مجلة الرسالة/العدد 188/دمعة وفاء على المرحوم الأستاذ غانم محمد
مجلة الرسالة/العدد 188/دمعة وفاء على المرحوم الأستاذ غانم محمد
بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته
للأستاذ زكي نجيب محمود
أحقاً يا غانم حم القضاء وقام فيك الرثاء؟ أحقاً طاح بدوحك العاتي منجل الفناء؟ وا فجيعتاه؟ قم إذن يا صاح فاهتف بالمحاجر أن تسح الدمع هتوناً سخيناً، وبالحناجر أن تسكب ذوب النفوس أنيناً حزيناً.
عجباً! آستطاع الدهر في لمحة من الزمن، أن يطوي الشمس في ظلمة الرمس؟ آستطاع الموت بلفظة في لحظة أن يدك طوداً كان شامخاً بالأمس؟ أفي اليوم الذي نرجو للأمة فيه غانماً وغانماً، يهوي مخلب الموت، بين أشاجعه رعب القدر، وننظر فإذا غانمنا الواحد قد افتقدناه في مثل اللمح بالبصر؟ حنانيك يا رباه! أأصبت بالمنية غانماً أم أصبت عشيرة في رجائها؟ أرميت بالبلية رجلا أم رميت الرجولة في سويدائها؟ فما كان فقيدنا في عداد القوم واحداً كسائر الآحاد، بل كان ينبوعاً للرجولة دافقاً، وقلباً للوطنية خافقاً، يمتلئ همة حتى ليسكب الهمة في بنيه، ويشتعل حماسة حتى ليبث الحماسة في مواطنيه، لا يدخر في سبيل ذلك ما وسعه من جهد اللسان والقلم. فهأنذا أطوي الليالي القهقرى أعواما ثلاثة، فإذا بالمطبعة العربية تذيع في الناس كتاباً لا يخطف العين مظهره، ولا يضج به في الناس منشئه ومسطره: جان دارك تأليف غانم محمد.
أقبلت على الكتاب حينئذ، ولم أكن أدري عن صاحبه إلا أشتاتاً منثورة، فحسبته بادئ الأمر كتابا من الكتب أخرجه للناس كاتب من الكتاب، فما هي إلا صفحات عشر أتلوها حتى همست لنفسي قائلا: كلا! تالله إن الرجل لكاتب بارع وأديب قدير، اختلجت في نفسه الفكرة عنيفة جبارة، تنشد التصوير والتعبير، فاستجاب لدعوة القلم وكأنه فولتير يثور فيسطر فيثير. نعم لم تكن إلا صفحات عشرا أتلوها حتى أيقنت أن الكاتب منتش مخمور، قبس من صحائف التاريخ هدى ونوراً ليلقيه في جوانحنا لهباً مسعوراً! فما كتابه هذا عن جان دارك إلا منصرف تدفقت فيه أواذي نفسه المضطربة المصطخبة في بيان رائع خلاب. كأنها وحي النبوة يستحيل إلى بلاغ في كتاب.
(استمع إليه كيف يستهل كتابه: لم اكتب مذ عرفت أناملي قبض القلم وتحريكه، ولم تنطق شفتاي مذ انفرجتا للنطق، ولم يخفق قلبي، ولم يجش وجداني وتنشرح جوانحي، منذ أن خرجت إلى الدنيا، لأمر من الأمور هو أسمى وأرفع واشرف من الغرض الذي أرمي إليه بموضوع اليوم)
ثم أنفذ إلى الختام وأنصت إليه ماذا يقول قبيل أن يضع القلم: (وإني أختم هذا الكتاب مترسماً أثر جان في دعوتها وحياتها وصفاتها، وكلي أمل خالص أن تبعث قراءة قصتها في قلوب القارئين نور الأيمان الصادق ونشوة الوطنية الحقة. . . إن ما حققته جان في مقدورنا أن نحققه، إذا ما ارتفعت بنا، كما ارتفعت بها هي من قبل، أجنحة الوطنية والدين. . . أيتها الفتاة المنقطعة النظير! انفخي فينا من روحك، وبثي فينا من حماستك، لكي نحيا حياتنا ونموت في سبيل الله والوطن!!)
وإذا أنت مضيت بين تلك الفاتحة وهذه الخاتمة، لم تقرأ أسطراً كالأسطر، بل أحسست في الكلم حرارة وقوة وحياة، فهو ثائر حيناً شاعر حيناً، إذا جالت جان دارك في أجنادها زأر القلم في يده زئيراً، وإذا جلجلت جان دارك في أصفادها صرّ القلم من الأنين صريراً. وهكذا صور تتلوها صور، أبدعها صناع فسواها، وألهبها من شعوره فأذكاها. حتى لتقرأ الكتاب وكأنما تخوض في أتون مستعر، أو كأنك تنصت إلى صوت من السماء يهتف بك: تلك جان دارك في فرنساها، وهأنت ذا في مصرك، فماذا أنت صانع ليذكو شعورك الخابي، وينهض بلدك الكابي؟! وهذا النداء في ذلك الحين ما كان ابلغه من نداء حيث كادت تذهل أنفس عن الطموح إلى السماء، فانحرفت إلى الأرض راضية من الغنيمة بالحب والماء!
لم أكد أفرغ من قراءة الكتاب عندئذ حتى حملت قلمي على وهنه وعثاره. ودعوت للكتاب (في الرسالة) لأني آمنت أن الدعوة له صيحة وطنية واجبة، وكلما ازددت للكتاب قراءة ازددت يقيناً بما قلته إذ ذاك من أن غانماً (اخرج بكتابه للناس درة من أثمن ما تحوي لجة التاريخ من درر، ونشر صفحة من أسطع ما طوى الدهر من صفحات، ومن إنه بهذا الكتاب قد أذاع في الناس مثلاً أعلى للتضحية والفداء، ونموذجاً سامياً للوطنية المشتعلة الصادقة ممثلة في جان دارك). وما أزال عند كلمتي التي ختمت بها مقالي من أن غانماً (قد وفق في التصوير توفيقاً بلغ حد الكمال، وأن ليس هذا الكتاب واحداً من الكتب يتلى ثم يطوى وكأنه لم يكن، إنما هو فيض من الشعور القوي النبيل سيغمرك ويحتويك حين قراءته وسيطبعك بطابع هيهات أن يزول أثره ما بقيت على الدهر إنساناً)
ذلكم هو غانم الذي التقيت به في كتابه منذ أعوام ثلاثة لقاء قارئ بكاتب، ثم التقيت به منذ أشهر ثلاثة لقاء روح بروح، ثم افترقنا فراق الأبد، بعد أن خلف لنا حرارة نفسه وحلاوة جرسه في كتابه الخالد
فرحمة الله ورضوانه على الفقيد الكريم
زكي نجيب محمود