مجلة الرسالة/العدد 188/دعابة الجاحظ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 188/دعابة الجاحظ

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 02 - 1937



بقلم محمد فهمي عبد اللطيف

كان أبو عثمان الجاحظ لوقته شيخ الأدب، وفخر العرب، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدل، وكان إلى جانب هذا كله ظريفاً مرح النفس، يحرص على النادرة ويحتفل بها، ولو كان فيها ما ينال من شخصه، ويمسه في سمته. ولما كان الأدباء قد أكثروا القول عن الجاحظ في أدبه وفنه، وعلمه وتحقيقه واقتداره على الكلام والجدل، فقد رأينا أن ننظر إليه في دعابته ومرحه؛ وإنها لناحية للباحث فيها مراد ومنزع، وللقارئ منها متاع ولذة. ولعل من الخير قبل الإمعان في البحث أن ندحض وهما يقوم في رؤوس بعض الناس إذ نجدهم ينكرون ذلك على الجاحظ وأضراب الجاحظ، لأن كرامة الأديب أو العالم في رأيهم أكبر من أن تكون مصدر عبث ومجانة، وأرفع من أن تبتذل في الضحك والتنادر، وقديما قيل: ليس لمزاح مروءة، ولا لممار خلة. ولقد رأيت ابن قتيبة لما أراد أن يثلم الجاحظ لم يدخل عليه إلا من هذه الجهة إذ قال: إنه كان يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث. وفات هؤلاء الناس أن الإنسان حيوان ضاحك باك بطبعه، وأن الله قد خلق فيه الضحك قوة تعينه على استساعة هذه الحياة المريرة، كما خلق فيه البكاء قوة تقف به موقف العظة والاعتبار. وقد روي فيما روي عن الحسن البصري أنه قال: حادثوا هذه القلوب فأنها سريعة الذبول، وارعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنكم إن لم ترعوها تنزع بكم إلى شر غاية!! ومما جاء في التاريخ أن عبد الله بن طاهر جلس مجلسا أنصف فيه من وجوه القواد، وأمراء الأجناد، وضرب العناق، وقطع الأيدي، وردّ كبار المظالم، ثم قام وقد دلكت الشمس، فتلقاه الخدم، فأخذ هذا سيفه، وهذا قباءه، وهذا إزاره، فلما دخل دعا بنعل رقيقة فلبسها ثم رفع ثوبه على عاتقه وتوجه نحو البستان وهو يتغنى:

النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم

قال عيسى بن يزيد: وكنت جريئا عليه، فجذبت ثوبه من عاتقه وقلت له: أتقعد بالغداة قعود كسرى وقيصر، ثم تعمل الساعة عمل علوية ومخارق؟! فردّ ثوبه على عاتقه وهو يقول: لابد للنفس إن كانت مصرفة ... من أن تنقل من حال إلى حال

ومن أولى - رعاك الله - بأن يصرف نفسه من حال إلى حال، ومن أحق بالاسترواح والانشراح من ذلك العالم أو الأديب الذي يصهر ذهنه في خدمة الإنسانية، كالذبالة تضيء للناس وهي تحترق؟ وهل هو يفعل في ذلك إلا ما تقضي به إنسانيته، وتدفعه إليه طبيعته؟ فإذا طاب لنا أن نقف بهذا وأمثاله موقف التزمت والوقار في كل فترة من فتراتهم، فنحن في الواقع نجردهم من نصف إنسانيتهم ونعطل فيهم قوة خلقها الله لهم مباءة للرفاهية والراحة، بل نحن نبقي لهم حياة هي الكرب الآخذ بالخناق، والجحيم الذي لا يطاق (وإني لأعجب لبعض الناس أن تطرق إلى عقولهم تلك العقيدة الغريبة وهي أن حياة الأبرار في الجنة، أرفع وأشرف من أن يدخلها الضحك، ويكون فيها التنادر. ولقد رأيت كثيرا من هؤلاء يهيئون نفوسهم في هذه الحياة الدنيا لاستقبال تلك العيشة العابسة التي يزعمونها في دار النعيم، فهم يطردون من صدورهم كل ميل إلى السرور والانشراح، ويكشحون عن صحائف وجوههم كل لمحة من سنا البشر والطلاقة. وكثيرا ما أصادف في غدواتي أحد هؤلاء العابسين فينظر إلي كمن عرفني نظرة موحشة شزرة، كأنما هو قاضٍ سماوي قد هبط إلى هذا العالم ليحكم بأقصى العقوبة على كل من يعرف، ومثل هذا الرجل يقطع ولاشك ذنب هرته إذا هو صادفها تعبث به، فبالله سله من علم الهرة أن تعبث بذنبها؟!.)

هذا وللجاحظ في هذا المعنى كلام حسن هو من أقوم ما قيل في بابه، وأدق ما أتى في معناه، وإنما ساق الرجل الحديث في ذلك وهو ينضح عن نفسه، ويدحض شبهة كالتي نعالجها، إذ خاف - وهو العالم الأديب - أن يتهم بالنزق والسفه من أجل ما يستروح به من المزح والفكاهة، وبسوقه من الطرف والتنادر. والظاهر أن مسألة الجد والمزاح كانت من المسائل التي شغلت الأذهان في عصر الجاحظ، فكثر حولها القول، وطال فيها الخلف والتضارب، وما كان ذلك إلا نتيجة لازمة لتلك الحياة الفكرية التي كان عليها القوم، وهي حياة مضطربة لم تأخذ وضعها من الاستقرار بعد، ولم تكن قد خلصت من شوائب الأخذ والرد، فهناك علماء الفقه والسنة مازالوا يتلمسون نصوص الشريعة يطبقونها على ما أمامهم من مظاهر وظواهر، وتبيان ما هو حلال منها وما هو حرام، والى جانب هؤلاء جماعة يتولون الوعظ بأحوال السابقين، والزجر بالقصص والآثار، وإن فيهم من لا يتورع عن التزيّد والافتراء، والحشو والكذب، لتأييد أمر له فيه غرض ومآرب. وثمة عناصر فارسيةً من الشعراء والأدباء لا يتحرجون من اقتحام الدين والخروج على الأوضاع، فكل همهم إشباع الجسد، وإمتاع القلب. وفيهم من يذهب في التظرف مذاهب، فكان من الطبيعي أن تقوم مسألة (المزاح) عند كل فريق من هؤلاء باعتبار، وأن يجري فيها القول على خلافٍ، إذ لكل هوى ومنزع، وقدعرض الجاحظ أقوالهم أجمل عرض فقال: (وقد ذهب الناس في المزاح إلى معانٍ متضادة وسلكوا منه في طرق مختلفة، فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد، وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان) وبعد أن أتى الجاحظ على جمل هذه الأقاويل أخذ في إعلان رأيه فقال: (ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة، كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة المزح، وقد يكون الكلام في لفظ الجد ومعناه معنى الهزل، كما يكون في لفظ الهزل ومعناه معنى الجد، ولو استعمل الناس الدعابة في كل حال، والجد في كل مقال، وتركوا التسجيح والتسهيل، وعقدوا أعناقهم في كل دقيق وجليل، لكان السفه صراحاً خيراً لهم، والباطل محضا أردّ عليهم، ولكن لكل شيء قدر، ولكل حال شكل، فالضحك في موضعه، كالبكاء في موضعه، وكذلك التبسم والقطوب، والمنع والبذل، فأن ذممنا المزاح ففيه لعمري ما يذم، وإن حمدناه ففيه ما يحمد، وفصل ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع، وحاله بحال السخف أشبه، فأما أن يذم حتى يكون كالظلم، وينفى حتى يصير كالغدر فلا، لأن المزاح مما يكون مرة قبيحاً ومرة حسنا، ولا يكون الظلم إلا قبيحا، وبعد: فمن حرّم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة، وفرع من فروعه الطلاقة، وقد أتانا رسول الله بالحنفية السمحة، ولم يأتنا بالانقباض والقسوة. .)

ولاشك أن الجاحظ في رأيه هذا قد وقف موقف العدل والأنصاف، وقال قولا هو غاية القصد. ولقد أحسن الرجل كثيراً إذ راعى (المقام) في حكومته بين الجد والمزاح، فقال بأن (لكل شيء قدر، ولكل حال شكل، فالضحك في موضعه، كالبكاء في موضعه، وكذلك التبسم والقطوب، والمنع والبذل) نقول: بل وكذلك كل شأن من شؤون هذه الحياة، وما أحسب أحداً في الناس يجهل أن وضع الندى في موضع السيف مضر، كوضع السيف في موضع الندى؛ ولكن قل في الناس من يتعرف الوضع المناسب، ويتبين المقام المشاكل، وما ذلك في الواقع إلا مسبار الذكاء، ومحك البراعة، وهل التنادر يقوم إلا على قوة المفارقات، والتمييز بين المناسبات؟ وهل الرجل الذي يلقي بالنادرة في موقف العظة والاعتبار، أو يخلق الضحكة ينطلق بها فمه بين مظاهر الأسى والحزن، ألا نزق طائش، بل قل سفيه لا يحس بالواجب، ولا يقدر العواقب، وسرعان ما ترمقه العيون بالنظر الشزر، ويقعد في الجالسين مقعد الثقيل المملول، وربما كانت نادرته حلوة رائعة، وضحكته رقيقة حسنة، ولكنه ألقى بها في المقام الكز، واختار لها الموقف الخشن!!

ولا عاب في المزح عند الجاحظ إلا أن الخطأ إليه أسرع، وحاله بحال السخف أشبه، ومن ثم فهو يرى أن من الصون للأديب أو العالم أن يكون فيه على قصد، وأن يعالجه على قدر، هو قدر الاسترواح والانشراح. ولقد أوضح هذه الناحية إذ يقول: (والمزاح باب ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان، وهو باب متى فتحه فاتح، وطرق له مطرق، لم يملك من سده مثل الذي يملك من فتحه ولا يخرج منه بقدر ما كان قدم في نفسه، لأنه أصل بناءه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلا ما سخف، ومن شأنه التزيد، وأن يكون صاحبه قليل التحفظ، ولم نر شيئاً أبعد من شيء ولا أطول له صحبة. .، من الجد والمزاح، والمناظرة والمراء. . .)

وهذا كلام يتفق فيه الجاحظ هو وصاحب حديث المائدة، إذ يقول في كلام له عن الجد والمزاح (أنا لا أمقت منكم ميلكم إلى الضحك، ولا أضن عليكم بالكلمة تضحككم متى قدرني الله على ذلك، فأما أن تطلبوا إلي ألا أقول إلا ما يضحك، وإلى أنفسكم ألا تفعل شيئاً غير الضحك، فذاك مخالف لسنة الطبيعة، وجدير بمن هذا شأنه أن ينقلب قرداً لتوّه وساعته. . . ولذا كان من البلية على الكاتب أو الشاعر أن يسترسل في باب المضحك، فإنه يعوّد الناس بذلك ألا ينتظروا منه إلا ما يضحك وألا يعرفوه إلا مزاحاً، فهم يضحكون معه مادام يضحكهم، فإذا أراد أن يجد وشرع ينطق بالعلم والحكمة ضحكوا منه وهزئوا به). ثم ينظر صاحب حديث المائدة إلى الموضوع من ناحية لم يتمعنها الجاحظ فيقول: (على أن هناك سبباً أغمض من ذلك، ألا تشعر أنك ترى نفسك فوق كل إنسان يتصدى لإضحاكك، سواء بحركات جسده أو بحركات قلمه؟ بل ألا تشعر بأنك تفيض عليه من برك وإحسانك إذ تمن عليه بتقبلك منه الوثبات الحقيقية أو الشعرية!!. فإذا لزم أدبه، ووقف عند حده فخيراً يفعل، وإذا حاول أن يعلو إلى مقامك الرفيع، فأخذ يدلي إليك من منبر عظته نوابغ الحكم، فبئس ما صنع، وساء ما أتى، وهيهات أن يقوم عندك مقام الواعظ، أو يفوز منك بنظرة الإجلال التي هو جدير بها لعلمه وأدبه!).

وما كان الجاحظ من الدعابة والمزح، إلا في ذلك المقام الكريم الذي اتفق عليه هو وصاحب حديث المائدة، فتجده يستروح بالنادرة، ويتفكه بالدعابة، ولا يضن على السامر بالكلمة تصفق لها القلوب، وترتاح لها النفوس. وإنه في أبحاثه وكتاباته ليبتدع النكتة ابتداعاً، ويحتفل بالنادرة يسوقها إلى القارئ، ولكن كل هذا في المقام المناسب، وعلى القدر اللازم، فما تعدى طوره، ولا خرج عن قدره، ولا أستذل كرامته بالتزيد والإمعان في المجانة. وإذا كان ابن قتيبة قد عاب الجاحظ بالعبث والضحك، فما ابن قتيبة إلا مسرف في هذا الاتهام، وإنه ليطعن الجاحظ في غير مطعن، بل أنه ليريد أن ينكر على الرجل طبيعته البشرية، وكأنه كان يحمله له ضغناً، ولماذا ينكر ابن قتيبة على الجاحظ ما استباحه هو لنفسه في عيون الأخبار من سرد المضاحيك والمعائب، حتى ليقول في مقدمة ذلك الكتاب بلهجة صريحة: (وسينتهي كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به، واعلم أنك إن كنت مستغنياً عنه بتنسكك، فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك، فيهيأ على ظاهر محبتك! ولو وقع فيه توقّي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل عليه معك. . .)، وأحب أن يتأمل القارئ قوله - شطر بهائه وشطر مائه - فيا ليت شعري إذا كان توقّي المزاح والفكاهة سيذهب بالبهاء والماء، فماذا يبقى بعد!؟.

(للكلام صلة)

محمد فهمي عبد اللطيف