مجلة الرسالة/العدد 189/في الجامعة المصرية
مجلة الرسالة/العدد 189/في الجامعة المصرية
كرسي خاص لدراسة الأدب المصري الإسلامي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قرأت مع الغبطة نبأ ذلك الاقتراح الجليل الذي تقدم به صديقي الأستاذ العميد الدكتور طه حسين إلى مجلس إدارة الجامعة المصرية بوجوب إنشاء كرسي خاص للأدب المصري الإسلامي؛ وهو اقتراح لا ريب أن سيلبيه المجلس الجامعي الموقر، وسيلقي بلا ريب تأييداً حاراً من كل أولئك الذين يقدرون تراث التفكير القومي، ويعتزون به، ويتوقون إلى بعثه وإحيائه واستعراض نفائسه، بعد أن طال الأمد على إغفالها ونسيانها.
ولقد حاولت منذ أعوام أن الفت النظر إلى وجوب العناية بدراسة تأريخ مصر الإسلامية وآدابها، وحاولت جهدي أن أحث الشباب المتأدب على قراءتها ودراستها، وكان من بواعث دهشتي أن الجامعة المصرية الفتية لم تفكر منذ قيامها في إنشاء كرسي خاص لتأريخ مصر الإسلامية، وكرسي آخر لآدابها إلى جانب ما أنشأته من كراسي خاصة للتأريخ الأوربي والآداب الفرنسية والإنكليزية؛ فإذا كان الأستاذ العميد يتقدم اليوم باقتراحه بإنشاء كرسي خاص للأدب المصري الإسلامي فهو إنما يعبر في ذلك عن أمنية قديمة لنا جميعاً، والجامعة إنما تعمل بتحقيقها على استدراك نقص في دائرة الثقافة القومية كان خليقاً أن يستدرك منذ بعيد
والواقع أن الأدب المصري الإسلامي لم ينل في عصرنا شيئاً من العناية التي هو حقيق بها، في حين أن كثيراً من نواحي الأدب الأخرى من شرقية وغربية تنال من عنايتنا أوفر حظ؛ وما زال الأدب العربي يقدم إلينا في صورته العامة ويمثل لنا بنوع خاص في الأدب العباسي، وقلما نعني بدراسة نواحيه الخاصة، بل إن الشباب المتعلم ليرغب اليوم عن الأدب العربي كله ويتجه شطر الأدب الغربي، ويعرف عن تطورات الأدب العربي وخواصه؛ ويعرف من شخصيات الآداب الأوربية وآثارها ما لا يعرف عن شخصيات الأدب العربي وآثارها؛ وإذا كانت ثمة أقلية من الشباب المتأدب تعنى بالأدب العربي عل وجه التعميم، فهي قلما تعنى بدراسة شيء من تراث أدبنا المصري
ونحن نعرف الأسباب التي يرجع إليها هذا الشذوذ في ثقافتنا الأدبية وهذا الانصراف عن تراثنا العربي وتراثنا المصري بنوع خاص؛ وهي أسباب سياسية واجتماعية لا نرى محلاً لاستعراضها في هذا المقام؛ بيد أنه يجدر بنا أن نشير هنا إلى سبب مادي واضح، هو أننا لم نوفق حتى اليوم سواء في برامجنا الدراسية أو في بحوثنا الأدبية إلى تقديم الأدب العربي في مثل تلك الصور الأنيقة الشائقة التي يقدم بها الأدب الغربي إلى قرائه؛ ومن ثم كان انصراف الشباب عن الأدب القومي إلى صنوف منوعة من الأدب الغربي يجد في قراءتها كثيراً من المتاع العقلي، فيؤثرها بعناية وفراغه، ولا يستطيع أن يتذوق بجانبها شيئاً من ذلك التراث الذي ما زال يغمره القدم وما زال يقدم إليه في صور العصور الوسطى
وإذا كنا قد دعونا منذ أعوام إلى العناية بدراسة الأدب المصري الإسلامي، وإذا كنا نرى وجوب التخصص في دراسة هذا الادب، فليس ذلك فقط لأن البواعث القومية تدعو إلى مثل ذلك في كل أمة حية تشعر بماضيها وتعتز بتراثها القومي، بل لأن هناك أيضاً من البواعث العلمية والثقافية والتاريخية ما يدعو إلى اعتبار الأدب المصري الإسلامي وحدة أدبية مستقلة بين تراث الأدب المصري الإسلامي وحدة أدبية مستقلة بين تراث الأدب العربي العام، تستحق أن تدرس على وحدة؛ وأن تدرس على حدة؛ وأن تدرس خواصها وتطوراتها دراسة خاصة، كما يدرس الأدب العباسي أو الأدب الأندلسي
بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن الأدب المصري الإسلامي يستأثر بمميزات خاصة قلما توجد في فرع آخر من الأدب العربي؛ نعم إن الأدب العباسي والأدب الأندلسي، وأدب الشام، وأدب شمال أفريقية يمتاز كل منها بمميزاته الخاصة، من إقليمية، واجتماعية وسياسية، ولكن الأدب المصري فضلاً عن احتفاظه بمثل هذه المميزات العامة يمتاز أيضاً بطابعه المصري العميق؛ وتبدو هذه الخاصة واضحة في كل فنونه ومراحله، وتكاد تغلب على كل خواصه الأخرى؛ وذلك يرجع إلى عوامل تاريخية وثقافية خاصة؛ فقد اتخذت الحضارة الإسلامية في مصر طابعها الخاص؛ وكان قيام الأزهر بالقاهرة منذ منتصف القرن الرابع عاملاً جديداً في توكيد هذا الطابع الخاص للأدب المصري؛ ولما انهارت الخلافة العباسية في المشرق وفرت العلوم الآداب الإسلامية أمام الغزاة البرابرة من السلاجقة والتتار، تبوأت مصر زعامتها الفكرية في المشرق، ولبثت القاهرة بجامعتها الكبرى، ملاذ التفكير الاسلامي، حتى الفتح التركي؛ وفي جميع هذه المراحل كان الأدب المصري الإسلامي يحتفظ بجميع مميزاته وخواصه في جميع مناحي التفكير، في الشعر والأدب والتاريخ والعلوم والفنون؛ وإذا كان الأدب المصري قد تأثر في العصور ببعض العوامل الخارجية، سواء من المشرق أو المغرب، فأنه لم يفقد بالأخص شيئاً من طابعه المصري العميق
ويبدو هذا الطابع المصري الخاص لأدبنا الإسلامي في تراثنا الفكري بأوضح صورة؛ ففي الرواية والتأريخ، وفي الشعر والنثر. وفي أساليب والتفكير والكتابة، نلمس هذه الخاصة ولا سيما في الشخصيات والآثار النموذجية؛ فأنه يصعب مثلاً أن تجد بين شعراء العربية في الأمم الأخرى، شاعراً مثل البهاء زهير، أو ابن نباتة؛ فهذان شاعران مصريان روحاً ومعنى، يمثلان مصر أقوى تمثيل وأصدقه، ومن النادر أن تجد بين شعراء العربية من يحمل الرسالة القومية بمثل ما يتجلى في شعرهما من إخلاص وقو ة في التعبير عن الروح القومي وكل خواصه ومميزاته؛ كذلك ينفرد الأدب المصري بنوع من أدب الموسوعة أو (الأدب الانسيكلوبيدي، ولدينا من ذلك آثار تعتبر بحق نماذج فريدة مثل نهاية الأدب للنويري، ومسالك الأبصار للعمري. وصبح الأعشى للقلقشندي، وهي آثار ليس لها نظائر من حيث تنوعها وطابعها العام، وتخصصها مع ذلك فيما عرضت إليه؛ وانفردت الرواية المصرية الإسلامية أيضاً بمميزات خاصة تستحق أن ندرس على حدة، فأليها يرجع الفضل مثلاً في ابتكار فن الخطط والآثار، الذي يقوم على استعراض تأريخ المجتمع والحضارة إلى جانب تاريخ الدول، ونستطيع أن نقول بحق أنه لا يوجد بين آثار الرواية الإسلامية كلها أثر كخطط المقريزي في طرافته وقيمته الاجتماعية والتاريخية؛ وهذه أمثلة قليلة من كثيرة نستطيع أن ندلل بها على ذلك الطابع القومي الخاص الذي يمتاز به أدبنا المصري الإسلامي على غيره من آداب الأمم الإسلامية الأخرى
كذلك يجب أن لا ننسى أثر الأزهر في تكوين ذلك الطابع الخاص؛ وقد لبث الأزهر قروناً ملاذ العلوم والأدب في مصر الإسلامية؛ وأثره في تكوين تراثنا الفكري أعظم من أن نحيط به في مثل هذا المقام، وهو أثر يستحق أن يدرس لذاته ولأهميته وإذا كلن الأزهر نفسه أحق بأن يدرس تأريخه العلمي الحافل؛ فانه من المعقول أيضاً أن تكون رسالة الأزهر في ماضيها وحاضرها موضعاً للدراسة المستفيضة في استعراض مراحل الأدب المصري الإسلامي التي تعني الجامعة المصرية بالبحث في إنشاء كرسي خاص لها؛ بل يلوح لنا أن مثول الأزهر في تاريخنا الفكري بمثل هذه القوة من العوامل الأدبية الخطيرة التي تملي بضرورة إنشاء هذا الكرسي الخاص
وقد كنا نود أن تعني الجامعة المصرية إلى جانب عنايتها بإنشاء كرسي للأدب المصري الإسلامي بإنشاء كرسي آخر لتأريخ مصر الإسلامية؛ فقد انقضى عصر طويل لم يحظ فيه تاريخنا الإسلامي بما يجب من الدرس والعناية؛ ونحسب أن العوامل السياسية التي كانت تملي من قبل بإسدال الستار عن ماضينا وعلى ذكرياتنا القومية المجيدة. وبتصوير مصر في جميع مراحل تاريخها أمة مستعبدة، لم تذق في ماضيها الطويل الحافل طعم الحرية والاستقلال قد أنقضت؛ ونحسب أن الوقت قد حان لأن يعرف الشباب المصري عن تاريخه القومي على الإقلال مثلما يعرف عن تاريخ الأمم الغربية الذي تسخو برامجنا التعليمية في تلقينه للطلاب، وأن يرفع عن تاريخنا ذلك الستار الذي أسدلته يد الاهواء، وأن نستعرض ذكرياتنا القومية المجيدة على ضوء البحث المنزه، فيكون لنا منها غذاء قومي حقيقي، يخلق بالعصر الجديد الذي تستقبله مصر، فالتاريخ القومي في جميع الأمم الحية عنصر هام في تكوين الشعور الوطني وفي تغذيته وإذكائه
فالمشروع الجليل الذي يتقدم به اليوم الأستاذ العميد إلى مجلس الجامعة المصرية إنما تملي بتحقيقه بواعث علمية وقومية معاً؛ وما نحسب المجلس الموقر إلا سيقدر هذه البواعث قدرها وسوف يكون إنشاء الكرسي المنشود حادثاً علمياً في تاريخ برامجنا الدراسية؛ وفي اعتقادنا أن الجامعة ستفهم مهمة هذا الكرسي بأوسع معانيها، فتجعل منه بداية حسنة لدراسات مصرية إسلامية شاملة فيما بعد، وسوف يكون لهذه الدراسات أكبر الأثر في إحياء تراثنا الفكري، وسيكون لها بالأخص أكبر الأثر في التدليل على أهميته وعلى قيمته التي طمستها عصور طويلة من النسيان والنكران
محمد عبد الله عنان