسر كانت دقيقة وعميقة وكانت محاضراته موجهة إلى أصحاب الثقافة الراقية قبل كل شيء.

لم يكن برجستريسر أكبر الأساتذة سنا، ولكنه كان أعلاهم مقاما وأغزرهم علما وكانوا يوجهون إليه الأسئلة حتى يقفوا على آرائه في كثير من الموضوعات ومن هنا ادخل برجستريسر في هيئة التحرير في المجلة العلمية الشهيرة في أدبيات وكان مدة من الزمن رئيس التحرير في المجلة الألمانية للعلوم السامية. كان الأستاذ برجستريسر يسرف في إجهاد نفسه حتى أضناه العمل لأنه كان فوق البحث والفحص لتنظيم محاضراته لطلبة الجامعة المصرية، يمضي ثلاثة أيام كاملة من الصباح إلى الغروب في المكتبة الملكية يجلس إلى مائدة في غرفة منفردة ويراجع مخطوطات في قراءات القرآن، ثم اضطر إلى ملازمة الفراش، فعنفه الأطباء على اجتهاده المفرط الذي ينذر بالخطر وأشاروا عليه بترك العمل في المطالعة والتأليف ولكنه لم يحفل بهم.

وكان برجستريسر يحب الجبال، والرياضة في الجبال، يتنزه أسابيع كاملة على خلوة بنفسه، وفي اليوم الثاني عشر من شهر أغسطس المنصرم صعد جبل جلوكز الشامخ فحدثت الفجيعة العظمى إذ زلت قدماه من ذروة الجبل الشاهق وسقط إلى هاوية فتوفي على الأثر وكان قد بلغ الثامنة والأربعين من عمره حين قضى نحبه.